ترجمة وتحرير: نون بوست
بتاريخ 31 آب/ أغسطس من سنة 2010، أعلن الرئيس باراك أوباما نهاية مهمة البعثة القتالية الأمريكية في العراق، معلنا بذلك عن انتهاء حقبة المشاركة العسكرية الأمريكية في البلاد التي بدأت بغزوها سنة 2003 للإطاحة بصدام حسين. وبعد ثماني سنوات، أظهرت الهجمات التي جدت هذا الأسبوع في محافظة الأنبار وكركوك، التي نسبت إلى تنظيم الدولة، مدى صعوبة تحقيق الاستقرار في بلد لم يشهد استقرارًا كبيرًا منذ ذلك الحين، ولا يعزى ذلك لغياب الرغبة في المحاولة.
من المفترض أن زمن تنظيم الدولة قد ولى. ففي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي “النصر النهائي” على تلك الجماعة بعد أن تمكنت قواته المتحالفة مع المقاتلين الأكراد والميليشيات الشيعية، وبدعم من الضربات الجوية الأمريكية ومستشاريها العسكريين، من طرد المتمردين خارج المدن العراقية. وفي ذروة قوته خلال سنة 2014، سيطر تنظيم الدولة على مساحة واسعة من الأراضي الممتدة بين الحدود العراقية والسورية.
من جهتهم، أكد مسؤولون عسكريون أمريكيون أنه حتى الآن طُرد تنظيم الدولة من 98 في المائة من الأراضي التي كانت فيما مضى تحت سيطرته، إلا أنه عاد للظهور وسط العراق، حيث نفذ هجمات في ما وصفته صحيفة “واشنطن بوست” “بأنها تذكر بشكل كبير بالتكتيكات التي ميزت صعود التمرد في السنوات التي سبقت 2014”. ويعود تنظيم الدولة على الرغم من المليارات التي أنفقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها من أجل القضاء عليه.
لا زال العراق مفككا بعد تنظيم الدولة
لقد أسفر هجوم انتحاري وقع هذا الأسبوع في القائم، وهي مدينة تقع بمحافظة الأنبار على مقربة من الحدود السورية، عن مقتل ثمانية أشخاص على الأقل. كما أدى تفجير انتحاري آخر في كركوك إلى مقتل شرطيين. وهو ما يشير إلى أن تنظيم الدولة ينشط في كلتا المنطقتين. حيال هذا الشأن، أكد الخبير في شؤون العراق بمعهد واشنطن مايكل نايتس أن “تنظيم الدولة لم ينته، بل مازال محافظا على نسخته الأولى. وكل ما فعله هو أنه كوّن تمردا مباشرا في كل مكان فقد فيه سيطرته”.
لقد اعتبرت الحكومة العراقية وحلفاؤها أن انتصاراتهم ضد تنظيم الدولة في العام الماضي بمثابة لحظة للاحتفال في بلد يودع سنوات من الاضطرابات، وهم محقون في هذا. لكن وفق نايتس فإن تنظيم الدولة ينظر إلى خسارة المدن العراقية الرئيسية التي كانت تحت سيطرته على أنها حدث هام لامتداد الصراع، “إنهم لا ينظرون إليها على أنها نهاية لعملياته، بل يعتبرونها خطوة لمرحلة جديدة من تلك العمليات”. وتجدر الإشارة إلى أن نايتس زار مؤخراً بغداد والتقى بمسؤولين هناك.
تمثلت الاستراتيجية التي اتبعها تنظيم الدولة السنة الماضية في تشتيت المدنيين والتوغل بينهم
في الواقع، لقد عاد التنظيم الآن إلى المحافظات الثلاث ذات الأغلبية السنية، وهي ديالى وصلاح الدين والأنبار التي كانت فيما مضى خاضعة لهيمنته، لتنفيذ هجمات ثأر قوية. ومن جهته، بين نايتس أن “الأرقام الكمية تفيد بأن تنظيم الدولة ينشط في معظم الأماكن بنفس القدر الذي كان عليه سنة 2013. ولكن من الناحية النوعية، وهي الأهم، يمكنك أن ترى أن تنظيم الدولة قد عاد إلى العنف الموجه الذي سبق وسمح له بالسيطرة على المناطق الريفية سنتي 2012 و2013”.
في سياق متصل، أوضح نايتس الذي درس حالة التمرد التي شهدها العراق عن كثب، أن عدد مختاري القرى الذين يسقطون ضحية المسلحين يعد من أهم المؤشرات التي تكشف عما إذا كان تنظيم الدولة الإسلامية بصدد استعادة قوته في العراق من جديد. وقد أفاد نايتس بأنه على مدار الأشهر الستة الماضية قتل تنظيم الدولة بين ثلاثة وأربعة مختارين كل أسبوع.
أخبرني نايتس أن “هذا يعني أنه في غضون شهر فقط، شهدت 14 قرية مقتل أهم أفرادها من قبل تنظيم الدولة. وهكذا، ستكون قد شهدت 84 قرية مقتل زعيمها من قبل تنظيم الدولة على مدار ستة أشهر، لتكون الحصيلة 168 قرية على مدار سنة، وذلك دون أن تتمكن قوات الأمن من اتخاذ الإجراءات اللازمة”. وفي حال تواصت عمليات القتل على نفس الوتيرة، سيتضاعف هذا الرقم ليصل إلى 500 قرية بحلول سنة 2020، حسب نايتس.
من هذا المنطلق، أورد نايتس “في الحقيقة، سينجر عن ذلك تزعزع ثقة السكان في قوات الأمن. وهكذا، لن يتعاونوا مع قوات الأمن بدافع الخوف، ومن ثم سيتقبلون وجود تنظيم الدولة، وسيتوقفون عن الإبلاغ عنه. وفي النهاية، سيعتبرها أبناؤهم بمثابة القوة العظمى في المنطقة”.
عموما، تمثلت الاستراتيجية التي اتبعها تنظيم الدولة السنة الماضية في تشتيت المدنيين والتوغل بينهم. فقد اعتاد المقاتلون الاختباء في أماكن يصعب العثور عليهم فيها على غرار الكهوف والجبال ودلتا الأنهار. كما عاد تنظيم الدولة إلى اعتماد التكتيكات التي جعلت منه قوة في سنتي 2012 و2013، مثل الهجمات والاغتيالات والترهيب، خاصة خلال ساعات الليل.
إلى جانب ذلك، أشار نايتس إلى أنه “خلال ساعات النهار، قد تجزم بأن جل العراق تقريباً تحرر من قبضة تنظيم الدولة، لكن الأمر مختلف تمام خلال ساعات الليل، الوقت الذي يعزز فيه تنظيم الدولة سيطرته على بعض المناطق أكثر مما يفعل خلال النهار. وإذا تحدثت مع مسؤولين في الحكومة العراقية وجهاز المخابرات في بغداد… سيخبرونك بأن مقاتلي تنظيم الدولة يتمتعون بحرية المناورة ليلا في العديد من المناطق”.
يصف نايتس جماعات تنظيم الدولة التي تضم حوالي 15 ألف مقاتل على أنها “صناعة مطلقة”
مما لا شك فيه، يمثل ذلك تحديا للعراق، الذي ما زال يحاول تشكيل حكومة بعد انتخابات برلمانية حديثة. وقد ساهمت عوامل مثل العقبات التي اعترضت مسار تشكيل الحكومة، والاحتجاجات على الفساد، وتدخل الدول المجاورة، فضلا عن التوترات الطائفية، في زيادة الضغط على الديمقراطية الهشة. وفي حال ظل تنظيم الدولة يتمتع بالقدر ذاته من القوة في المستقبل المرتقب، حينها سيكون من المستحيل على الحكومة ارساء الاستقرار في المناطق السنية، وهي خطوة هامة حتى يتخطى العراق وضعه الحالي.
يتمثل جزء من التحدي الذي يواجه قوات الأمن العراقية في تحويل نفسها من قوة قاتلت واستعادت أراضيها في المدن من قبضة تنظيم الدولة إلى قوة قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة وفعالة من أجل مكافحة التمرد في المناطق الريفية في العراق. وعموما، يتعين على قواتها تقديم ضمانات موثوقة لشيوخ القبائل، غالبا من الطوائف، أو قبائل مختلفة، أو حتى من أجزاء أخرى من البلاد، تؤكد من خلالها أن الإبلاغ عن خلايا تابعة لتنظيم الدولة ليس فقط الخيار الأصح، بل لن تسمح القوات العراقية بأن يمسسهم أي مكروه أيضًا.
من المرجح أن تحقيق هذه الغاية قد يستغرق سنوات، ناهيك عن التكاليف الباهظة. ومن عدة نواح، يعد ما يقوم به تنظيم الدولة أسهل بكثير، “فكل ما على مقاتليهم فعله هو المكوث في أحد الكهوف، وأن [يقرر أحدهم] في إحدى الليالي هذا الأسبوع “دعونا نذهب إلى تلك القرية ونطلق النار على ذلك المختار”. في هذه الحالة، من يحظى بوظيفة أسهل؟”.
تتباين التقديرات حول عدد مقاتلي تنظيم الدولة، فقد قدرت الأمم المتحدة الشهر الماضي أن هناك ما بين 20 و30 ألف مقاتل تابع لتنظيم الدولة في كل من سوريا والعراق، مقسمة بالتساوي بين البلدين. وفي تقرير للكونغرس، حدد المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية أن عدد مقاتلي تنظيم الدولة في العراق يتراوح ما بين 15.500 و17.100 مقاتل (وفي حدود 14 ألف مقاتل متواجد في سوريا). وتتطابق هذه الأرقام إلى حد كبير مع أعداد مقاتلي تنظيم الدولة عندما كان في أوج ذروته سنة 2014.
“المشكلة التي يطرحها وجود جماعات تنظيم الدولة لا تكمن في إمكانية سيطرته على المدن أو منع العراق من تصدير النفط، ولا يتعلق الأمر بقدرته على اغتيال رئيس الوزراء، وإنما في قدرته على جعل عملية إرساء الاستقرار في وسط البلاد وشمالها وغربها مسألة مستحيلة”
في حديثه إلى الصحفيين هذا الأسبوع، رفض رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد تلك التقييمات، مؤكدا أنه كان لديه “ثقة في بعض الإحصاءات فقط وليس في الإحصاءات الأخرى”. أضاف الجنرال “ليس لدي ثقة كبيرة في هذه الأرقام، نحن نعرف أنه لا تزال هناك جيوب متبقية لتنظيم الدولة في العراق، وهذا السبب وراء عملنا مع قوات الأمن العراقية. لقد اكتشفنا أنه علينا إتمام عملنا المتبقي هناك، لكنني بالتأكيد لن أقول أن جماعات تنظيم الدولة المتواجدة الآن لا تزال بنفس القوة التي كانت عليها عند ذروتها.
يصف نايتس جماعات تنظيم الدولة التي تضم حوالي 15 ألف مقاتل على أنها “صناعة مطلقة”. لقد سألني: “كيف يمكنك تصنيف رجل تابع لتنظيم الدولة؟ هل هو المقاتل الأجنبي، أم هو ضمن الكوادر القيادية؟ أم هو من أحد جنود تنظيم الدولة الذين قتلوا بعض الأشخاص، لكنه من الممكن أن يترك الحركة إذا خارت قواها؟ إنه يريد فقط أن يكون متسلطا وزعيم عصابة وسيكون سعيدًا بقيامه بذلك في ميليشيا تابعة للحكومة”.
حسب نايتس، من الممكن أن حوالي 15 ألف شخص يعملون بالشراكة مع تنظيم الدولة، لذلك قد يكون عدد المقاتلين الفعليين التابعين لتنظيم الدولة أقل من التقديرات بكثير. ويعزى ذلك لأسباب عديدة بما في ذلك: الخسائر التي لحقت بجماعات تنظيم الدولة في سوريا، كما أصبحت قوات الأمن العراقية مدعومة وتقاد بشكل أفضل مما كانت عليه من قبل، وأصبح العراقيون الذي عاشوا في ظل حكم تنظيم الدولة يعرفون جيدا مدى قسوة أفعال هذه الجماعات. ولا يمتلك تنظيم الدولة القدرة والدعم الكافيين للاستيلاء على المدن العراقية وحقولها النفطية كما فعل سنة 2014.
في شأن ذي صلة، نوه نايتس بأن “المشكلة التي يطرحها وجود جماعات تنظيم الدولة لا تكمن في إمكانية سيطرته على المدن أو منع العراق من تصدير النفط، ولا يتعلق الأمر بقدرته على اغتيال رئيس الوزراء، وإنما في قدرته على جعل عملية إرساء الاستقرار في وسط البلاد وشمالها وغربها مسألة مستحيلة. إنهم مثل السم في المنطقة أو الملح في الأرض. وحتى بعد رحيلهم من البلاد، لن تتمكن من إعادة إعمارها. لا يمكنك جعل الاقتصاد ينتعش مرة أخرى ولا يمكنك إعادة المواطنين إلى قراهم، ويخرجون من معسكر النازحين. لا يمكنك حتى تطبيع الحياة أثناء وجودهم هناك”.
المصدر: مجلة الأتلانتيك