تزداد الأهمية الإستراتيجية لمنطقة التنف (عند المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن) خلال الفترة الأخيرة، يومًا تلو الآخر، خاصة بعدما تحولت إلى مطمع للقوات الأمريكية والفصائل المدعومة منها من جانب، وإيران وميليشياتها سواء داخل سوريا أم العراق من جانب آخر، غير أن الأيام الأخيرة شهدت بعض التطورات التي تشي باحتمالية نشوب مواجهة مسلحة في هذه المنطقة قريبًا.
الأمريكان منذ عام 2017 أقاموا قاعدة عسكرية قرب معبر التنف داخل سوريا، بهدف إغلاق تلك المنطقة الحيوية حتى معبر القائم شمالًا، وإحكام السيطرة على الطرق الدولية من وإلى العراق، هذا في ظل ما يثار بشأن مسؤولية شركات أمنية أمريكية عن تأمين الطريق الدولي بين بغداد وعمان بحجة حماية المنشآت الاقتصادية المزمع بناؤها على هذا الطريق.
الأسابيع القليلة الماضية شهدت تعزيزات عسكرية أمريكية مدفوعة إلى تلك المنطقة، في مقابل أخرى إيرانية، وهو ما دفع البعض إلى الحديث عن احتمالية نشوب مواجهة بين القوات الأمريكية المتمركزة هناك وقوات “الحشد الشعبي” العراقية المدعومة من طهران، في إطار التراشق السياسي والإعلامي بين طهران وواشنطن خلال الفترة الأخيرة الذي وصل إلى حد التهديدات العسكرية.
تصاعد التوتر
تصاعدت مستويات التوتر خلال الفترة الأخيرة بصورة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، خاصة بعد إقرار واشنطن حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد طهران في إطار انسحابها من الاتفاق النووي الموقع في 2015، وهو ما دفع الأخيرة إلى الرد على هذه الخطوة بأكثر من صورة.
التراشق السياسي بين الرئيسين، دونالد ترامب وحسن روحاني، الذي تجاوز حاجز المألوف، تحول خلال الأيام الأخيرة من منصات السوشيال ميديا والإعلام إلى ميادين الصراع، البحرية منها والبرية، ووصل إلى تلويح واشنطن بمنع تصدير النفط الإيراني من مضيق هرمز، ليرد عليه قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني بأن بلاده ستمنع مرور أي شحنات نفط في المضيق حال أقدمت الولايات المتحدة على ذلك.
إن لم تكن المواجهة العسكرية المباشرة متاحة في الوقت الراهن فإن ذلك لا يحول دون نشوب حروب بالوكالة أو فوق أراض محايدة
في الأول من أغسطس/آب الماضي أجرت القوات البحرية لحرس الثورة الإيرانية مناورات كبرى في الخليج العربي ومضيق هرمز، كرد فعل على تهديدات ترامب، حسبما أشارت وكالة “فارس” الإيرانية التي كشفت أن الهدف من هذه العمليات “الحفاظ والرقي بالقدرات الدفاعية الشاملة لتوفير الأمن المستديم لممر الخليج العربي ومضيق هرمز المائي، وبما يتناسب مع تهديدات ومغامرات الأعداء المحتملة” كما جاء على لسان القائد العام للحرس اللواء محمد علي جعفري.
الوكالة ذاتها نقلت عن قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل قوله إن تلك التدريبات كانت بمثابة “رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة”، مضيفًا “هذا التمرين كان ردة فعل للعقوبات الجديدة التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترمب ضد الإيرانيين الذين أرادوا إظهار أنهم قادرون على إغلاق المضيق”، وتابع: “أعتقد أنه من الواضح لنا أنهم كانوا يحاولون استخدام هذا التمرين لإرسال رسالة إلينا مفادها أننا نقترب من فترة العقوبات، وأنه لديهم بعض القدرات”.
الحديث عن توجيه ضربة عسكرية أمريكية لإيران بأسلوب مباشر طُرح بشكل مكثف على موائد النقاش خلال الفترة الأخيرة، غير أن المستجدات الإقليمية والدولية بالإضافة إلى الضغوط الممارسة ضد حكومتي البلدين، كان لها دور محوري في تأجيل البت في هذا المقترح خشية ما يمكن أن يترتب عليه من تبعات.
إلا أن هذا لا يمنع تربص كلا الطرفين بالآخر في محاولة للحصول على انتصار هنا أو هناك، وإن لم تكن المواجهة العسكرية المباشرة متاحة في الوقت الراهن فإن ذلك لا يحول دون نشوب حروب بالوكالة أو فوق أراض محايدة، هي بالطبع ساحة للصراع، فالولايات المتحدة تهدف إلى تقليم أظافر إيران في العراق وسوريا، فيما يخطط الإيرانيون إلى تقليل الحضور الأمريكي في المنطقة إلى أقل مستوياته كما حدث في العراق في أعقاب هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
مناورة عسكرية إيرانية في مضيق هرمز فسرها أمريكيون بأنها رد فعل على تهديدات ترامب
معسكران وحكومة
أسالت الانتصارات الناجمة عن هزيمة “داعش” في العراق نهاية العام الماضي لعاب كل من أمريكا وإيران، حيث سارعت الأولى إلى الحديث عما يسمى “إعادة تموضع قواتها” في بلاد الرافدين، وأشارت إلى انسحاب الغالبية العظمى من قواتها مع تمسكها بضرورة الإبقاء على بعضها لدواع لم تكشف النقاب عنها بصورة واضحة.
فيما دفعت إيران إلى إعادة الحديث مرة أخرى عما أسمته “الهلال المقاوم” وهو الشريط الممتد من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق، معتبرة أنه بات أحد المسلمات التي يجب على الأمريكان وحلفائهم الاعتراف بها، خاصة بعد الدور الذي قامت به قوات الحشد المدعومة إيرانيًا في هذه المعركة.
الإيرانيون بداية الأمر عولوا على موقف حكومة حيدر العبادي – رغم الخلاف بينهما – المنادي دائمًا بضرورة إخراج القوات الأجنبية من العراق، على رأسها القوات الأمريكية، حتى إن لم يسمها بـ”الاحتلال”، ومن ثم كانت زيارة رئيس الوزراء العراقي لطهران أكتوبر/تشرين الأول الماضي التي تلقى خلالها تحذيرات من المرشد الإيراني بشأن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأن واشنطن ستوجه ضربة للعراقيين إذا سنحت لها الفرصة.
استمرت العلاقات بين العبادي وطهران تسير على هذه الوتيرة التي يضمن بها رئيس الحكومة العراقية ولاية ثانية، غير أن الانتخابات التشريعية التي أجريت في 12 من مايو/أيار الماضي كان لها مفعول السحر في إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية لدى العبادي الذي اختار أن ينحاز إلى الطرف المناوئ لإيران ومن ثم كان إلغاؤه لزيارة لإيران التي كان مقررًا لها الشهر الماضي مكتفيًا بزيارة أنقرة فقط، فيما اعتبره آخرون انحيازًا واضحًا للمعسكر الأمريكي بعدما تضاءلت فرصه في الحصول على فترة جديدة في رئاسة الحكومة.
تحسين الأجواء بين العبادي وواشنطن دفع البعض إلى اعتبار موقفه انحيازًا واضحًا للمعسكر الأمريكي على حساب نظيره الإيراني، بعدما تضاءلت فرصه في الحصول على فترة جديدة في رئاسة الحكومة، ومن ثم كانت الاتهامات بتأمينه للغطاء السياسي للوجود الأمريكي على الحدود العراقية في هذه المنطقة الإستراتيجية.
الأمر كان واضحًا لأجهزة الاستخبارات العراقية بأن تلك الترسانة من الصواريخ التي مصدرها إيران لم تكن لغرض محاربة داعش لكنها ورقة ضغط تستخدمها إيران عندما تدخل في صراع إقليمي
طهران تستعد
تزامنًا مع التعزيزات العسكرية الأمريكية عند منطقة التنف الحدودية، قال 3 مسؤولين إيرانيين ومصدران بالمخابرات العراقية ومصدران بمخابرات غربية إن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى لحلفاء بالعراق خلال الأشهر القليلة الماضية، حسبما نقلت وكالة “رويترز“.
مسؤول إيراني من الـ3 أشار للوكالة تعليقًا على هذه الخطوة بأن المنطق هو أن تكون لإيران خطة بديلة إن هوجمت، وأضاف “عدد الصواريخ ليس كبيرًا، مجرد بضع عشرات، لكن بالإمكان زيادته إن تطلب الأمر”، فيما أشار مصدر بالمخابرات العراقية أن قرارًا اتخذ قبل نحو 18 شهرًا بالاستعانة بفصائل مسلحة لإنتاج صواريخ في العراق، لكن النشاط زاد في الأشهر القليلة الماضية بما في ذلك وصول قاذفات صواريخ.
مصدر بالمخابرات العراقية أشار إلى أن مصنع الزعفرانية أنتج رؤوسًا حربية ومادة السيراميك المستخدمة في صنع قوالب الصواريخ في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، مضيفًا أن جماعات شيعية محلية (في إشارة إلى الحشد الشعبي) جددت نشاط المصنع عام 2016 بمساعدة إيرانية.
وعن علم بغداد بهذه التحركات، قال مسؤول آخر إن السلطات العراقية على علم بتدفق تلك الصواريخ، وإن كان الهدف منها بداية الأمر محاربة تنظيم “داعش” فإن الشحنات استمرت في الوصول حتى بعد دحر التنظيم وهزيمته في الموصل، مضيفًا “الأمر كان واضحًا لأجهزة الاستخبارات العراقية بأن تلك الترسانة من الصواريخ التي مصدرها إيران لم تكن لغرض محاربة داعش، لكنها ورقة ضغط تستخدمها إيران عندما تدخل في صراع إقليمي”.
وتابع “إيران بالتأكيد ستستخدم الصواريخ التي أرسلتها إلى الميليشيات التي تساندها لغرض إرسال رسالة قوية لأعدائها في المنطقة وإلى الولايات المتحدة، مفادها أنها تمتلك القدرة على استخدام الأراضي العراقية منصة إطلاق لصواريخها لتوجيه ضربة في الزمان والمكان الذي تختاره”.
يذكر أن الصواريخ التي أرسلتها إيران على الحدود هي من طراز “زلزال” و”فاتح 110″ و”ذو الفقار”، ويتراوح مداها بين نحو 200 و700 كيلومتر، مما يضع الرياض في السعودية وتل أبيب في “إسرائيل” على مسافة تتيح ضربهما إن تم نشر هذه الصواريخ في جنوب العراق أو غربه.
طهران أرسلت صواريخ باليستية لدعم الحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية
هل باتت المواجهة وشيكة؟
من المؤكد أن تعزيز أمريكا لقواتها العسكرية على الحدود العراقية لا يهدف إلى تأمين الطريق الدولي فحسب، بل يأتي في إطار إستراتيجيات الضغط الممارسة لإرهاق الميليشيات التابعة لإيران، سواء في العراق أم سوريا، وهو ما استقر في يقين الإيرانيين كذلك ومن ثم كان الرد عبر التعزيز بصواريخ باليسيتة لقوات الحشد الشعبي في نفس المنطقة.
البعض ذهب في تحليله إلى أن اللحظة الراهنة قد تبدو بالنسبة إلى واشنطن الأفضل من أجل البدء في تنفيذ الهجوم على الميليشيات المدعومة إيرانيًا، في ظل الفراغ الحكومي العراقي وانشغال العراقيين بتشكيل الكتلة النيابية الأكبر من جهة، وتأزم الواضع داخل الأراضي السورية في أعقاب انشغال السوريين بمستقبل إدلب والمجموعات المسلحة هناك من جهة أخرى.
آخرون استبعدوا أي مواجهات مسلحة بين القوات الأمريكية والحشد الشعبي، وإن حدثت فإنها ستكون على مستوى محدود، فالولايات المتحدة وإن كانت تسعى إلى تقليم أظافر إيران الممتدة في مجالات عدة في المنطقة (العراق واليمن وسوريا) وترى أن فرض العقوبات الاقتصادية غير كاف في ظل تعاطف التحالف الروسي الصيني مع الإيرانيين في مواجهة تلك العقوبات، فإنها في الوقت ذاته لا ترغب في توسيع دائرة الصدام حفاظًا على مصالحها في المنطقة.
طهران بدورها لا تحبذ فتح جبهة جديدة من المواجهات العسكرية مع أمريكا رغم التراشق بينهما، وإن كانت تسعى إلى الضغط على القوات الأمريكية المتمركزة في هذه المنطقة عبر المناوشات والتعزيزات لا أكثر، خاصة أنها تعول على وضعية تلك القوات بين كماشة “الحشد الشعبي” في العراق والجيش السوري وميليشياته في الداخل السوري، ما قد يدفعها إلى الانسحاب والتراجع، أو على الأقل يجبرها على إعادة النظر في احتمالية التصعيد وتوجيه ضربة عسكرية ضد الفصائل المدعومة إيرانيًا.