البلدان العربية والتجاهل المستمر للسياحة العلمية

eue9qbetrxsnvfxtmgd5sy

يستخدم الغرب تاريخهم العلمي في الترويج لما يعرف بالسياحة العلمية؛ فأنشأت إنجلترا على سبيل المثال ما يسمى بـ”المؤسسة الملكية”، ومن خلالها تسوق متاحفها العلمية وتعرض معلوماتها وأبحاثها واكتشافاتها القديمة والحديثة، وتشرح لرواد هذا النوع من السياحة، كيف ساهمت بريطانيا في التقدم العلمي الذي غزا العالم في القرنين الماضيين، بما يطرح السؤال: هل لا تملك الأمة العربية والإسلامية أي إسهامات في الحضارة الإنسانية حتى لا تسوقها على هذه النحو! 

مقومات السياحة العلمية في العالم العربي  

يمتلك العرب والمسلمون، كنوزًا يبدو أنهم لا يعرفون قيمتها، خصوصًا أنها ساهمت منذ بدء الخليقة في دفع الإنسانية للأمام؛ فكما يمتلك الغرب أينشتاين وداروين وغاليليو ونيوتن، وغيرهم ممن يتم تسويق أفكارهم في متاحف علمية خاصة تدر ملايين الدولارات سنويًا، يمتلك أيضًا العرب والمسلمون، علماءً بجميع المجالات، ومنهم من يتم تعريفهم في أوروبا نفسها بعلماء عصور الدول الإسلامية. 

قد تحتار وأنت تقلب في هذه الصفحات، وتذهل من استثمار الغرب لكل شيء حتى التاريخ، بينما في البلدان الإسلامية، نتجاهل توقير ابن بطوطة وابن الهيثم وابن النفيس ويعقوب ابن اسحق الكندي ومحمد الفازاري وحنين ابن إسحاق وابن البناء المراكشي وأبو إسحق البطروجي وابن ماسويه وأبو كامل شجاع وأبو بكر الرازي وابن سينا وبنو موسي بن شاكر، وغيرهم الكثير. 

كان هؤلاء آباء علوم واختراعات وأفكار، وساهموا بشكل مباشر في دفع الإنسانية للأمام، والغريب أن هناك مقومات كبيرة لمثل هذا النوع من السياحة في البلدان العربي، ولكن لا يتم تسويقها على النحو الأمثل، ولا يتم ضمها لهذا النوع من اهتمامات الباحثين عنها عبر تسويق محترف.

وتملك مصر على سبيل المثال العديد من الجواهر العلمية المصغرة بما يمكّنها من إنشاء نواة للسياحة العلمية قد تكون الأولى من نوعها في المنطقة؛ فالبلد الذي يمتلك إسهامات علمية لكبار علماء العالم المعاصرين، من أمثال أحمد زويل رغم رحيله ومصطفى مشرفة والدكتور أحمد زكي والدكتور أحمد رياض تركي، وجميعهم لهم تحف إنسانية نادرة، منها على سبيل المثال الأوراق والمذكرات التي دونوا فيها أبحاثهم التي أبهرت العالم، وبالتأكيد سيكون هناك من يرغب في معرفة، كيف وصل زويل إلى النانو تكنولوجي؟ وماذا عن شكل طريقته في تدوين هذه الابتكارات المذهلة؟

في نيويورك، هناك متحف هو الأول من نوعه في الولايات المتحدة عن الرياضيات، وموجه للأجيال الصغيرة ولا يحتاج إمكانات مادية كبيرة، فهل نستطيع تقليد تلك الخطوة ثم نبدع على طريقتنا؟

هذه الهدايا الثمينة يراها الدكتور محمد زهران العالم المصري وعضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك الذي طالب من قبل بتوطين السياحة العلمية في مصر والبلدان العربية والإسلامية، ليست فقط أمرًا يستهدف السياحة وجلب المال، ولكنه مطلوب بشدة لزرع هويتنا في النشء الذين يكبرون ويتخرجون من الجامعات، ومعظمهم لا يعرف عن هؤلاء كثيرًا، وطالب بإعادة توثيق المناظرات التي حملتها صفحات الصحف، بين الدكتور مشرفة والدكتور طه حسين عن العلم والأدب وأهمية كل منهما للآخر.

يرى زهران أن هناك أولوية قصوى لوضع هذه المناظرات على حائط كبير في متحف ما، ثم يتطوع بعض الأساتذة الكبار في الجامعات بإعطاء محاضرات كل عن مجال تخصصه، ولو مرة واحدة في الشهر، لتعزيز الثقافة العلمية بين العامة.

في نيويورك، هناك متحف هو الأول من نوعه في الولايات المتحدة عن الرياضيات، وموجه للأجيال الصغيرة ولا يحتاج إمكانات مادية كبيرة، فهل نستطيع تقليد تلك الخطوة ثم نبدع على طريقتنا؟ يتساءل زهران مرة أخرى، وهو يسوق للفكرة التي يقتنع بها ويراها في كل مكان يذهب إليه بالدول الغربية. 

ماذا يعلم الغرب عنا؟ 

يعرف الغرب جيدًا أن المنطقة العربية والشرق الأوسط الذي يتسيد فيه الإسلام العلامة الكاملة، هو مركز الحضارات القديمة، كان قلب العالم، وما زالت فيه العديد من مراكز الجذب السياحي لاستعراض ثقافته القديمة كالحضارة الفرعونية والأشورية، وما يعرف بالسياحة الدينية التي تدخل في الكثير من الصفات والاختصاصات مع السياحة العلمية.

الكثير من الشباب العربي المثقف، أصبح يولي ماليزيا وجهته ويسافر إليها لأغراض السياحة والتعرف على مقوماتها العلمية، ليعود هؤلاء سفراء لماليزيا، وهم أهم مسوقي جامعاتها التي أصبحت على درجة كبيرة من التطور والتحضر بما يضاهي أكبر جامعات العالم 

هذه الحضارت التي يستهدفها السياح من جميع بلدان العالم، معروف عنها جيدًا أنها لم تكن يومًا معادية للآخر، وكانت دائمًا من أيقونات التسامح والحب، وإذا ما تم ترويج ذلك في النشرات الدولية المخصصة لهذا النوع من السياحة، ستعظم الاستفادة منها لمن لا يعرفها بالشكل الكافي، وهو الوعي الذي تفتقده الكثير من الدول العربية، رغم صعود بعض الدول الإسلامية والتفاتها لهذا المجال وعلى رأسهم “ماليزيا”.  

كانت ماليزيا أولى الدول الإسلامية التي نجحت في دفع الساحة العلمية للأمام، وجعلت من جامعاتها، منارة سياحية في قلب آسيا عبر تدشين المهرجانات العلمية التي يتوافد عليها سائحون من جميع بلدان العالم، بعدما نجحت في تسويق نفسها، كأحد أهم الدول الصاعدة التي تهتم بجودة التعليم في العالم. 

المثير أن الكثير من الشباب العربي المثقف، أصبح يولي ماليزيا وجهته ويسافر إليها لأغراض السياحة والتعرف على مقوماتها العلمية، ليعود هؤلاء سفراء لماليزيا، وهم أهم مسوقي جامعاتها التي أصبحت على درجة كبيرة من التطور والتحضر بما يضاهي أكبر جامعات العالم. 

السياحة الإسلامية العلمية.. كنوز لا تقدر بثمن 

في عام 2016، أصدر المؤشر العالمي للسياحة الإسلامية تقريرًا عن الدول الإسلامية التي لديها اهتمام بالسياحة التي تعتمد على البحث العلمي، وشمل البحث رصد لـ130 وجهة عالمية عربية وإسلامية، والمثير أن ماليزيا تصدرت أيضًا قائمة دول منظمة التعاون الإسلامي في هذا النوع من السياحة، وليس السعودية “بلد الحرمين الشرفين” التي حلت خلف تركيا وإندونيسيا وقطر والإمارات، رغم كل ما يشاع عن التزامها الديني والشرعي في المعاملات وأطر الحياة كافة. 

رغم هذا التطور اللافت في السياحة الإسلامية المرتبطة بشكل أو بآخر بالسياحة العلمية، فإن هناك تجاهلاً منظمًا في معظم الدول العربية الإسلامية، لتراث المؤرخين العرب والمسلمين الذين تركوا ثروات مكتوبة لهم لا تقدر بثمن ودونوا فيها رحلاتهم ونسجوا القصص عن أهل العالم القديم، وليس فقط على سبيل الرصد، بل كان لديهم تحليلات وتفسيرات لكل ما كان يدور وقتها بخط أيديهم، وقالوا الكثير عن عادات هذا الزمان، وجميعها أمور مرتبطة بالثقافة بشكل أساسي، ورغم ذلك لا تأخذ الاهتمام الكافي والمتخصص الذي يجعل منها واحدة من أهم السياحات العلمية المستهدفة من أنصارها. 

ويرى بعض المتخصصين أن السياحة العلمية الدينية يجب أن تستغل في التبادل المعرفي والثقافي والديني، وبعضهم يعتبرها عبادة محببة حث الإسلام عليها، الذي يدفع بأحكامه على التعلم والبحث والاكتشاف والاستطلاع، ويستندون في ذلك إلى الآية: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ”، وقوله: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

ويذهب بعض المشايح وعلماء الدين الإسلامي إلى ضرورة إلزام الحكام المسلمين، بتكثيف السياحة العلمية، ويعتبرون أن منها ما ينطوي على جوانب متعلقة بالسياحة الشرعية التي تستهدف زيارة أماكن حط الرحال فيها النبي محمد، حتى تترسخ في قلوب وعقول أطفال المسلمين، وتلقى لديهم تصورات كاملة عن البيئة التي نشأ فيها رسول الإسلام، فيتعلمون منها بديع صنع الله، حسبما يقول عبد المقصود باشا رئيس قسم التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر.

السياحة العلمية بجميع أوجهها، تعطي إشارات لبلدان العالم، عن استمرار نبض المجتمعات الأخرى

“باشا” الذي يجمع بين دراسة التاريخ والشرع، يعتبر أن السائح بمفهومه المعتدل يسعى خلال رحلاته إلى تعلم علوم عدة، بعضها يحرص على تعلمه والآخر يكتسبه، وقد تعلم السابقون من الرحلات والانتقال من بلد إلى آخر علوم الفلك والجغرافيا والبيئة والأحياء والصحة والتكنولوجيا، ويرى أستاذ الحضارة الإسلامية، أن الصحابة ومن سار على دربهم، كانوا يسافرون دائمًا من أجل العلم الشرعي وقصة الإمام مالك وهارون الرشيد عبرة. 

كان هارون الرشيد، قد سافر إلى المدينة المنورة واستهدف زيارة قبر الرسول، ومن هناك ذهب إلى المسجد النبوي الشريف، ليرى الإمام مالك وهو يدرّس العلم، فقال له: يا مالك، ما ضر لو جئتنا لتدرس العلم لنا في بيتنا، ليرد عليه الفقيه والعالم التاريخي: يا هارون، إن العلم لا يأتي ولكنه يؤتى إليه، فقال له: صدقت يا إمام دار الهجرة، وسوف آتي إليك في المسجد.

وكما حدث مع مالك كانت رحلات البخاري إلى إيران والعراق والحجاز والشام لجمع الحديث من مختلف العلماء في كتابه “الصحيح”، وهو ما يمكن القياس عليه حاليًّا بالسياحة العلمية كما يؤصل لها أستاذ الحضارة بالأزهر. 

السياحة العلمية بجميع أوجهها، تعطي إشارات لبلدان العالم عن استمرار نبض المجتمعات الأخرى، وإذا ما أراد العرب والمسلمون التخلص من الصورة الذهنية السيئة التي تشكلت عنهم، خاصة بعد النتائج الكارثية لصراعات الربيع العربي خلال السنوات الماضية التي وضعتهم في تصنيف المجتمعات الجاهلة، المدمرة فكريًا وأخلاقيًا وثقافيًا، عليهم بالالتفات والاهتمام بمن يبحثون عن المتعة والمعرفة والتعلم.