تصطدم التجربة السياسية التعددية في تونس بجدران ثابتة لم تتزحزح رغم كثرة الحركة وعلو الأصوات من حولها، وهذه الجدران الثوابت بقدر ما تسهل قراء المشهد بقدر ما تكشف حدود التجربة وعجزها عن الخروج إلى أفق الديمقراطية الرحب وتمكن للبلد ضمن محيطه الإقليمي والدولي.
ترتبط هذه الثوابت أو تنتج عن طبيعة الشخصيات السياسية التي تتصدى للشأن العام، ويعود بعضها إلى طبيعة التكوينات السياسية وأهدافها الفردية والجماعية، كما يتأسس كثير منها على الأفكار والأيديولوجيات الرائجة بالبلد منذ صارت السياسة شأنًا عامًا يشارك فيها الجميع بأقدار.
نعرض فيما يلي بعض هذه العلامات التي يمكن نعتها أيضًا بالمتحجرات العضوية غير القابلة للتحلل في ماء الديمقراطية.
الشخصيات السياسية: كلهم بورقيبة
الوجوه السياسية المسيطرة على المشهد الآن كلها تنقد بورقيبة وتلصق به أبشع النعوت ولكنها تمارس السياسة على طريقته لأنها تفكر مثله بل تقتدي به، ليس لجهة بقائها الأبدي على مواقعها القيادية فحسب، بل لغياب أي نقد ذاتي لأعمالها وأدوارها منذ أسست أحزابها وتكويناتها السياسية.
بورقيبة استعمل قضية تحرير المرأة كحصان طروادة لاختراق البنى الاجتماعية التقليدية
هذه الشخصيات لا تنتج أفكارًا جديدًا ولكنها تكرر ما بدأت به كأن الواقع من حولها لا يتغير، عدم الانتباه لحركة الواقع ميزة مشتركة تنتج عنها أفعال متشابهة، ونحن نسمع منها خطابات ستينية وسبعينية عن واقع القرن الـ21.
مثال ذلك أن بورقيبة استعمل قضية تحرير المرأة كحصان طروادة لاختراق البنى الاجتماعية التقليدية، فأورثهم الموضوع فهم جميعهم أنصار المرأة ومحرروها، كل الفروق بينهم هي في درجة المزايدة على بعضهم في نفس الموضوع، وما تقرير الحرية والمساواة إلا مزايدة أخرى في نفس السياق ضمن نفس الخريطة الفكرية لبورقيبة، هل تحررت المرأة التونسية فعلا؟ هذا سؤال مرفوض لأن الإقرار بتحررها ينهي موضوع المزايدة إلى الأبد فيفقدون موضوعهم ومحور نضالهم الأزلي الثابت ذي المردود الغزير ماليًا وسياسيًا.
ويمكن أن نعدد المحاور/القضايا، مثل الموقف من المدرسة العمومية والموقف من المؤسسات الاقتصادية المنتجة المملوكة للدولة، فهم جميعًا أنصار القطاع العام ويقولون بالدولة الاجتماعية الراعية والحافظة للتعليم المجاني والصحة العامة المجانية بينما تجري على الأرض وقائع مختلفة، إذ يتحرر التعليم تدريجيًا تحت سمعهم وأبصارهم ويشاركون في تحريره بتقنين التعليم الخاص، وتحرر الخدمات الصحية العامة وتخصص بموافقتهم وتشجيعهم وتفلس الشركات العمومية بتحريض منهم ويصرون على الدولة الاجتماعية بغطاء شعبوي، وهذه سُنَّة بورقيبة في السياسة مخالفة القول للعمل وركوب الشعبوية للتغطية على الفشل ومفارقة الواقع.
تكوينات سياسية مسطحة
ليس للتكوينات السياسية التونسية عمق حقيقي ينتج داخلها حركة أفكار ومواقف، ولا يمكن تصنيفها فعلًا على أساس ليبرالي أو اشتراكي أو أحزاب وسط، بل هي توليفات ظرفية يجتمع أفرادها بشكل انتهازي للوصول إلى مواقع الغنيمة الفردية، لذلك لم نستغرب الهجرات السياسية للأفراد بين الأحزاب ذات الطرح المتناقض في العلن لأن الأفراد لا يجدون فعلًا هذا التناقض الفكري العميق الذي يسبب لهم حرج الهجرة من حزب إلى آخر، إن أكبر كتلة مسطحة هي كتلة التجمع الذي استولي مع بن علي على حزب الدستور (حزب بورقيبة) ثم تلبس دور حزب النداء بعد الثورة.
إنه مثال صارخ على جماعة سياسية بلا أفكار مؤسسة، حيث يدير السياسة بما تيسر من حلول قصيرة الأمد أي بلا أفق، فلا هو ليبرالي ليحرر الاقتصاد ويتحمل كلفة قيادة دولة ليبرالية ولا هو اشتراكي ليحمي الدولة الاجتماعية التي تشكلت ملامحها في الستينيات، وهو ينتهي دومًا إلى الاستجابة لطموحات الشخصيات النافذة داخله فنجدها تحوز مغانمها التي دخلت من أجلها السياسة، وآخر علامات ذلك ما يسعى فيها الرئيس الحاليّ (الدستوري التجمعي الندائي) من توريث ابنه الحكم قبل خروجه عاجزًا من كرسي الرئيس.
هنا أيضًا يمكن أن نعدد الأمثلة على التسطيح، ولن أعرض لسطحية اليسار التونسي الذي ليس له من اليسارية إلا الانقطاع عن ثقافة الناس ومحاربة عقائدهم الثابتة واصمًا إياهم بالرجعية والتخلف وهو عنوان مشاركته الوحيدة حتى الآن، ولكني انتبه إلى سطحية الإسلاميين فيما ظهر منهم في فترة قصيرة من ممارسة السياسة والخوض في الشأن العام (بعد حرمان طويل أجل معرفتنا بهم وجعل الشفقة عليهم مانعًا من نقدهم).
ليس الإسلاميون إلا نسخة من التجمعيين، فهم لا يقدمون للناس حلولًا لمشاكلهم بل يقعون دومًا في الترقيع الظرفي، ويهربون من حقيقة فقرهم الفكري بشكل دائم وغير ظرفي إلى استدرار شفقة الأنصار والجمهور الذاهل عن نقد الأطروحات الفكرية والسياسية بخطاب الضحية المطارد الذي يقدم أولوية إنقاذ جسمه من الإقصاء السياسي والاجتماعي على كل خطاب.
ليس للحزب خيال تنموي، بل يذهب كل جهد أنصاره و(مفكريه) إلى التفنن في الرد على الإقصاء السياسي كموضوع وحيد للتفكير، ويقع الكثير منهم في عراك مسطح بلا مضامين كاشفة لحزب يملك بدائل يقترحها على الناس
قرأنا كراسات الحزب في انتخابات 2011 و2014 والانتخابات البلدية فلم نجد اختلافًا حقيقيًا عن كراسات بن علي من قبلهم، ورغم أننا نعذر لهم فعلًا ما يجدون من إقصاء – حيث لا يتم التعامل معهم بعد كأصحاب حق بل محل تفضل كأنهم متسولون على باب الوطن – فإن ذلك لا يمنع من معاينة فقدان الأطروحات البديلة وهي وسيلة لتملك الحق أشد تأثيرًا من كل خطاب بكائي.
ليس للحزب خيال تنموي، بل يذهب كل جهد أنصاره و(مفكريه) إلى التفنن في الرد على الإقصاء السياسي كموضوع وحيد للتفكير، ويقع الكثير منهم في عراك مسطح بلا مضامين كاشفة لحزب يملك بدائل يقترحها على الناس ولو كسياسات مؤجلة لما بعد الاستقرار في الديمقراطية، الحزب لا يخلق محاور تفكير في التنمية ولا في إدارة البلد، ومن المضحكات استبدال جهده الدعوي القديم بسخافات التنمية البشرية التي يرهق فيها أنصاره ويملأ وقتهم بالترهات فيزيدهم تسطيحًا.
التسطيح نفسه نجده عند الحزيبات الحديثة مثل التيار والحراك (لا أتحدث هنا عن حزب آفاق والوطني الحر وكثير من مسميات أخرى اسميها أحزاب الإيميل إذ ليس لها من وجود إلا عنوان بريدي على الشبكة)، فهذه الأحزاب تشتغل في هامش فقر النهضة والنداء وتعمد إلى مخالفتهم فيما يقولون دون كراسات تفكير حقيقية، وهي تنجر إلى الصراع الهووي متظاهرة بالوقوف خارجه.
تريد أن تكون أحزابًا تقدمية لكنها ترتبك أمام تملك اليسار لعنوان التقدمية، وهي بالمناسبة لا تجرؤ البتة على نقد الجبهة الشعبية وأحزابها اليسارية وأفعال نقابتها التي تخرب البلد، بل إن كل بطولاتها الخطابية تدور حول مهاجمة حزب النهضة ووصمه بنفس وصوم الجبهة (أي الرجعية والظلامية والخيانة الوطنية)، ولا تريد أن تكون محامية لهوية الشعب المحافظ خشية وصمها بالأحزاب الدينية غير المرغوبة في الخارج، وارتباكها الهووي (الثقافي) يدفعها إلى نوع من التوليف الهوياتي المسطح بحيث لا يتبين الناس موقعها بالضبط فيقتربون أو يبتعدون، وتبدو سياسة استدامة الغموض مريحة ولكنها غير منتجة.
الجدران الأيديولوجية العالية
تقوم بين مكونات الساحة السياسية جدران أيديولوجية عالية لا يمكن هدمها أو المرور فوقها إلى حوار فكري وثقافي بين فرقاء الأيديولوجيا، ويتشكل يقين ثابت بأن الحوار بين اليسار بما فيهم الحزيبات القومية والإسلاميين منعدم إلى الأبد، عاش اليسار التونسي من حربه مع الإسلاميين واستعمله نظام بن علي خاصة ومتعه بالسلطة والحكم في مجالي الثقافة والتربية في نوع من تقاسم الأدوار في الحرب على الإسلاميين، ولا يزال يطمح إلى لعب هذا الدور من خلال اصطفافه في معركة التوريث الأخيرة إلى جانب ابن الرئيس.
والخروج من هذا الموقع يمر ببدء حوار مع الإسلاميين، وهو ما لن يقع أبدًا فمثل هذا الحوار ينتهي إلى صندوق الاقتراع حيث ينكشف حجم اليسار في الشارع ويحوله إلى لا شيء سياسي، واليسار يعرف وزنه ولا يغامر بخوض هذا النقاش.
ويعيش الإسلاميون من حرب اليسار عليهم، خاصة بعد أن تخلوا في العلن على الأقل عن كونهم حماة الدين وأنصاره، وأعلنوا مدنيتهم التي تحرمهم من موقع مدر سياسيًا أي حماية العقيدة.
هذه الفوائد السياسية يتم التشريع لها وحمايتها بخطاب أيديولوجي متكلس من الخمسينيات (التقدميون ضد الظلاميين) ويزيد القوميون بندًا آخر، فهم حماة الأمة العربية القائمين ضد الإخوان صنائع المخابرات والربيع العبري، كل مراجعة في اتجاه هدم الأسوار تقضي على المراجع إذ يفقد سببًا مهمًا لوجوده وتأليف الأنصار من حوله.
وحال البلد؟
هذا موضوع مؤجل ليوم الحساب، 7 سنوات بعد الثورة تعرت فيها الوجوه والأفكار وانكشف خواؤها وفقرها السياسي، لا نسمع ولا نقرأ عن أي مراجعات وحوارات سياسية، والحوار الوحيد كان كيف نقسم السلطة ونخرج منها حزب النهضة، وهو عمل سيستمر في السنوات القادمة لا حزب النهضة اندثر ومات ولا أعداؤه أفلحوا من دونه.
نصل الآن إلى قناعة أن الجميع يحبذ البقاء في هذه المعركة لأنها معركة سهلة، كلعبة افتراضية تجاوز اللاعب صعوباتها الأولى وظل يعيدها مزهوًا بانتصارات متطابقة وهو يرى شقاء التدرب على لعبة أخرى قد تكون أكثر تعقيدًا.
مع بقاء جدران الأيديولوجيا قائمة ضد أي حوار فكري وسياسي، ومع عجز التكوينات السياسية على الخروج إلى الناس بأفكار وبدائل مستقبلية متجاوزة، فإن البلد يتجه إلى حالة اللادولة وسيسرع الأمر اتجاه جلي لدى الأحزاب لاعتماد أحلاف خارجية للاستقواء بها على فرقاء الداخل
مشهد بليد وغبي يدفع الناس الآن إلى شُعب مختلفة، منهم الحالم الذي يتشهى ثورة أخرى من وراء حاسوبه ومنهم النهاز الذي يغنم المتاح بين يديه عبر السطو على الدولة والمجتمع، وقد ظهرت مؤشرات كثيرة على شروع الناس في أخذ حقوقهم بأيديهم في غياب قوة الدولة الرادعة، وهذه أيضًا لعبة مفيدة لكثيرين يتوسعون فيها باطراد، فكلما غابت الدولة سهلت الغنائم حتى الوصول إلى حالة اللادولة.
مع بقاء جدران الأيديولوجيا قائمة ضد أي حوار فكري وسياسي، ومع عجز التكوينات السياسية على الخروج إلى الناس بأفكار وبدائل مستقبلية متجاوزة، فإن البلد يتجه إلى حالة اللادولة وسيسرع الأمر اتجاه جلي لدى الأحزاب لاعتماد أحلاف خارجية للاستقواء بها على فرقاء الداخل.
لن تكون الأولى، إنها وقائع تتكرر وقد تذكرنا وذُكرنا بنهاية الدولة الحفصية واستنجاد مليكها بملك الفرنجة ضد شعبه وعائلته، وتذكرنا وذُكرنا بالكمسيون المالي الذي أنهى الدولة الحسينية ومهد الطريق للاستعمار، الاختلاف الوحيد القائم الآن أن الاستعمار لم يعد يرغب في نقل جيوشه إلى أرض تخضع له ببرنامج تلفزي يديره صحفي غبي، فخراج مطر تونس يصب في بيت مال الفرنسيين ويصلهم وفوقه بوسة الحداثة والتقدمية البورقيبية.