كثيرًا ما تستثمر الحكومات في مسيرة طموحاتها الاقتصادية عبر رأس المال المادي الملموس كالطرق والمطارات وغيرها من أوجه البنى التحتية لكن غالبًا ما تستثمر وبدرجة أقل – لا سيما في الدول النامية – في مواطنيها ومواردها البشرية، اعتقادًا منها أن الاستثمار المادي هو الأكثر نموًا والأسرع حركةً والأسهل قياسًا.
لذا يلاحظ أنه في كثير من البلدان العربية تنتشر مظاهر التطور الواضح في المشروعات التنموية البنيوية المادية التي قد تعكس منذ الوهلة الأولى تطورًا نسبيًا، غير أنه في الواقع تسير الأمور عكس ذلك تمامًا، فقد تكون في مراتب متأخرة بقائمة دول العالم في قياسات التعليم والصحة والجودة وفي المجمل بمؤشرات التنمية البشرية وهو ما تعكسه التقارير الصادرة عن المنظمات الأممية في هذا الشأن.
قد تكون مثل هذه الإستراتيجيات مقبولة – إلى حد ما – خلال العقود الماضية إلا أنها لن تستمر على منوالها كثيرًا خلال المرحلة المقبلة، إذ إن تغول التكنولوجيا في شتى مناحي الحياة وبجانب ما يمكن أن تضفيه من تحسن في مستويات المعيشة بشكل عام إلا أنها ستكون عملية مدمرة، فملايين من البشر وبلدان بأكملها معرضة لخطر الاستبعاد من الرخاء المستقبلي، إن لم تنجح في تطوير مواطنيها وتنمية قدراتهم بالشكل الذي يسمح لهم بالحصول على موطئ قدم في هذا العصر الجديد الذي لن يعترف إلا بالمؤهلين فقط.
وفي ظل السرعة الجنونية التي تسير بها قاطرة التكنولوجيا باتت الحكومات العربية وأنظمة العالم الثالث أمام تحد خطير، ومرحلة فاصلة في تاريخها، فإما مواكبة تلك القفزات وإعادة النظر في رؤيتها لمواردها البشرية أو أن ملايين البشر لن يجدوا لهم مكانًا في المستقبل في ظل المنافسة الشرسة التي ستضع رقاب الكثير تحت مقصلة الاستبعاد.
العنصر البشري.. أولوية
استشعارًا من البنك الدولي بأهمية العنصر البشري والتحديات التي من الممكن أن تواجهه خلال المرحلة المقبلة فقد اختار موضوع الاستثمار في رأس المال البشري عنوانًا لتقريره عن التنمية في العالم للعام 2019، مستندًا في رؤيته إلى أن المهارات تتسع حدودها بشكل أسرع من أي وقت مضى، ويجب على مختلف البلدان أن تستعد الآن لإعداد قوتها العاملة لمجابهة التحديات الضخمة وانتهاز الفرص الهائلة الناجمة عن التغير التكنولوجي.
رئيس مجموعة البنك الدولي جيم يونغ كيم، أكد في حديث أجراه مؤخرًا لمجلة Foreign Affairs، أن العالم يواجه اليوم “فجوة في رأس المال البشري”، وفي العديد من البلدان، فإن القوى العاملة غير مستعدة للمستقبل الذي يتكشف سريعًا، مطالبًا الجميع بالقيام بمسؤولياته تجاه المورد البشري للارتقاء بقدراته وإمكاناته التي تؤهله للتعايش مع التطورات المقبلة.
تقرير التنمية العالمي لعام 2019 في إرهاصاته الأولى يحاول الإجابة عن السؤال التالي: كيف تتغير طبيعة العمل نتيجة للتقدم التكنولوجي في الوقت الحاضر وتداعيات ذلك على المورد البشري؟ إذ يرى أن التطور الهائل في التكنولوجيا قد يحمل أبعادًا خطيرة ومن ثم فهناك حاجة إلى عقد اجتماعي جديد لتسهيل الانتقال والحذر من ارتفاع عدم المساواة، وكأولوية أولى، تعتبر الاستثمارات الكبيرة في رأس المال البشري طوال دورة حياة الشخص حيوية لهذا الجهد، إذا كان على العمال أن يظلوا قادرين على المنافسة ضد الماكينات، فإنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على إعادة مهاراتهم الحاليّة أو تدريبهم بشكل أفضل من البداية.
ينبغي أن يحقق مشروع رأس المال البشري التقدم نحو عالم يصل فيه جميع الأطفال إلى المدرسة وقد حصلوا على تغذية جيدة ومستعدين للتعلّم؛ متوقعين الحصول على تعليم حقيقي في الفصل الدراسي وقادرين على الدخول إلى سوق العمل كبالغين يتمتعون بالصحة الجيدة والمهارات والقدرة على الإنتاجية
كذلك فإنه ودون أي جهد أو إستراتيجية منسقة لبناء رأس مال بشري مؤهل وقوي، فإن أعدادًا كبيرة من البشر وبلدانا بأكملها معرضة لخطر الاستبعاد من الرخاء المستقبلي، هكذا حذر التقرير، لافتًا إلى أن للحكومات دورًا حاسمًا تؤديه في تحويل رأس المال البشري، لأن الفقر وعدم المساواة وغير ذلك من المساوئ تعوق الكثير من الأسر عن الاستثمار في صحة أطفالها وتعليمهم.
وقد حُددت ثلاثة أهداف رئيسية يقوم عليها التقرير في رؤيته: أولاً، بناء الطلب على استثمارات أكبر وأفضل في البشر؛ ثانيًا، مساعدة بلدان العالم على تعزيز إستراتيجياتها واستثماراتها المتعلقة برأس المال البشري وذلك لتحقيق تحسينات سريعة في النتائج؛ ثالثًا، تحسين كيفية قياس رأس المال البشري.
وهناك حزمة من المؤشرات المعدة لقياس مستوى التطور في هذا النوع الجديد من الاستثمار منها مؤشر لقياس صحة الأطفال والشباب والبالغين، وكذلك قدرة وجودة التعليم الذي يمكن أن يتوقعه الطفل المولود اليوم وهو في سن 18 عامًا، وهذا سيساعد على تعزيز الشفافية.
وقد خلص التقرير إلى أنه ينبغي أن يحقق مشروع رأس المال البشري التقدم نحو عالم يصل فيه جميع الأطفال إلى المدرسة وقد حصلوا على تغذية جيدة ومستعدين للتعلّم؛ متوقعين الحصول على تعليم حقيقي في الفصل الدراسي، وقادرين على الدخول إلى سوق العمل كبالغين يتمتعون بالصحة الجيدة والمهارات والقدرة على الإنتاجية.
100 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر
واقع مؤلم
بحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في نسخته 2015، فإن واحدًا من كل تسعة أشخاص في العالم يعاني من الجوع، وواحد من كل ثلاثة يعاني من سوء التغذية، وكل عام تتزوج نحو 15 مليون فتاة قبل سن 18 سنة، أي واحدة كل ثانيتين، ويقضي 18.000 شخص يوميًا في جميع أنحاء العالم بسبب تلوث الهواء، ويصيب فيروس نقص المناعة البشرية مليوني شخص في السنة، ويتعرض 24 شخصًا في المتوسط للنزوح قسرًا من ديارهم.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مليار شخص مصابون بشكل من أشكال الإعاقة، وهم من أكثر الفئات المهمشة في معظم المجتمعات، وهم يواجهون الوصم والتمييز، وصعوبات في البيئة المادية والافتراضية التي يعيشون فيها، كما يعيش اليوم 244 مليون شخص خارج أوطانهم، هذا بخلاف أن ربع الأطفال دون سن الخامسة في الدول الفقيرة يعانون من سوء التغذية، ويفشل 60% من تلاميذ المدارس الابتدائية في الحصول على تعليم ولو أولي.
ويأمل الكثير من اللاجئين لأسباب اقتصادية إلى تحسين سبل عيشهم وإرسال الأموال إلى أوطانهم، ولكن الكثير من المهاجرين، لا سيما 65 مليونًا من النازحين قسرًا يواجهون ظروفًا قاسية، إذ يفتقرون إلى فرص العمل والدخل، ويتعذر عليهم الحصول على الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، عدا المساعدة التي تقدم لهم في حالات الطوارئ، وكثير ما يتعرضون للمضايقات والعداوة والعنف في البلدان المضيفة.
100 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، كما يعاني نحو 40 مليون عربيًا في الدول العربية من نقص في التغذية، أي ما يعادل 13% من السكان تقريبا
أين موقع العرب؟
هناك 4 تصنيفات يعتمدها التقرير في تقييمه لمؤشرات التنمية لدول العالم المختلفة، مرتفعة جدًا (مثل بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة و”إسرائيل” وبعض دول الخليج العربي)، مرتفعة (مثل روسيا وبعض دول الخليج العربي)، متوسطة (مثل معظم الدول العربية)، ومنخفضة (كمعظم دول إفريقيا).
عربيًا، جاءت قطر في المرتبة 32 عالميًا (شمل التقرير 188 دولة) في طليعة الدول العربية، ثم السعودية في المرتبة 39، تلتها الإمارات والبحرين والكويت، وفي عداد الدول ذات التنمية المرتفعة سلطنة عمان ولبنان والأردن والجزائر، أما المتوسطة فشملت معظم الدول العربية الأخرى وإن تذيلت الأوضاع في اليمن وسوريا وجيبوتي والصومال القائمة.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أول تقرير للتنمية البشرية له عام 1990 عرفها بأنها “عمليّة زيادة الخيارات المتوفّرة للأفراد، وتشمل ثلاثة خيارات رئيسيّة، وهي توفير حياة صحيّة وبعيدة عن الأمراض، وزيادة انتشار المعرفة، وتوفير الموارد التي تُساهم في وصول الأفراد إلى مستوى حياتي لائق” محذرًا أنه “ما لم تكن هذه الخيارات مكفولة فإن الكثير من الفرص الأخرى ستظل بعيدة المنال”.
وبسحب الخيارات التي أوردها البرنامج الأممي على الواقع العربي يلاحظ حجم الفجوة التي تتسع عامًا تلو الآخر، حيث تشير الإحصاءات إلى أن نحو 100 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، كما يعاني ما يقارب 40 مليون عربي في الدول العربية من نقص في التغذية، أي ما يعادل 13% من السكان تقريبًا.
تقرير التنمية البشرية 2015 أشار إلى أن ما يقرب من نصف سكان المنطقة العربية يعيشون على أقل من أربعة دولارات فقط في اليوم، كما أن إجمالي الناتج المحلّي للدول العربية مجتمعة لا يتجاوز 1.5 ترليون دولار، ونصيب الفرد العربي من هذا الناتج لا يتعدى 3500 دولار سنويًا، وتلك معدّلات تضع أغلبية السكان ضمن الحدود الفقيرة عالميًا.
ومن الأمور المقلقة التي أوردها التقرير فشل السياسات الاقتصادية العربية في تأمين الأمن الغذائي لشرائح مهمة من السكان، إذ يسجل اتساع مطرد للفجوة الغذائية في السلع الزراعية قاربت 30 مليار دولار خلال العام 2015، ويستورد الوطن العربي 50 مليون طن من الحبوب، خاصّة أن استهلاك الفرد العربي يبلغ 325 كيلوغرامًا من الحبوب سنويًا، وهو من أعلى المعدلات العالمية، علمًا بأن مساحة الأراضي الزراعية المستغلة في المنطقة العربية لا تتجاوز 30% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة التي تبغ قرابة 175 مليون هكتار.
ففي مصر على سبيل المثال التي تمثل أكبر تعداد سكاني عربي (96.3 مليون نسمة) تشير التقارير إلى أن نصف السكان تقريبًا لا يحصلون على الطعام الكافي ويعانون من سوء التغذية، وأن 35% من النساء و53% من الأطفال في مصر لا يحصلون على الطعام اللازم مما يشكّل خطورة على هاتين الفئتين اللتين تعدان الأكثر هشاشة، علاوة على ذلك فقد ارتفعت نسبة الفقر بصورة مقلقة، لتصل إلى قرابة 30 مليون مصري يعيشون تحت مستوى خط الفقر.
وفي السودان ربما يكون الوضع أكثر سوءًا، إذ تتجاوز نسبة الفقر حاجز الـ65%، بينما وصلت في العراق إلى 70% في حين بلغت نسبة البطالة 50% خلال السنوات الأخيرة، هذا بخلاف قرابة 3.5 مليون صومالي (45% من السكان) يواجهون شبح الموت جوعًا.
وفي السياق ذاته فقد أودت الصراعات الداخلية خلال السنوات الخمسة الأخيرة إلى مزيد من تدهور الأوضاع في سوريا واليمن، إذ تشير التقديرات إلى أن 80% من السوريين يعيشون في دائرة الفقر، ومتوسّط العمر المتوقّع انخفض بـ20 عامًا، كما ارتفع معدل الفقر في اليمن من 42% من السكان في عام 2009 إلى نسبة 64.5% خلال العامين الأخيرين، فضلاً عن تهديد حياة الملايين بسبب الأوبئة والأمراض على رأسها الكوليرا التي حصدت أرواح المئات، فضلاً عما يزيد على ربع مليون على قوائم الانتظار.
ما كان بالأمس مقبولاً ربما اليوم وغد لم يعد كذلك، فملايين العرب قد يواجهون مستقبلاً مجهولاً إن استمرت الحكومات على ذات سياساتها الرامية إلى تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية على حساب موردها البشري الذي يواجه يومًا تلو الآخر موتًا بالبطيء
أما في تونس، فيعيش واحد من كل ستة تونسيين تحت خط الفقر، وتوسّعت رقعة الفقر في تونس خلال السنوات الأربعة الماضية بنسبة 30%، في حين تصل نسبة الفقر في الأردن إلى 14.4%، وفي لبنان تفوق نسبة 28.6%.
علميًا.. تتراجع موازنات الدول العربية المخصصة للبحث العلمي بصورة كبيرة، تعكس موقع العلم على سلم أولويات الحكومات والأنظمة، ففي الوقت الذي تبلغ فيه نسبة الإنفاق على البحث العلمي في أمريكا 2.9% من إجمالي الناتج القومي، و2.7% في “إسرائيل”، لم تتجاوز في الدول العربية حاجز الـ0.2%، بينما تشير بعض الدراسات بأن هناك علاقة مباشرة بين التنمية ونسبة الإنفاق على البحث العلمي من الناتج القومي، إذ لا بد أن لا تقل هذه النسبة عن 1% لكي يكون البحث العلمي ذا جدوى أي يمكنه المساهمة في التنمية بصفة فعالة.
إحصاءات منظمة اليونسكو تشير إلى أن واحدًا من كل خمسة بالغين يعاني من الأمية (19%) في الوطن العربي، تتصدرهم موريتانيا بنسبة 48%، وأقلهم قطر بنسبة 2%، هذا بخلاف بعض الدول الأخرى التي حققت معدلات مرتفعة في زيادة نسب الأمية لديها.
ففي المغرب مثلاً لا يزال 10 ملايين شخص (30% من السكان) يعانون من آفة الأمية، أما في مصر، فربع السكان البالغين لا يجيدون القراءة والكتابة، يليهم السودان بنسبة 24%، ثم الجزائر 20%، العراق 20%، تونس 18% وسوريا بنسبة 14%.
تغول الإنفاق العسكري على حساب المجالات الأخرى في الدول العربية
ما الحل؟
بداية يعود تدني مستوى العنصر البشري في الدول العربية على وجه الخصوص إلى فشل النظم الحاكمة وتفشي الفساد وغياب النزاهة في جميع مستويات الدولة، هذا بخلاف مخرجات هذا الفشل والمتمثلة في السياسات التنموية المتبعة التي ثبت عجزها عن تحقيق أي طفرة نوعية في الحياة اليومية للمواطنين.
والملاحظ أن معظم الدخول العربية تذهب إلى مجالات الأمن والدفاع على حساب التنمية الاقتصادية، إذ تشير التقارير إلى أن نسبة الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط بلغت 5.2% من الناتج المحلي للدول، وهي النسبة الأعلى عالميًا، إذ لا يتعدى المتوسط العالمي نسبة 1.8% من الناتج المحلي، ناهيك عن ضعف المورد البشري الذي يستلزم تكوينًا محكمًا يمكنه من أداء وظائفه بكفاءة عالية، وتحسين الإطار العام للعمل بالاعتماد على الاستحقاق كمعيار للتعيينات.
ما كان بالأمس مقبولاً ربما اليوم وغدًا لم يعد كذلك، فملايين العرب قد يواجهون مستقبلاً مجهولاً إن استمرت الحكومات على ذات سياساتها الرامية إلى تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية على حساب موردها البشري الذي يواجه يومًا تلو الآخر موتًا بالبطيء، فلا تعليم مؤهل ولا خدمات صحية كافية ولا إسكان آدمي
كل تقارير الأمم المتحدة توصي بضرورة الاستثمار في العنصر البشري عبر عدة محاور على رأسها التصدي للفقر من خلال زيادة الإنفاق على قطاعات أساسية مثل الأمن الغذائي والإسكان والتعليم والصحة، حيث يخلق الفقر تجمّعات سكانية عشوائية، وهو ما يبدو بشكل واضح في بلدان مثل مصر وسوريا ولبنان.
ما كان بالأمس مقبولاً ربما اليوم وغدًا لم يعد كذلك، فملايين العرب قد يواجهون مستقبلاً مجهولاً إن استمرت الحكومات على ذات سياساتها الرامية إلى تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية على حساب موردها البشري الذي يواجه يومًا تلو الآخر موتًا بالبطيء، فلا تعليم مؤهل ولا خدمات صحية كافية ولا إسكان آدمي، كل هذا يقود في النهاية إلى أن كثيرًا من العرب قد لا يجدون مكانًا في المستقبل.