تعد منطقة الشرق الأوسط أكثر منطقة مضطربة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فلا تكاد تخلو سنة منذ ذلك الحين إلا وتشهد إحدى دول الشرق الأوسط حربًا أو اضطرابًا أو حصارًا، وتعد الولايات المتحدة أكثر الدول نفوذًا في هذه المنطقة منذ إزاحتها بريطانيا وفرنسا في خمسينيات القرن الماضي.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات في أزمان مختلفة على دول في الشرق الأوسط كان أولها العراق ثم إيران والآن تركيا، الأسطر التالية تقرأ في كيفية مواجهة هذه الدول العقوبات الأمريكية وكيف استطاعت مجابهتها؟
العراق.. أكثر الدول تضررًا من العقوبات الأمريكية؟
فرضت الولايات المتحدة ومجلس الأمن عقوبات شاملة على العراق عام 1991 إثر غزو العراق للكويت ورفضه الانسحاب منها، عقوبات استمرت لـ13 عامًا انتهت بغزو الولايات المتحدة العراق عام 2003 وإسقاطها نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وشملت العقوبات حينها مختلف القطاعات الاقتصادية والعسكرية والتعليمية، ما أدى بالعراقيين إلى مواجهة أسوأ كارثة إنسانية عاشها شعب في العصر الحديث.
كانت الولايات المتحدة عرّاب هذه العقوبات وتفننت في تطويق العراق وحصاره بكل وسيلة، ولعل العقوبات حينها لم تؤثر على النظام بقدر ما أثرت على الشعب الذي عاش حالة اقتصادية متردية، إلا أن العراق ورغم هذه العقوبات استطاع الصمود مدة 13 عامًا حتى عام 2003 تاريخ الغزو الأمريكي للبلاد.
العراق استطاع تدبير الاحتياجات الضرورية من خلال تشغيل المصانع والزراعة، إلا أن الحصار كان شديد التأثير على صحة الناس وحياتهم
يقول المحلل السياسي العراقي رياض الزبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إن العقوبات التي فرضت على العراق كانت شديدة جدًا، إلا أن النظام العراقي استطاع الصمود مدة ليست باليسيرة، وأضاف أن أكثر ما ساعد العراق حينها في مجابهة الحصار كان الإرادة السياسية التي أصرت على تشغيل المصانع وإعادة تأهيلها بعد الحرب، إضافة إلى الإنتاج الزراعي الوفير الذي كان يتمتع به.
ورغم أن العراق استطاع تدبير الاحتياجات الضرورية من خلال تشغيل المصانع والزراعة، فإن الحصار كان شديد التأثير على صحة الناس وحياتهم، بحسب الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي الذي أشار إلى أن العراق وبعد حرب الخليج الثانية، فقد أكثر من 50% من بنيته التحتية، والنظام السابق لم يستطع إعادة بناء جميع المصانع بسبب الحصار الذي فرض عليه ومنع مجلس الأمن استيراد قطع الغيار اللازمة.
العبيدي أشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن أكثر ما أثر فيه الحصار كان القطاع الصحي، فالعراق عانى حينها من نقص كبير في الأدوية والمستلزمات الطبية، موضحًا أنه حتى بعد اتفاقية النفط مقابل الغذاء والدواء التي أبرمت بين العراق والأمم المتحدة عام 1996، فإن مجلس الأمن استثنى حينها كثيرًا من أصناف المعدات والمستلزمات بحجة أنها مزدوجة الاستخدام.
يقول المستشار السابق في ديوان رئاسة الجمهورية الذي اشترط عدم كشف اسمه مقابل الحديث لـ”نون بوست” إن العراق استطاع الالتفاف على بعض العقوبات من خلال دول صديقة وخاصة الأردن، حيث كان للعراق تعامل غير مباشر مع المملكة الأردنية التي وفر من خلالها بعض التسهيلات المالية والبنكية، بحسبه.
كما أشار المصدر إلى أن النظام العراقي حينها، اعتمد على تجار عراقيين لتوفير بعض المستلزمات وقطع الغيار من خلال شرائها من الأسواق العالمية وتهريبها إلى البلاد، وفي ختام حديثه لـ”نون بوست”، أكد المصدر أنه ورغم كل الالتفاف الذي كان يقوم به العراق للحد من تأثير العقوبات، فإن وقعها كان كبيرًا جدًا على العراقيين وأثرت في كل مناحي الحياة.
إيران.. عقوبات أمريكية ومقاومة إيرانية
لعل العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران منذ سنوات قبل الاتفاق النووي الإيراني وبعد انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منه عام 2017، أثر على الإيرانيين بشدة، إلا أن وقع التأثير كان أقل حدة بكثير مما عانى منه العراق في حصاره.
وفي هذا الصدد، يشير الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن العقوبات التي فرضت على إيران لم تكن أممية ولم تكن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فإن إيران وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لها اليد الطولى في الاقتصاد العالمي، فطهران ومن خلال علاقاتها الجيدة مع روسيا والصين وغيرها من الدول، استطاعت توفير ما تحتاجه من معدات ومستلزمات صناعية واقتصادية.
العبيدي أشار إلى أن إيران يختلف حالها عن العراق، فالعراق شهد قبيل الحصار حربًا شاملة دمرت جزءًا كبيرًا من البنى التحتية والمصانع وهذا ما لم يحدث مع إيران التي يتميز اقتصادها بأنه صناعي زراعي نفطي، بحسب العبيدي.
إيران ووفق كثير من المراقبين لديها طرق عديدة للالتفاف على العقوبات من خلال علاقاتها الجيدة مع روسيا والصين التي رفضت إيقاف شراء النفط الإيراني
تعاني إيران حاليًّا من عقوبات أمريكية اقتصادية فرضتها إدارة الرئيس ترامب عليها في الـ7 من أغسطس/آب الحاليّ التي شملت منع التعاملات المالية والبنكية والحوالات من وإلى إيران، إضافة إلى منع بيع الدولار الأمريكي للإيرانيين، كما باشرت إدارة الرئيس ترامب ممارسة ضغوط كبيرة على الشركات الأوروبية والعالمية لإجبارها على الانسحاب من السوق الإيرانية، وهذا ما حدث بالفعل مع الشركات الفرنسية المصنعة للسيارات وشركة سيمنز الألمانية، إضافة إلى إيقاف الخطوط الجوية الفرنسية والبريطانية الرحلات الجوية من وإلى إيران.
إلا أن إيران ووفق كثير من المراقبين لديها طرق عديدة للالتفاف على العقوبات من خلال علاقاتها الجيدة مع روسيا والصين التي رفضت إيقاف شراء النفط الإيراني، كما أن لإيران نفوذًا كبيرًا في العراق قد يفوق نفوذ الولايات المتحدة، وبالتالي فإنها ستستخدم العراق كبوابة خلفية للحد من تأثير العقوبات الأمريكية، وهذا ما بدأ العراقيون يحسونه من خلال زج الإيرانيين كميات كبيرة من العملة المزيفة وشراء ملايين الدولارات وتهريبها إلى الداخل الإيراني.
تركيا.. حليفة واشنطن وعدوتها في آن واحد
آخر فصول العقوبات الأمريكية، كانت من نصيب تركيا، البلد الحليف للولايات المتحدة منذ مئة عام تقريبًا والعضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على تركيا مؤخرًا بحجة عدم إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون الذي تحتجزه تركيا منذ الانقلاب الفاشل عام 2015 واتهمته تركيا بالتجسس ومساعدة فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والمتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة.
وبرفض تركيا إطلاق سراح برونسون، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أنقرة تمثلت بالحجز على أموال وزيري الداخلية والأمن التركيين، كما شرعت واشنطن بعدها بفرض ضرائب مرتفعة على صادرات الصلب والألمنيوم التركي، وهددت بمزيد من العقوبات حال عدم استجابة أنقرة لمطالب واشنطن وإطلاق سراح القس الأمريكي المحتجز لديها.
العقوبات الأمريكية كان لها وقع كبير على الاقتصاد التركي في أيام العقوبات الأولى، إذ هبط سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى مستويات قياسية، إضافة إلى تخفيض مؤسسات النقد المالي العالمية من تصنيف تركيا الائتماني، عقوبات أثارت العديد من التساؤلات عن قدرة تركيا على تجاوزها والحد من نزيف العملة التركية.
إذا ما وضعت مقارنة بين وضع العراق وإيران وتركيا الاقتصادي، فإن تركيا تتغلب عليهما من حيث قوة الاقتصاد والسياسة الخارجية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية التركي، وليس من السهل تركيع تركيا التي تصدر منتجاتها لمختلف دول العالم، فضلاً عن كونها من الوجهات السياحية التي تتصدر المراتب العالمية، تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، في تقرير لها مؤخرًا إن تركيا تمتلك كثيرًا من التدابير والإجراءات التي لم تستخدمها بعد ويمكن أن تساعدها في تجاوز تراجع سعر صرف الليرة التي فقدت 40% من قيمتها خلال الأشهر الست الماضية.
ووفقًا للصحيفة، فإن أول هذه الإجراءات تتمثل في رفع سعر الفائدة، وعندها ستتم استعادة الأموال النقدية، وستعطي انطباعًا للمستثمرين بأن البنك المركزي مصمم على مواجهة التضخم.
الخبير الاقتصادي ديريك كالفين في بنك MUFG أكبر البنوك اليابانية يقول إن الزيادة الأسمية لنحو عشر نقاط مئوية فقط هي المستوى المطلوب لتحقيق الاستقرار المالي، أي أنه بعد تراجع التصخم، فإن معدل الفائدة سيظل منخفضًا عند 1.9%، وهو المعدل الذي كان قبل ارتفاع التضخم نهاية عام 2016.
إجراءات أخرى يمكن لتركيا أن تتخذها ومن ضمنها إخراج احتياطات النقد الأجنبي التي تفوق المئة مليار دولار، إضافة إلى إجراء آخر لا يقل أهمية وهو سياسة الميزانية التي تستطيع من خلالها أنقرة استيعاب جزء من القطاع الخاص في الميزانية العمومية السيادية
تضيف الصحيفة أن الإجراء الثاني الذي يمكن لأنقرة أن تتخذه في سبيل الحد من نزيف الليرة هو فرض رقابة على رؤوس الأموال، من خلال منع المستثمرين الأجانب من سحب أموالهم من السوق التركية، وتضرب الصحيفة مثالاً على ذلك الإجراء الذي اتخذته كل من ماليزيا وتايلاند خلال الأزمة المالية الآسيوية في نهاية تسعينيات القرن الماضي، واتبعته آيسلندا كذلك عام 2008.
إجراءات أخرى يمكن لتركيا أن تتخذها ومن ضمنها إخراج احتياطات النقد الأجنبي التي تفوق المئة مليار دولار، إضافة إلى إجراء آخر لا يقل أهمية وهو سياسة الميزانية التي تستطيع من خلالها أنقرة استيعاب جزء من القطاع الخاص في الميزانية العمومية السيادية.
آخر الإجراءت التي ذكرتها الصحيفة في تقريرها هي زيادة الصادرات والحد من الواردات، وتقول الصحيفة إن انخفاض العملة يحسّن من كمية الصادرات في كثير من الحالات، إذ إن السلع والخدمات المحلية تكون أرخص في الداخل مقارنة مع الخارج، لكنها في المقابل تقلل من الواردات التي ترتفع أسعارها، وهذا يؤدي بدوره إلى تقليل احتياجات التمويل الخارجي للاقتصاد.