استُخدم المرتزقة في الحروب منذ القِدم، سواءً الحروب التي اندلعت بين الدول والشعوب أم بين الجيوش على اختلاف انتماءاتها، وإن خصصنا منطقتنا الجغرافية الشرق الأوسط، فلقد استخدمهم الفراعنة منذ معركة قادش التي خاضوها ضد الحيثيين نحو 1800 ق.م، واستخدمهم الفرس والمقدونيون في معركة غوغميلا 331 ق.م على سبيل المثال، وكذلك الرومان والبيزنطيون في حروبهم.
بل إن المماليك في عهد الدولة العباسية كانوا يُشترون من أسواق النخاسة لاستخدامهم كمقاتلين في فرق عسكرية خاصة، وأصبحوا بمرور الوقت الأداة القتالية الوحيدة في بعض الولايات الإسلامية، حتى أقاموا دولتهم في مصر وأجزاء من الحجاز وبلاد الشام، أيضًا كان للعثمانيين نصيب في الانكشارية و”الباشي بوزوق” وترجمتها نصف عسكري أو العسكري غير النظامي.
استمرت الاستعانة بالمرتزقة في الحروب والصراعات العسكرية الخارجية والداخلية عبر العصور وحتى عصرنا الحديث بل ووقتنا الحالي، استعانت بهم الولايات المتحدة في حروبها لإخضاع جمهوريات أمريكا الوسطى، وكذلك البريطانيون والفرنسيون لقمع حركات التحرر في إفريقيا وغيرها، ولا ننسى كيف جُنّد المرتزقة من أنحاء العالم من خلال منظمة “ماحل” وغيرها للقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي وعصاباته ضد الفلسطينيين، حتى بدأ منذ منتصف القرن الماضي تأسيس شركات مقاولات أمنية قوامها المرتزقة، مثل “بلاك ووتر Blackwater” الأمريكية وفاغنر جروب Wagner Group الروسية.
باختصار.. إن المرتزق هو الشخص الذي يُنفّذ أي عمل يُطلب منه، مقابل المال، دون اعتبار لنوع هذا العمل أو أهدافه، والأكثر شيوعًا هو إطلاق وصف المرتزقة على مجموعات الأفراد التي تحارب أو تخدم أو تساند القوات المسلحة الرسمية في حروبها، واليوم يستعين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمجموعات من المرتزقة في الحرب بين دولتيهما.
دورة الارتزاق بين روسيا وأوكرانيا
بعد مارس/آذار 2022، تداولت وسائل إعلام أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر بمنح الإذن لأكثر من 15 ألفًا من المقاتلين غير الروس من عدة دول في آسيا الوسطى ودول الشرق الأوسط ومنها سوريا، من أجل تسهيل وصولهم إلى الأراضي الأوكرانية أو الجبهات المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا للمشاركة في الحرب إلى جانب الروس، الحرب التي بدأت نظريًا بخرق الطرفين لمعاهدة الأمن الأوروبي في إسطنبول 1999، وشرعت فعليًا منذ 2014 التي انتهت بضم الروس لجزيرة القرم، وتجددت في 2016، وبعدها في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 مع حادثة مضيق كيريتش، وصولًا إلى فبراير/شباط 2022 حين أصدر بوتين أوامره للقوات المسلحة الروسية بغزو أوكرانيا، فبدأ قصف الطيران ودخلت الدبابات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية، وما زالت الحرب قائمةً بين الطرفين، ولم يحقق الروس النصر بالمفاهيم العسكرية أو العملية كما كانوا يتوقعون، فلقد واجهوا مقاومةً أكبر بكثير من توقعاتهم.
بعد قرار بوتين بتسهيل وصول المقاتلين المرتزقة من آسيا والشرق الأوسط، صرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أمام اجتماع للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الروسي، أن موسكو تتلقى أعدادًا كبيرةً من طلبات التطوع في الجيش الروسي للمشاركة فيما أسماه “حرب التحرير”، وكان رد الرئيس الأوكراني زيلينسكي أن روسيا ترسل مرتزقةً من السوريين إلى بلاده، لا يعرفون الفرق بين اللغتين الروسية والأوكرانية أو الفرق بين كنائس الدولتين، وأن شعبه سيواصل الدفاع عن بلاده ضد كل عدوان.
وفي الحقيقة صدرت، قبل قرار بوتين بتسهيل وصول وعمل المرتزقة في الجيش الروسي، عدة تقارير ومعلومات من مصادر مختلفة تؤكد أن زيلينسكي هو من بادر قبلًا باستقبال واستخدام المرتزقة من ألمانيا وفرنسا والنمسا وغيرها في الجيش الأوكراني، حتى أكد زيلينسكي بداية مارس/آذار 2022 – أي قبل قرار بوتين – بنفسه هذا الخبر حين صرح أن 16 ألفًا أجنبيًا متطوعون للقتال من أجل أوكرانيا، وهم جزء مما دعاه “الفيلق الدولي” لمواجهة الروس.
مرتزقة من سوريا
بالنسبة لسوريا أو للسوريين، لا توجد بالطبع إحصائيات أصلًا عن عدد المقاتلين المرتزقة الذين رغبوا بالقتال إلى جانب الجيش الروسي ضد أوكرانيا، ومن الذين تمكنوا فعلًا من الالتحاق به، وكيف أمكنهم ذلك، لكن بعض التقارير الغربية، الأمريكية خصوصًا، وكذلك تقارير سورية أفادت أنه منذ منتصف 2022 – أي بعد قرار بوتين بتجنيد المرتزقة – تم بالتنسيق مع النظام السوري ومخابراته، تجهيز قوائم بأسماء السوريين الراغبين في القتال على الجبهات الأوكرانية لصالح الروس.
وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال The Wall Street Journal” الأمريكية في مارس/آذار 2022 أن روسيا الموجودة في سوريا بقواتها العسكرية منذ 2015 قد قامت فعلًا بتجنيد مقاتلين سوريين للقتال في صفوف جيشها ضد الأوكرانيين، لأن لديهم خبرات جيدة في القتال ضمن المدن (حروب الشوارع)، ما قد يفيد في السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف.
أكدت عدة منظمات ومواقع إلكترونية سورية جميعها من تيار المعارضة السورية، هذه التقارير والمعلومات الخاصة بتجنيد مرتزقة سوريين في حرب الجيش الروسي على أوكرانيا، في الوقت الذي لم يؤكد فيه الأمريكان وجود مرتزقة سوريين يقاتلون إلى جانب الجيش الروسي، ولم يصرح النظام السوري أبدًا عن أي أنشطة بشأن هذه القضية.
صفقة بين أوكرانيا و”تحرير الشام”؟
اليوم، بعد نحو أسبوعين من نشر الصحيفة التركية “آيدين لينك” تقريرًا زعمت فيه أن حكومة كييف تجري مباحثات مع هيئة تحرير الشام من أجل السماح لمقاتلين إسلاميين لا ترغب الهيئة بوجودهم في إدلب وغيرها من المناطق في شمال غرب سوريا التي تسيطر عليها الهيئة، للانتقال إلى الجبهات المشتعلة بين الروس والأوكرانيين والقتال إلى جانب الجيش الأوكراني؛ ستتبادر إلى الذهن مباشرةً هذه المعادلة: مقاتلون سوريون وإيرانيون وعراقيون يقاتلون إلى جانب القوات الروسية، بينما يقاتل بجانب القوات الأوكرانية مقاتلون سوريون وقوقازيون، أي أن المقاتلين السوريين موجودون في طرفي المعادلة.
ولتبسيط هذه المعادلة أكثر، يمكن القول إن المقاتلين السوريين المؤيدين لنظام أسد سيقاتلون إلى جانب داعمه الروسي، بينما سيقاتل المقاتلون السوريون المناوئون لهذا النظام إلى جانب الجيش الأوكراني، وليس محبةً بأوكرانيا بل كرهًا بالروس، وعلى قاعدة عدو عدوي صديقي، والتي لا أساس عمليًا لها من الصحة.
ذهبت صحيفة “آيدين لينك” في تقريرها أيضًا إلى أن أوكرانيا حددت لهيئة تحرير الشام طلبها من المقاتلين، بمجموعتين من مواطني جورجيا والشيشان معظمهم موقوف في سجونها، ثم ذهب تقرير الصحيفة إلى أبعد من هذا حين أشارت إلى أن الأوكرانيين عرضوا على الهيئة مقابل إطلاق سراح من تريدهم من المقاتلين نحو 57 طائرة مسيرة “درون drone” ومن الطراز الحديث.
بالطبع تلقف الإعلام الروسي والقيادات السياسية والعسكرية الروسية هذا الخبر غير المؤكد وجرى تبنيه بالكامل، إضافةً إلى معلومات أخرى تُفيد بتدريب الأوكرانيين مقاتلي هيئة تحرير الشام على صنع هذه الطائرات محليًا، وبالطبع لم يتحدث أي طرف روسي عن مقاتلي الهيئة بهذا الشكل، بل جرى وصفهم طبعًا بالإرهابيين والمرتزقة، للتأكيد دائمًا على دور أوكرانيا في خرق الأعراف والمواثيق الدولية ودعم الإرهاب.
ولم يكن الروس وحدهم من تلقفوا هذا السبق الصحفي العجيب، بل تبعهم إعلام النظام وقنواته، وشرع في الحديث عن هذه القضية دون ذكر أي مصادر، ومع تحديد عدد من وصل من الخبراء العسكريين الأوكرانيين إلى إدلب بـ250 خبيرًا جرى توزيعهم على ورش صناعية ومواقع متنوعة في إدلب وجسر الشغور، بغية تصنيع طائرات بلا طيار، وطبعًا دون ذكر مصادر الخبر الذي قالت وكالة “نوفوستي” – الروسية طبعًا – إنها حصلت عليه.
بالمقابل، نفت هيئة تحرير الشام عبر إعلامها ومن خلال لقاءات متفرقة مع بعض المسؤولين في الهيئة، إجراء أي اتصالات أو مفاوضات مع أوكرانيا بخصوص إطلاق سراح مقاتلين مناهضين للروس من سجونها وبمقابل الحصول على الطائرات المذكورة.
بل أكدت الهيئة أنه ليس لديها سجون خاصة أصلًا، وأن السجون الموجودة في إدلب وغيرها من المناطق التي تسيطر الهيئة عليها شمال غرب سوريا، هي سجون رسمية تشرف عليها الجهات المختصة في حكومة الإنقاذ، وليس فيها معتقلون شيشانيون أو جورجيون أو من جنسيات أخرى، وأن الروس يختلقون الأكاذيب لتبرير عدوان جديد على السوريين في مناطق سيطرة المعارضة، كما أن المقاتلين من المهاجرين الموجودون شمال غرب سوريا ملتزمون بسياسة القيادات السياسية والعسكرية في هذه المنطقة، ويقتصر نشاطهم ضد نظام أسد والقوات الروسية والإيرانية، ضمن سوريا وليس خارجها.
تحليلات استراتيجية وتعليقات ساخرة
خلال هذه الفترة – أي منذ نشر الصحيفة التركية لتقريرها وحتى الآن – جرت الكثير من النقاشات والتحليلات بشأن هذه القضية غريبة المبنى والمعنى، وذهبت معظمها إن لم يكن كلها إلى اعتبار القصة وهمية وخيالية، أو حتى مجرد مزحة سمجة وسخيفة، اللهم سوى تحليلات ومواكبات الإعلام الروسي وحلفائه في إعلام النظام، التي استمرت في إخراج تفاصيل لازمة لتأكيد القصة وتفسيرها منطقيًا.
ومن ذلك أن الأوكرانيين يريدون تجنيد هذه الفئات من المقاتلين الإسلاميين بواسطة هيئة تحرير الشام، ليواجهوا أمثالهم من المقاتلين الشيشان وغيرهم الذين يقاتلون في صف الروس، وأن أوكرانيا تستغل حالة البغض والعداء التي يحملها ضد الروس المقاتلون الذين تريد أوكرانيا تجنيدهم في صفوف جيشها.
استبعد البعض صحة ما أشيع عن هذه القضية أو القصة لأسباب مختلفة، فمنهم من يرى أن ذلك سيعرض العلاقات التركية الروسية لمشكلات، لأن نقل المقاتلين والطائرات يستدعي عبور الأراضي التركية، ما لا يمكن لتركيا السماح به، ويبدو أن هذا ليس دقيقًا بما يكفي، لأن المشكلة هي في الحصول على الإذن اللازم للتنفيذ، وعند ذلك تبقى مسألة النقل والعبور مسألةً يمكن حلها بالتوافق والتعاون بين مخابرات الدول ومسؤولي الأطراف المعنية حال توافر الرغبة.
ورأى آخرون أن المسألة خطيرة للغاية، فلن يمكن السماح بوصول طائرات مسيرة حديثة لأي فصائل سورية أو إسلامية معارضة، ولو كانت الأمور تجري على هذا المنوال لسُمح بوصول مضادات طيران أو لأمكن الحصول عليها بأي وسيلة، لكن هذا خط أحمر مُنعت الفصائل المقاتلة ضد نظام أسد ومنذ البداية من تجاوزه.
كما رأى البعض أن ظروف الحرب الروسية الأوكرانية نفسها قد تغيرت، وأنه من غير الممكن الحديث عن جماعات كاملة من المقاتلين الإسلاميين أو أعداد بالعشرات من الخبراء العسكريين الأوكرانيين يمكن نقلهم أو تبادلهم بين أوكرانيا وهيئة تحرير الشام بالاتجاهين، ولن يمكن في أحسن الأحوال الحديث سوى عن حالات فردية لأشخاص قلائل استطاعوا الوصول إلى جبهات الحرب في أوكرانيا، ولربما استعانت هيئة تحرير الشام بعدد قليل جدًا من المدربين أو الخبراء الأوكرانيين.
على الصعيد المحلي في إدلب والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة ونفوذ هيئة تحرير الشام، يبدو أن الخبر الذي أوردته صحيفة “آيدين لينك” التركية أصبح مثار تهكم وسخرية أكثر ممن سمعوا به من المدنيين على اختلافهم وتنوعهم، وتراوحت التعليقات على ذلك بين (لو بدها تشتي كانت غيمت)، وحتى (أوكرانيا مو كلب هالصيد)، بمعنى أنه لا شيء ملموس سوى الأقاويل وأن الأوكرانيين لا يستطيعون القيام بعمل أو مبادرة بهذا الحجم من القوة والخطورة، وبالمجمل فإن الغالبية العظمى من الناس هنا لم يعودوا على استعداد لتصديق سوى ما يرونه بأنفسهم، وكل ما عدا ذلك فليس سوى شائعات أو أكاذيب.
ختامًا.. كانت الأمم المتحدة وفي أكتوبر/تشرين الأول 2001 قد أنفذت الاتفاقية الدولية لمنع استخدام وتمويل وتدريب المرتزقة، الاتفاقية التي لم توقع عليها أي دولة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، رغم توقيع أكثر من 35 دولةً أخرى عليها، لأنها لا تريد وضع قيود على نشاطاتها العسكرية دوليًا، ولتبقى مسألة الارتزاق من الحروب من أجل الحصول على مكاسب مادية، مسألة قائمة مستمرة ومدروسة، ولتظل الشعوب التي أرهقتها الحروب والنزاعات المسلحة تحت رحمة من يقاتلون ويقتلون باسم الإيديولوجيا، أو من يقاتلون ويقتلون من أجل المال.