لمواجهة الغزو المحتمل من بريطانيا وألمانيا خلال سنة 1940 والحفاظ على حيادها، طلبت الحكومة الأيرلندية في دبلن من أحد كبار وزرائها صياغة مذكرة حول كيفية البقاء خارج الحرب العالمية الثانية. وفي ردّه البليغ والغامض، شدد هذا المسؤول على ضرورة محافظة البلاد على الحياد الذي يعد شكلا من أشكال الحرب المحدودة”، وأعتقد أن اللبنانيين يوافقونه الرأي.
طوال سبع سنوات، كان اللبنانيون يتوسلون ويدعون ويتفاوضون للبقاء خارج دائرة الحرب السورية المجاورة، ويتجاهلون تهديدات إسرائيل، والحرب الدائرة في سوريا الشقيقة، ناهيك عن تحذيرات الولايات المتحدة، ومناشدات روسيا، وإغراءات إيران. وأعتقد أنك يجب أن تكون موهوبًا بشكل خاص لكي تبتسم بلطف وتملق، وبكل بساطة، وشجاعة، وتذلل، وضجر، لكل من حولك بينما تبتعد عنهم.
يحاول السوريون التقرب من اللبنانيين خاصة بعد الانتصار في الحرب حديثا، بينما يتعرضون للتهديدات من قبل إسرائيل، والتحذيرات من قبل الأمريكيين، فضلا عن حصولهم على الدعم من قبل الروس، والتمتع بالحب الأبدي الذي يكنه لهم الإيرانيين
خلال هذا الأسبوع، أخبرني صديق عندما كنا نجلس في قهوة في بيروت أنه “عندما يظل لبنان بلا حكومة لمدة شهر، فيجب أن تعرف أن اللوم يقع على اللبنانيين حيال هذه المسألة. ولكن عندما يبقى لبنان دون حكومة لمدة ثلاثة أشهر، فيجب أن تعرف أن الأجانب لهم دخل في ذلك”. منذ آلاف السنين، تصارعت العديد من الجيوش داخل هذا البلد، لكن في الوقت الحالي، يتوافد عليها الحشود تقريبا بشكل يومي.
يحاول السوريون التقرب من اللبنانيين خاصة بعد الانتصار في الحرب حديثا، بينما يتعرضون للتهديدات من قبل إسرائيل، والتحذيرات من قبل الأمريكيين، فضلا عن حصولهم على الدعم من قبل الروس، والتمتع بالحب الأبدي الذي يكنه لهم الإيرانيين، الذين يقومون بتمويل وتسليح ميليشيا حزب الله اللبنانية. كما يعاني اللبنانيون من ديون وطنية تبلغ قيمتها 80 مليار دولار، فضلا عن تحملهم العبء الذي يشكله تواجد 1.5 مليون لاجئ سوري، وحالات انقطاع الكهرباء التي تحدث كل يوم دون استثناء منذ سنة 1975.
يقدم لنا لبنان درسا في كيفية أن تكون بلدا صغيراً وتبقى آمناً وتعيش في خوف في الوقت ذاته. ولهذا السبب، اعتمدت حكومة تصريف الأعمال لسعد الحريري سياسة النأي بالنفس عن النزاعات الإقليمية. وتتكون هذه الحكومة من الحكومة التي جاءت بعد وقبل الانتخابات، اللتان توحدتا وتم اختيار وزرائهما ضمن النظام الطائفي المسيحي الإسلامي المثير للاضطرابات داخل البلاد.
وتعد سياسة النأي بالنفس مشابهة لسياسة الحياد، حيث يدعي الجميع تقريباً بدءا من الأمريكيين وصولا إلى الإيرانيين والاتحاد الأوروبي أن لبنان موحد، لأن الانتفاع من بلد في حالة سلم أفضل من أن يكون مدمرا ويتكرر سيناريو الحرب الأهلية التي استمرت منذ سنة 1975 إلى سنة 1990. وبطبيعة الحال، إن الاتحاد الأوروبي سخي في الأموال التي يقدمها لبلاد الأرز الصبورة التي تعاني من الإفلاس لأنه لا يريد أن يتدفق المزيد من اللاجئين إلى أوروبا.
يبدو أن سياسة الحياد التي يتبناها لبنان تحميه من نفسه، حيث يتلقى السنة تمويلًا هائلًا من السعوديين الذين يكرهون الإيرانيين وحزب الله والشيعة اللبنانيين، الذين بدورهم يقدمون الدعم لهم. يكن رئيس الوزراء اللبناني السني سعد الحريري الحب للسعوديين، أو بالأحرى يجب عليه أن يحب السعوديين لأنهم يدعمون رئاسته للوزراء وهو يحمل أيضا الجنسية السعودية، ناهيك عن أن السعوديين يعتقدون أنه سوف يلبي رغباتهم وينصاع لأوامرهم.
ربما يتذكر القراء حادثة احتجاز الحريري في الرياض، التي جدت خلال السنة الماضية، وظهوره أمام التلفزيون السعودي للإعراب عن استقالته من منصب رئاسة الوزراء إلى أن أنقذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من قبضة ولي العهد محمد بن سلمان، وهرّبه إلى باريس حيث استأنف عمله في منصب رئاسة الوزراء. وتجدر الإشارة إلى أن الحريري يعد مواطنا فرنسيا بصفته حامل جواز سفر فرنسي.
كما هو الحال دائما، يعاني اللبنانيون المسيحيون من الانقسامات، حيث لا يزال الرئيس ميشال عون صديقا مقربا من الأسد، في حين يخشى بقية المسيحيين اللبنانيين من حدوث “تدخل” سوري آخر في لبنان. وخلال العديد من المناسبات، صرح حزب الله أنه إذا ضربت إسرائيل إيران، فإن الحرب بين الميليشيات الشيعية وإسرائيل سوف تُستأنف في جنوب لبنان.
يواصل الأمريكيون والسعوديون مناشدتهم غير المجدية للبنان، التي تنص على ضرورة نزع سلاح حزب الله الشيعي وتفكيكه وإدماجه مع الجيش اللبناني، وتسليم سلاحه له
تشكل إسرائيل تهديدا متواصلا لحزب الله، الأمر الذي يثير ترحيب الحزب ولبنان. ولا يزال وليد جنبلاط، الذي ينتمي للمذهب الدرزي، ينتظر الإطاحة بنظام الأسد. فليحاول أحد أن يشرح كل هذه المعطيات لدونالد ترامب. فقبل سنة واحدة فقط، أشاد الرئيس الأمريكي بوقوف الحريري في الصف الأمامي لمحاربة حزب الله”، لكنه لا يدري أن الحريري المسكين يجلس إلى جانب وزراء حزب الله في مجلس الوزراء اللبناني.
يواصل الأمريكيون والسعوديون مناشدتهم غير المجدية للبنان، التي تنص على ضرورة نزع سلاح حزب الله الشيعي وتفكيكه وإدماجه مع الجيش اللبناني، وتسليم سلاحه له. ويحظى حزب الله بالدعم العسكري من قبل إيران( سبب كل شر) وعدو إسرائيل ( سبب الخير كله) وحليفتها سوريا (التي ما زال الأمريكيون يريدون الإطاحة بنظامها الحالي، من الناحية النظرية، بسبب الهجمات الكيميائية التي شنها على شعبه). وفي المقابل، لن يهاجم أي جندي لبناني، وبالأخص الشيعة، أخوته وأخواته الشيعة في جنوب لبنان من أجل خدمة مصلحة الأمريكيين والسعوديين أو الإسرائيليين.
إن الدعم الأمريكي للبنان متواصل. فقبل شهرين فقط، أدى قائد الجيش اللبناني جوزيف عون زيارة إلى واشنطن لمناقشة ملف “التعاون في مكافحة الإرهاب”، وذلك بعد مرور بضعة أشهر فقط من قيام جنوده وحزب الله (الذي تصنفه وزارة الخارجية الأمريكية ضمن قائمة المنظمات الإرهابية) بالمساعدة في طرد المتطرفين من منطقة عرسال، التي تقع شمال شرق لبنان.
على إثر ذلك، أعطى الأمريكيون الجيش اللبناني أربع طائرات هجومية خفيفة من طراز “إمبراير 314 سوبر توكانو إي إم بي”، التي تعد قوية بما يكفي للقضاء على عناصر تنظيم الدولة، لكنها ضعيفة بما يكفي كي لا تشكل تهديدًا لإسرائيل. وتبلغ قيمة المساعدات العسكرية الأمريكية إلى لبنان 70 مليون دولار في السنة، وهي قليلة مقارنة بقيمة المساعدات التي تقدمها إلى الجيش المصري التي بلغت 47 مليار دولار على مدى 40 سنة، لكنه مع ذلك لا يستطيع وضع حد لتمرد تنظيم الدولة الحالي في سيناء. وقد أوضح الأمريكيون أن واشنطن سوف تتوقف عن تقديم المساعدات العسكرية لبيروت في اللحظة التي يميل فيها اللبنانيون إلى الإغراءات الإيرانية.
على الرغم من تدهور وضعهم الاقتصادي، ظل الإيرانيون يقدمون الدعم المالي للبنان أكثر من الأمريكيين، إلى جانب الأسلحة والمساعدات الزراعية والصناعية. وبعد إبرام عدد من الاتفاقيات العسكرية والدفاعية الجديدة مع سوريا، و”الدور الإنتاجي” الذي ستلعبه إيران في إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب، وذلك وفقا لتصريحات وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي، ناهيك عن إعادة بناء المنشآت العسكرية السورية، والقواعد الجوية والمدارس والمستشفيات (التي تشبه في جزء منها خطة مارشال)، يجب دمج الموارد المالية ورؤى كلا البلدين.
رحب اللبنانيون بأخبار استعادة الحكومة السورية السيطرة على معبر نصيب الحدودي السوري الأردني، نظرا لأن ذلك من المؤكد أن يساهم في إعادة فتح المعبر البري الوحيد للصادرات اللبنانية إلى الأردن والخليج
عندما تكون على دراية بكل هذه المعطيات المذكورة آنفا، لن تصدق أنه تم إقالة وزير الاقتصاد الإيراني هذا الأسبوع. ولا حاجة للقول إن الروس يريدون حصتهم في إعادة إعمار سوريا، وكذلك اللبنانيون. وفي لبنان، قدّم الروس عرضا يقتضي بإعادة عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى وطنهم تحت ضمانات أمنية. وتعد هذه الأخبار جيدة للرئيس عون ووزير خارجيته جبران باسيل (الذي يعد صهر عون)، الذين يريدون التخلص من مخيمات اللاجئين السوريين المنتشرة في جميع أنحاء لبنان والمساعدة في إعادة “التطبيع” مع سوريا.
لكن، يعارض الأوروبيين والأمم المتحدة هذا المقترح، لأنهم سيضطرون إلى المشاركة في هذه العملية للتأكد من عدم تعرض اللاجئين للاعتقال لحظة عبورهم للحدود الروسية، ناهيك عن أنهم يريدون تجنب “تطبيع” روسيا مع سوريا تحت حكم الأسد خلال فترة ما بعد الحرب.
في الأثناء، يريد السوريون استئناف علاقاتهم السابقة مع لبنان بفارغ الصبر ويأملون أن يقاوم اللبنانيون، وخاصة الحريري، هذا النوع من المقترحات. وعلى الرغم من حالات انقطاع التيار الكهربائي التي تحدث بصفة متواصلة في سوريا، إلا أنها تقوم بمدّ لبنان بالكهرباء. وقد رحب اللبنانيون بأخبار استعادة الحكومة السورية السيطرة على معبر نصيب الحدودي السوري الأردني، نظرا لأن ذلك من المؤكد أن يساهم في إعادة فتح المعبر البري الوحيد للصادرات اللبنانية إلى الأردن والخليج. ولكن في الواقع كان هناك مقابل لذلك.
في هذا السياق، أدلى سفير سوريا في بيروت علي عبد الكريم علي، بتصريحات ذات نزعة بعثية هذا الأسبوع، مفادها: “يبحث الأعداء في الوقت الراهن عن طرق لوضع كبريائهم جانبا”، وقال في إشارة إلى لبنان، “لكن ماذا عن البلد الشقيق الذي تقع حدوده البرية مع سوريا، بالإضافة إلى فلسطين المحتلة؟ (وهو يشير بذلك إلى إسرائيل). وأضاف المصدر ذاته “سوريا بالطبع بحاجة إلى لبنان، لكن لبنان يحتاجها أكثر”.
يحتاج لبنان، الذي بلغت قيمة ديونه 80 مليار نتيجة سياسات والد سعد الحريري، رفيق الحريري، إلى المملكة العربية السعودية. لكن ماذا عن روسيا؟
بعد ذلك، وردت تقارير غير مؤكدة ولكنها محبطة لمعسكر الحريري المؤيد للسعودية، تفيد بأنه بات بإمكان اللاجئين العائدين عبور معبر نصيب الحدودي، بيد أنه لم يسمح بعد بمرور الشاحنات اللبنانية التي تحمل صادرات البلاد من الفاكهة والخضار. وقد اعتبر الحريري هذه الحركة بمثابة ابتزاز. وأكثر ما زاد من سخط اللبنانيون انتشار صور تظهر تمركز الشرطة العسكرية الروسية بالإضافة إلى القوات السورية عند حدود نصيب.
إذا كان لبنان بحاجة إلى سوريا أكثر من حاجة سوريا إلى لبنان، فأنا أفترض أن لبنان بحاجة إلى الولايات المتحدة أكثر من حاجة الولايات المتحدة له، لكن في الوقت ذاته تحتاج إيران إلى لبنان أكثر من حاجة لبنان إليها. من جانب آخر، يحتاج السعوديون إلى لبنان لأنهم يستطيعون استخدام الحريري كرئيس صوري ضدّ محور حزب الله الشيعيّ السوريّ، ما سيساعدهم بدوره على إلحاق الأذى بالشيعة الإيرانيين.
يحتاج لبنان، الذي بلغت قيمة ديونه 80 مليار نتيجة سياسات والد سعد الحريري، رفيق الحريري، إلى المملكة العربية السعودية. لكن ماذا عن روسيا؟ من المؤكد أنه بسبب قوة أسطولها الذي يرسو قبالة مدينة طرطوس الساحلية السورية، لا تحتاج روسيا لأي أحد. ربما كان ذلك الوزير الأيرلندي، فرانك أيكن، الذي شارك في حرب الاستقلال الأيرلندية والحرب الأهلية الأيرلندية، على حق سنة 1940 عندما قال إن “الحياد يعد شكلا من أشكال الحرب المحدودة”.
المصدر: الإندبندنت