غيرت شركة “غوغل” شعار موقع محرك البحث الخاص بها، كما هو معهود عنها في المناسبات المختلفة، بصورة للعالم والفيلسوف المسلم “أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد”، الشهير بـ “ابن رشد” احتفالاً بالذكرى الـ888 لميلاده.
ولا شك أن “ابن رشد” هو أحد كبار الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية، وقد ترك للإنسانية مآثر علمية جليلة استفادت منها بلاد الغرب التي تنعم الآن بحضارة راقية؛ إذ كان لابن رشد وغيره من علماء العرب والمسلمين فضلاً كبيرًا في بناء قاعدة تلك الحضارة.
ولد “أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي” في قرطبة بالأندلس، وعاش في الفترة بين 520-595 هجرية (1126-1198 م)؛ ويسمِّيه الغربيون Averroès. كان ينحدر من سلالة من المتبحِّرين والقضاة اللامعين؛ فجد ابن رشد وسميُّه كان قاضيًا صنَّف في الفقه وله فتاوى بنوازل عصره ذات مكانة عالية، وقد تسلَّم والد ابن رشد أيضًا القضاء؛ لكن لِما شُهِرَ به جده ولِما حظي به من مكانة، وكيما يُميَّز عنه، يضاف في العادة إليه لقب “الحفيد” ويضاف إلى جدِّه لقب “الجد”.
بحث ابن رشد كثيرًا في الفلسفة، ولكنه لم يهمل الحقول المعرفية الأخرى، فعكف على القراءة والكتابة، إذ يُروى عنه أنه لم ينقطع عن القراءة والكتابة إلا في ليلتين: إحداهما كانت يوم وفاة والده، والثانية كانت ليلة زواجه! وقد ألَّف ابن رشد في الفيزياء والفلك والطب والفلسفة وغيرها.
زار ابن رشد مدينة مراكش عاصمة الموحدين مرات، كانت أولها – فيما يبدو – سنة 548 هـ (1153 م) أيام عبد المؤمن بن علي، ويبدو أن ابن رشد كان منذ ذاك الحين على صلات طيبة بآل زهر، ولعل انصراف ابن رشد عن التكسب بالطب هو الذي زوى عنه منافسةَ آل زهر وعداوتهم وأكسبه صداقتهم. وقد توثقت صلة ابن رشد بأبي مروان ابن زهر، فاتفقا على أن يؤلِّفا معًا كتابًا جامعًا في الطب يضع ابن زهر “جزئياته” أو الجانب العملي منه، وقد وفى ابن رشد بما كان الطبيبان قد اتفقا عليه ووضع كتاب الكليات (557 هـ – 1162 م) ولكن ابن زهر لم يجد من وقته المملوء بالتطبيب ما يوفِّره على وضع الكتاب المطلوب، فوضع لابن رشد كتابًا آخر اسمه التيسير في المداواة والتدبير وهو من الكتب التي اشتهرت كذلك.
وفي سنة 548 هجرية، قدمه ابن طفيل إلى أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الذي يُعَدُّ المؤسِّس الحقيقي لدولة الموحدين، وكان الفيلسوف ابن طفيل ذا تأثير على هذا السلطان، إذ كان السلطان يعتمد عليه في جلب العلماء والحكماء إلى بلاطه، وكان بين هؤلاء الفيلسوف “ابن رشد” وكان لا يزال في دور الشباب.
ولما طعن ابن طفيل في السن، حلَّ ابن رشد محلَّه في الطبابة للخليفة في العام 578 هـ (1182 م)، بيد أن ذلك لم يكن ليؤدي إلى انقطاع الصلة بين السلطان والفيلسوف. وبهذا نستطيع أن نعتبر ابن رشد “شارح” المعلِّم الأول أرسطو، وأكبر الفلاسفة الشرَّاح أثرًا في الغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين.
ولقد بالغ سلطان الموحدين يعقوب المنصور في إكرام ابن رشد بعد وفاة والده، ولكن الدهر أبى أن ينعم بال الحكيم ابن رشد؛ إذ سعى به أعداؤه إلى الأمير ورموه عنده بالزندقة والمروق فنفاه وسائر الفلاسفة من أرضه، ثم عاد الأمير إلى نفسه، فاستدعاه إلى مراكش واعتذر إليه وظاهر نعمته عليه، ولكن الفيلسوف ما لبث أن توفي بمراكش سنة 595 هجرية – 1198 ميلادية.
أما عن أفكاره، فتدور فلسفة ابن رشد على قِدَمِ العالم وعلم الله وعنايته والميعاد وحشر الأجساد، فعنده أن العالم مخلوق وأن الخلق خلق متجدد به يدوم العالم ويتغير، وأن الله هو القديم الحقيقي، فاعل الكل وموجِده والحافظ له، وذلك بتوسط العقول المحرِّكة للأفلاك، وعنده أن الله عقل ومعقول معًا، وأن علم الله منزَّه عن أن يكون علمًا بالجزيئات الحادثة المتغيرة المعلولة أو علمًا بالكلِّيات التي تُنتزَع من الجزئيات، فكلا العلمين بالجزئيات والكليات حادث معلول، أما علم الله فعلم يوحِّد العالم ويحيط به، فيكفي أن يعلم الله في ذاته الشيء ليوجد ولتدوم عناية الله به وحفظُه الوجود عليه.
ويرى ابن رشد أن يعمل الإنسان على إسعاد المجموع، فلا يخص شخصه بالخير والبر، وأن تقوم المرأة بخدمة المجتمع والدولة كما يقوم الرجل، والمصلحة العامة في نظره هي مقياس قيم الأفعال من حيث الخير والشر وإن كان العمل خيرًا أو شرًّا لذاته، والعمل الخلقي هو ما يصدر عن عقل وروية من الإنسان، وليس الدين عنده مذاهب نظرية بل هو أحكام شرعية وغايات خلقية بتحقيقها يؤدي الدين رسالته في خضوع الناس لأوامره وانتهائهم عن نواهيه.
وقد اهتم ابن رشد بالحركة وملازمتها للزمن في الأجسام وملازمتها للفراغ ومعنى الميل، وقد قادت تلك الأفكار إلى علم الديناميكا، واعترف “كولومبوس” مكتشف أمريكا بخط يده أنه كان لمؤلفات ابن رشد الفضل الكبير في وصوله إلى أمريكا، وقد أورد رينان ما يثبت هذه الحقيقة.
ولابن رشد مؤلفات عدة صُنفت في أربعة أقسام: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، وكتب أدبية ولغوية، لكنه اختص بشرح كل التراث الأرسطي.
وقد أحصى جمال الدين العلوي 108 مؤلفًا لابن رشد، وصلنا منها 58 مؤلفًا بنصها العربي.
ومن أشهر كتبه كتاب “تهافت التهافت” و كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” وردوده على الإمام الغزالي في كتب “الضميمة” و”فصل المقال” و”تهافت التهافت”، وله أيضًا كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في الفقه وكتاب “الكليات” في الطب.