لم تكتفِ “إسرائيل” بممارسة الاعتقال المكثف اتجاه الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر، إنما انتهجت سياسة ممنهجة شملت تعديلات قانونية قاهرة بحقّ أسرى قطاع غزة فيما يعرف بتعديلات قانون “المقاتلين غير الشرعيين“، أما أسرى الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة فقد شملهم قانون اتباع سياسة “الحد الأدنى”، من خلال تشريع حالة الطوارئ الاعتقالية التي تتضمن تقديم الحد الأدنى من مقومات الحياة لهم في المعتقلات.
ولا تكتفي سياسة الاحتلال بإبادة الفلسطينيين من خلال ما تقوم به خارج المعتقلات خاصة في قطاع غزة عقب “طوفان الأقصى”، ومخيمات الضفة الغربية فيما أسمته مؤخرًا بعملية “المخيمات الصيفية”، التي شنتها قوات الاحتلال في 28 أغسطس/آب.
إنما السياسة الممنهجة ذاتها في القتل شملت الفضاءات المغلقة في سجون الاحتلال، كان أخطرها ما أفصح عنه الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، بضرورة إعدام المعتقلين الفلسطينيين برصاصة في الرأس بدلًا من إطعامهم، وبالتالي توفير كلفة احتجازهم، وهو تصريح منافٍ للقوانين الدولية والإنسانية.
يتزامن ذلك مع بلوغ السجون مرحلة غير مسبوقة بخلوها من أماكن لاستيعاب المزيد من المعتقلين، إذ أعلنت مصلحة السجون الإسرائيلية أن الطاقة الاستيعابية للسجون هي 14 ألفًا و500 معتقل، في حين بلغ إجمالي عدد المعتقلين أكثر من 21 ألف، وبحسب نادي الأسير الفلسطيني بلغ عدد المعتقلين من الضفة الغربية منذ بداية الحرب 9 آلاف و325 حتى يونيو/ حزيران، فيما لا يزال عدد معتقلي غزة مجهولًا حتى الآن.
حالة الاعتقال المكثف نتجت عنها ظاهرة اكتظاظ الزنازين، ما دفع سلطات الاحتلال إلى وضع 12 إلى 14 أسيرًا في زنزانة تتسع لـ 6 أسرى، بحسب نادي الأسير الفلسطيني، الأمر الذي نتج عنه تفشي الأوبئة الجلدية التي تلتقي مع ظاهرة الإهمال الطبي المتعمد قبل السابع من أكتوبر، وما تبعه حرمان الأسرى من الاستحمام وأدوات النظافة ونقل المصابين منهم إلى مختلف الزنازين، بهدف توسيع رقعة الإصابات دون أدنى التفات إلى خطورة الوضع.
يأتي ذلك كسياسة تهدف إلى جعل الحياة غير ممكنة لأغلبية بشرية لا تحظى بأدنى حقوقها داخل المعتقلات، ووسط غياب كامل للمؤسسات الدولية والحقوقية، إلا أن ظاهرة السماح بتفشي الأوبئة باتت تأخذ منحى خطيرًا يهدف إلى جعل المعتقلات مقابر مشرعة للموت والتنكيل الجماعي.
ما يجري داخل المعتقلات يلتقي مع ما يحدث خارجها في قطاع غزة الذي سبق وأن حولته “إسرائيل” إلى سجن مفتوح، تطبّق عليه السياسة الحيوية على الحياة والموت منذ السابع من أكتوبر، باستهداف المستشفيات والمراكز الصحية وغياب العقاقير اللازمة للعلاج، وتفشي الأوبئة الجلدية كالجرب وغير الجلدية كالكبد الوبائي، نتيجة لقطع المياه الصالحة للشرب والاستحمام وأدوات النظافة الشخصية، فيما تمثلت السلطة الحيوية على الموت بتحويل جثث الشهداء إلى أشلاء وغياب كامل لملامحهم.
يتناول التقرير تفشي الأوبئة كجزء من سياسة ممنهجة للحرب في المعتقلات، ويتوازى ذلك مع الظروف الصعبة في قطاع غزة، وما يتمثل بحالة الطوارئ التي أعلنتها “إسرائيل” في إطار أوسع يتمثل بالحرب على الفلسطينيين عقب السابع من أكتوبر، وبما يطال اتّباع سياسة القتل والعقاب جماعي في الفضاءات المغلقة والمفتوحة.
كما يتطرق التقرير إلى طبيعة السياسة الحيوية الممارسة إسرائيليًا من منظور إبادي، وقراءة الوباء كفعل إبادة لا ينفصل عن أشكال أخرى لتشريع القتل، بما في ذلك الإهمال الطبي والتعذيب بكافة أشكاله.
السياسة الحيوية تحت وطأة القانون
تشكّل السياسة الحيوية جزءًا لا ينفصل عن السيادة الاستعمارية الإسرائيلية الممارسة على الفلسطينيين، وهو ما يتحقق عن طريق القانون بغية تشريع العنف بما يسلب الفلسطينيين حقوقهم. وتتحقق السياسة الحيوية في كافة الفضاءات التي يوجد بها الفلسطينيون، بما في ذلك من يقبعون في السجون ومن يخضعون لواقع الاحتلال في الضفة الغربية والحصار في قطاع غزة.
ومنذ السابع من أكتوبر كانت حالة الطوارئ بإعلان حالة الحرب مدخلًا وجدت فيه “إسرائيل” سبيلًا لتشريع إبادة الفلسطينيين من مدخل القانون والدفاع عن النفس، بصورة أصبحت فيها “إسرائيل” كيانًا فوق القانون الدولي والإنساني.
وكان القانون أداة لاستباحة الفلسطينيين منذ احتلال الضفة الغربية وحصار قطاع غزة، وذلك بسلب حقوقهم وإخضاعهم للرقابة، إلا أن أحداث السابع من أكتوبر كانت ذريعة لزيادة وتيرة الانتهاك باسم القانون وانتهاج السياسة الحيوية، بحيث أصبح الفلسطيني مستهدفًا بشكل أو بآخر.
وهو ما ترتب عنه تعديل سلطات الاحتلال لقانون المعتقلين غير الشرعيين الذي سنّته “إسرائيل” عام 2002، والذي بموجبه اُعتبر معتقلي غزة أسرى حرب لا يجري الاعتراف بحقوقهم أو حمايتها، سواء كانوا مدنيين أم مقاتلين، أما بقية الأسرى فاتبعت “إسرائيل” اتجاههم سياسة التضييق وسحب حقوقهم التي حصلوا عليها على مرّ العقود عن طريق الإضرابات المفتوحة، كالكانتينا وقطع الكهرباء ومصادرة حاجياتهم.
وفي المقابل، انتهجت “إسرائيل” سياسات ممنهجة أصبغت عليها الصفة القانونية اتجاه الفلسطينيين خارج السجون في قطاع غزة والضفة الغربية، بهدف تشريع إبادتهم. فيما انعكس القانون أيضًا بإخضاع أسرى قطاع غزة للجيش وليس لمصلحة السجون بموجب حالة الحرب، ما يعني حرمانهم من رؤية المحاميين أو زيارات الصليب الأحمر، وعدم التصريح عن أماكن احتجازهم أو ظروفهم تحت الاعتقال.
تكشفت سياسات الإبادة على مستوى السجون ومعسكرات الاعتقال التي احتجزت فيها “إسرائيل” أسرى قطاع غزة، بانتهاج الاغتصاب الذي أدّى إلى مقتل أسير في معسكر سيدي تيمان، إلى جانب سياسات تعذيبية أخرى أسفرت عن قتل عشرات من معتقلي غزة لم يُفصح عن هوياتهم، فيما يعدّ انتشار الأوبئة بين الأسرى وفي قطاع غزة سياسة تنكيلية ممنهجة أصبحت تتكشف منذ بدء الحرب، وما زالت تهدد حياة الفلسطينيين.
تتخذ “إسرائيل” من القانون وسيلة لتشريع سياسات الموت والعقاب الجماعي، ما يعني أن هذه السياسات إما أن تقتل الفلسطينيين وإما تجعلهم تحت وطأة التعذيب مشرعين على الموت في أي لحظة، في إطار ما أسماه جورجيو أغامبين “الحياة العارية”، وهي الحياة المرادفة للموت بجعل القانون “وسيلة للبطش” وسلطة مطلقة للتنكيل والقمع.
تفشي الأوبئة ومنطق الإبادة
أخذت حالة الطوارئ في إطار الحرب عقب هجوم السابع من أكتوبر، سياسات ضمنية ومعلنة كرّست شتى الوسائل لقتل الفلسطينيين، فأخذت عقيدتها الإجرامية تنحى نحو استهداف الفلسطينيين بعدة وسائل، منها القتل المباشر عن طريق المجازر، والقتل البطيء في ظل إعدام مقومات الحياة والسماح بتفشي الأوبئة، وهو ما يعني السماح بتفشي الوباء في إطار الحرب، دون أن ترى “إسرائيل” نفسها ملزمة بمواجهة عواقب ذلك بتقديم الرعاية للفلسطينيين.
ما ترتب عنه جعل الفضاءات المغلقة كالسجون مقابر للفلسطينيين على قيد الحياة، بحرمان الأسرى من حقوقهم في العلاج والطعام والاستحمام ورفع وتيرة التنكيل التي وصلت مرحلة التسبُّب للمعتقلين في إعاقات وكسور مميته وأمراض خبيثة كالسرطانات، فيما انتهجت سياسة تحويل قطاع غزة لمعتقل مفتوح بفرض حصار عليه من كافة المعابر واحتلاله، وشنّ حرب على المستشفيات والمراكز الصحية ومنع دخول العقاقير والأدوية، إذ بات يحتوي القطاع على أكبر عدد من ضحايا القصف مبتوري الأطراف.
ويعدّ استهداف الصحة من مرتكزات العقيدة الإجرامية لقوات الاحتلال الإسرائيلي من منظور تشريع الإبادة، إذ عُرفت “إسرائيل” سلفًا بانتهاجها سياسة الإهمال الطبّي اتجاه الأسرى في المعتقلات بهدف القتل البطيء والمتعمد. وبارتفاع وتيرة الاكتظاظ في السجون الإسرائيلية مع الحرب على غزة، بات تفشي الأوبئة الجلدية وتحديدًا الجرب ينذر بخطورة الوضع في السجون المعروفة بمساحتها الضيقة، والتي تخلو من مقومات الحياة بارتفاع الرطوبة وغياب أشعة الشمس وقطع المياه وأدوات النظافة الشخصية.
وكان نادي الأسير الفلسطيني أشار في بيان سابق في مايو/ أيار، إلى أنه “رصد عبر زيارات المحامين وشهادات أسرى مفرج عنهم تصاعدًا في أمراض جلدية في السجون، أبرزها مرض الجرب الذي يعتبر من أخطر الأمراض الجلدية المعدية”، بالإضافة إلى أمراض معدية لم يتمكن الأسرى من تعرُّفها.
ولا تتخذ قوات الاحتلال أي تدابير احترازية لمعالجة الأسرى، بل تساهم في انتشار الإصابات بنقل المصابين من قسم إلى آخر ما يزيد الوضع سوءًا.
وتنعكس السياسة ذاتها في قطاع غزة، إذ يعدّ تفشي الأوبئة جزءًا من حرب الإبادة بما يتكامل مع سياسة القتل البطيء الممارسة داخل المعتقلات، ويشهد القطاع تفشي الكبد الوبائي وشلل الأطفال، وذلك نتيجة اتباع سياسة ممائلة لتلك في السجون، بالحصار المستمر الذي يمنع دخول المياه النظيفة وأدوات النظافة الشخصية، وعدم الوصول للرعاية الصحية المطلوبة، بل شنّت “إسرائيل” منذ بدء الحرب حربًا على المستشفيات بتدميرها دون اعتبار لأي قوانين وأنظمة.
تعدّ السياسة الحيوية والسماح بتفشي الأوبئة منهجًا تتبعه “إسرائيل” لغايات تحقيق الموت البطيء والجماعي، ما يحقق ممارسة الاحتلال الإسرائيلي للسيادة الاستعمارية على الحياة، بإقصاء القانون وتحقيق فعل الإبادة على مستوى الفضاءات المغلقة، كامتداد لما هو ممارس في الخارج فيما يتعلق بحالة قطاع غزة وسياسة تدمير النظام الصحي وقيادة “حرب على المستشفيات”.
وهو ما تريد فيه إبادة الأمل في العلاج، وجعل الفلسطينيين في المعتقلات تحت وطأة التعذيب والتنكيل من مدخل صحي، إذ تهدف “إسرائيل” إلى فرض الموت على الفلسطينيين في ظل غياب وتواطؤ المجتمع الدولي، الذي لم يصل حتى اليوم لقرارات تردع “إسرائيل” عن ممارساتها الإبادية اتجاه الفلسطينيين.