تنظر الأجيال الشابّة في يومنا هذا إلى السفر على أنه تجربة غنية تساعده في البحث عن هويّته وذاته، وتمدّه بالمهارات الثقافية وتفتح له أبوب المجهول بسهولة. ما يعني أنّ ثمّة اختلافًا كبيرًا في الطريقة التي تتعامل بها هذه الأجيال، أو جيل الألفية على وجه التحديد، مقارنةً بأسلافهم، لا سيّما مع تأكيد الشعور بالفرديّة والفردانية الذي يسيطر على أفراده.
بدايةً، يعرّف جيل الألفية، ويشار إليه أيضًا باسم الجيل “واي Y “، بأنه المجموعة السكّانية التي وُلدت بين أوائل الثمانينات ولغاية العام 2000 على أقل تقدير. إذ تتراوح أعمارهم في هذا العام ما بين 18 و34 عامًا. وفقا لتوقعات “الاتحاد العالميّ للشباب والسفر (WYSE)، فسيكون هناك 370 مليون مسافر شابّ ينتمي إلى جيل الألفية، بحلول عام 2020، بمعدّل إنفاق أكثر من 400 مليار دولار.
يميل جيل الألفية اليوم إلى رحلات استكشاف وجهاتٍ أبعد، كما أنّهم يفضّلون استئجار البيوت بدلًا من الفنادق أثناء رحلاتهم
وفي دراسةٍ مسحية أجراها الموقع نفسه شملت أكثر من 34 ألف شخصٍ من 137 دولةٍ مختلفة، فقد تبيّن أنّ الشباب لا يبدون اهتمامهم بعطلات الشمس والبحر التقليدية كما اعتادت الأجيال السابقة أنْ تفعلْ. إذ يميل جيل الألفية اليوم إلى رحلات استكشاف وجهاتٍ أبعد، كما أنّهم يفضّلون استئجار البيوت بدلًا من الفنادق أثناء رحلاتهم، ويقومون برحلاتٍ طويلةِ المدى بدلًا من رحلات الأسبوع أو الأسبوعين التي اعتاد الجيل الأكبر سنًا القيام بها. وأظهرت الدراسة أيضًا زيادةً في عدد المسافرين من الشباب الذين يقومون برحلات تستمرُّ لأكثر من شهرين.
يفضّل جيل الألفية السفر على الاستقرار وشراء منزل والزواج والإنجاب
ولو عدنا بذاكرتنا إلى ما قبل العشر سنوات على أقل تقدير، لوجدنا فعلًا أنّ هذا الاهتمام المتزايد بالسفر لم يكن معروفًا أو منتشرًا بين الأفراد في المجتمعات المختلفة. أو بالأحرى، يمكنّنا القول أنّ تلك المحاولات والخطوات كانت تأتي بشكلٍ فرديّ، قبل أنْ تتحوّل في السنين الأخيرة إلى ما يمكن تسميته بهوسٍ جماعيّ تدعمه مواقع التواصل الاجتماعيّ من جهة، ومواقع السفر والطيران من جهةٍ أخرى.
إذ خلقت تلك المواقع، مثل Airbnb, Couchsurfing, Skyscanner، وغيرها الكثير، شعورًا للأفراد بأنّ السفر لم يعد بتلك الصعوبة التي كان عليها، فتستطيع اليوم العثور على الكثير من الخيارات الرخيصة والتي تناسب كافة الميزانيات، بدءًا من تذاكر الطيران ومرورًا بأجور البيوت أو الفنادق، وحتى المصاريف اليومية. كما أنّ تعدّد الرحلات المخصّصة قد دعم هذا التحوّل في طبيعة السفر، إذ يبحث الأفراد اليوم عن تلك الرحلات التي تلبّي احتياجات معيّنة، مثل التصوير الفوتوغرافي أو ركوب القوارب أو تسلّق الجبال، وجميعها أصبحت خياراتٍ بات من السهل الوصول إليها وتحقيقها.
حقبة “صلاة، طعام، حب”: السفر كوسيلة لتحقيق الذات
شجعت أفكار التنمية البشرية وعلم النفس الإيجابيّ والتي تدعو إلى “عيش اللحظة” واستغلالها هذا التحوّل الكبير. فقد بات الجيل ينظر إلى الاستقرار والزواج وإنجاب الأطفال بوصفها أفكارًا مؤجلة نظرًا لكونها قد تعيق مبدأ استغلال اللحظة واكتشاف الذات والبحث عنها من خلال السفر والتجوال. وبجولةٍ واحدة على موقع انستجرام، ستجد بكلّ تأكيد من يتحدث عن رحلته في ترك وظيفته وكلّ شيءٍ خلفه وحزم أمتعته ليبدأ بعدها رحلة اكتشاف الذات.
ففي فيلم “طعام، صلاة، حب“، المأخوذ من رواية تحمل نفس الاسم أيضًا، تترك البطلة كلّ شيءٍ خلفها من زواجٍ ووظيفة وأصدقاء، لتبدأ رحلة البحث عن الذات حول العالم بعدما سئمت من اللاجدوى وغياب المعنى اللذين يطغيان على حياتها. ما في فيلم “إلى البرية“، يترك البطل حياة البذخ والراحة التي يعيشها ليبدأ حياة التجوّل والترحال باحثًا عن هدفه في الحياة وراغبًا باكتشاف ذاته وأناه بعيدًا عن الماديات والتكنولوجيا التي تسيطر على هذا العصر.
جوليا روبرتس في فيلم “طعام، صلاة، حبّ”
وما بين قصص الأفلام والروايات من جهة، وتجارب الواقع من جهةٍ أخرى، قد يجد المرء نفسه محصورًا بين السؤال عن قدرة السفر فعلًا على كشف الذات وسبر اغوارها ومدّها بالحرية والتجربة، وبين إيمانه بكون الأمر مجرّد كليشيه كالكثير من الكليشيهات المنتشرة بين الناس، وساعدت السينما والسوشيال ميديا على انتشارها وتغللها أكثر وأكثر.
لكن، لو استعنا بنظرية “التحديد الذاتيّ” في علم النفس، لوجدنا أنّ لدى الأفراد دافعًا فطريًا نحو النمو والتغيير يتحدد من خلال ثلاث حاجاتٍ نفسية يشتركون بها جميعًا وتنطوي على الكفاءة أو القدرة على العمل بفعالية ممكنة، وحرية الاختيار الذاتي أو مسؤولية الفرد عن قراراته وسلوكياته الخاصة، ثمّ الارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات معهم.
ينظر الأفراد للسفر بوصفه وسيلةً لتحقيق الذات نظرًا لكون يحقّق الحاجات الثلاث الرئيسية لذلك، خاصة حرية الاختيار والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات.
ولو أسقطنا هذه النظرية على السفر، لوجدنا أنّ الأفراد باتوا ينظرون إليه بوصفه وسيلةً لتحقيق الذات نظرًا لكون يحقّق الحاجات الثلاث الرئيسية لذلك، خاصة حرية الاختيار والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات. ولعلّ الأمر يرجع بشكلٍ أو بآخر إلى أنّ السفر إلى كلّ تلك الأماكن غير المألوفة تجعل من الشخص أكثر انفتاحًا وصراحةً مع نفسه، إذ يجدها خارج مجتمعه ودائرته التي كانت تقيّده وتُخضعه لقوانينها وعاداتها وقواعدها المختلفة التي ولا بدّ قد لا يجد نفسه تنتمي إليها لكنّه لا يستطيع الفكاك منها. فيجد نفسه حرًا في ذاته وقراراته وخياراته وأفعاله وعلاقاته بالأخرين من حوله.
جيلٌ يبحث عن تجربة
في حين أنّ الأجيال السابقة قد ركّزت على الاستقرار وبناء الأسرة بما يترتّب عليها من شراء منزل وسيارة خاصة، إلا أنّ جيل الألفية بدأ ينظر إلى هذه الإنجازات التقليدية بصفتها أولوية متأخرة، حيث يولون اهتمامهم أكثر بكلّ ما يمكن أن يمدّهم بتجربةٍ بشرية أو إنسانية، مما يضع أهمية أكبر على اللحظات والإنجازات غير الملموسة في الحياة؛ مثل السفر.
ينظر جيل الألفية للسفر على أنه ضرورة ملحّة وجزء لا يتجزأ من الحياة، إذ لم يعد مجرّد رفاهية أو وقتٍ مستقطع بين أوقات الحياة العادية، بل هو فرصة مهمّة للبحث عن الذات وتطوير مهارات النفس والعمل. وبكلماتٍ أخرى، أصبح السفر بالنسبة لجيل الألفية تجربةً ملحّة وأولوية أساسية تفوق الكثير من الأولويات، فهو الوسيلة الأنجع والأفضل للانغماس في ثقافات وخبرات وتجارب جديدة.
يولي جيل الألفية اهتمامًا بكلّ ما يمكن أن يمدّه بتجربةٍ إنسانية، مما يضع أهمية أكبر على اللحظات والإنجازات غير الملموسة في الحياة؛ مثل السفر.
ووفقًا لاستطلاعٍ أجراه موقع Realty Mogul، فقد تبيّن أنّ 47٪ من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 34 عامًا يفضلون إنفاق أموالهم على السفر والتجوال أكثر من شرائهم لمنزلٍ ما على سبيل المثال. وعلى الرغم من كون شريحة المستهدفين من الدراسة قد تكون منحصرة، إلا أنها تستطيع أنْ تخبرنا أنّ ثمة تحولًا كبيرًا يمكن إسقاطه على معظم الشباب حول العالم من الذين يفضّلون إنفاق أموالهم على رحلةٍ ما، أو حفلة موسيقية، أو تناول الطعام في الخارج، أو مسيرة مشيٍ في الطبيعة، بدلًا من إنفاقها على شراء الأشياء كالبيت أو السيارة.
السفر كسلعةٍ استهلاكيةٍ أخرى
تعمل مواقع التواصل الاجتماعيّ ومواقع السفر المختلفة إلى نشر تلك المعادلة القائلة بأنّ “السفر = إيجابيةً أكثر+حكمة أكثر+سعادة أكثر”، الأمر الذي يجعلنا نتساءل حقًا عن جوهر السفر وحقيقته التي باتت تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى جزء من السباق الرأسماليّ والاستهلاكيّ الذي يسيطر على معظم جوانب حياتنا في العالم الحديث. لا سيّما وأنّ السفر أصبح كهوسٍ أكثر منه كتجربة خاصة، وبات مع الوقت “حاجةً” مدفونةً يخلق غيابها نوعًا من التوتر والقلق، فكم من مرةٍ سمعت أحدهم يقول أنه بحاجةٍ إلى مزيدٍ من السفر حتى يتخلّص من قلقه وإجهاده؟
أصبح السفر كهوسٍ أكثر منه كتجربة خاصة، وبات مع الوقت “حاجةً” مدفونةً يخلق غيابها نوعًا من التوتر والقلق
جيل الألفية هو جيلٌ مهووسٌ بالسفر. خاصة حين يتمّ اختزال التجارب على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أشخاص محدّدين يُطلقون على أنفسهم لقب “رحّالة”، ويروّجون للفكرة القائلة بأنّ السفر يأتي بالسعادة والحكمة، بطريقةٍ تعزّز أناهم ونرجسيتهم المتضخمة من جهة، وتخلق سلوكًا سلبيًا لدى الآخرين بمقارنة أنفسهم معهم، تمامًا مثل معظم ما يتمّ تداوله على تلك المواقع من قصص شخصية وتجارب فرديّة.
تعمل مواقع التواصل الاجتماعي والشركات الرأسمالية إلى تحويل السفر لسلعةٍ استهلاكية أخرى
وممّا لا شكّ فيه أبدًا، أنّ السفر يعمل بالفعل على تقديم تجربةٍ فريدة للذات، ويجعل النفس أكثر انفتاحًا على العالم والثقافات المختلفة، ما يقدّم للنفس إمكانياتٍ ومهاراتٍ عالية في الحياة. لكنْ بالنهاية، فثمّة اختزالٌ كبير في جوهر السفر والفكرة الأساسية من ورائه، تدعمه وسائل التواصل الاجتماعيّ وتسيّره الشركات الرأسمالية والاستهلاكية التي تحاول التحكّم في رغبات الأفراد وحاجاتهم.