“ولادة من جديد”، هو كتاب يمكن تصنيفه تحت أدب السجون، حيث يسرد الكاتب فيه قصصًا واقعية عاشها عن كثب مع مئات السوريين الذين فروا إلى لبنان هربًا من الحرب بحثًا عن الأمان، ليجدوا أنفسهم في قبضة السجّان.
الكتاب، الذي يروي جزءًا من قصص العائدين من الموت، يسلط الضوء على معاناة اللاجئين السوريين في السجون اللبنانية، الذين لم يتوقعوا البقاء على قيد الحياة والخروج أحياء بسبب شدة التعذيب الذي تعرضوا له ويضاهي التعذيب في سجون الأسد.
يسرد الكاتب السوري عمر جمول، المولود في مدينة القصير جنوب حمص عام 1971، تجربته الشخصية التي عاشها مع رفاقه في سجون لبنان بترتيب زمني دقيق، حيث قسم كتابه إلى 10 أبواب رئيسية، اعتمد في كل منها على شهاداته الذاتية بالإضافة إلى روايات أربعة ناجين آخرين من تلك السجون، لكن الشهود فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم الكاملة، فتم الإشارة إليهم إما بالأحرف الأولى من أسمائهم أو بذكر ألقابهم، كالقبطان وأبو لؤي.
في مقدمة الكتاب، يقدم الحقوقي المعارض هيثم المالح رؤيته قائلًا إن “القارئ سيجد في هذا الكتاب عبارات نابعة من القلب تشرح معاناة المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، وتكشف الحقائق عن هذه المعاناة”.
ويؤكد المالح على أهمية توثيق ما تعرض له الكاتب مع عدد من رفاقه من ظلم في لبنان الجار الذي احتوى السوريون مَن فرّوا من أزماته إليهم سابقًا، لكن الجار تذمّر من وجودهم في بلده، فبدأت مرحلة الضغط عليهم في أماكن خيمهم ببلدة عرسال الحدودية، أو باعتقالهم وزجّهم في السجون تحت سياط جلّادي “حزب الله” وإيران وأعوانهم.
ويعبر الناجون عن صدمتهم في المقدمة، حيث كانوا يعتقدون أن إخوتهم في لبنان لن يتخلوا عنهم، لكن ما عايشوه في السجون اللبنانية من تعذيب جسدي ونفسي، بالإضافة إلى الفساد القانوني والقضائي، خيب آمالهم وكشف لهم واقعًا مغايرًا تمامًا لما توقعوه.
يبدأ الكاتب، الذي كان يعمل مدرسًا لمادة الشريعة الإسلامية في مدينة القصير، بسرد الوقائع التي عاشها مع رفاقه حسب تسلسل تاريخي، مبتدئًا بـ”رحلة اللجوء من سوريا إلى لبنان”، هربًا من بطش النظام السوري، حيث يوضح الكاتب أن من بين اللاجئين إلى لبنان كان هناك العديد من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالثورة، أو ناشطين شاركوا في أعمال الإغاثة وتابعوا عملهم بإغاثة اللاجئين في مخيمات عرسال، كما هو حال الكاتب عمر جمول.
ويفصّل الكاتب في العنوان الثاني من كتابه “قصص العمل الإنساني والنشاط الإغاثي”، وكيف تحولت إلى تهمة أودت بصاحبها إلى الهلاك، كما هو حالها في سوريا، فنظام الأسد يعتبرها جريمة كبرى، وكذلك أعوانه من “حزب الله” في لبنان.
في العنوان الثالث يتناول الكاتب موضوع “ظروف الاعتقال وأسبابه”، ويعرض قصصًا مؤلمة تعبر عن معاناة أصحابها، كما تكشف الأسباب التي قدمتها السلطات اللبنانية لتبرير اعتقال اللاجئين السوريين كانت في الغالب مبنية على افتراءات وظلم واضح، حتى أن طريقة اعتقال اللاجئين السوريين كانت ترتكز على أساليب وحشية ضد الإنسانية، خاصة استجرار الضحية حتى يقع في مصيدة السجان.
اعتقل عمر جمول مرتين، الأولى عندما كان في سيارة الصليب الأحمر قادمًا من سوريا لعلاج ابنته سلمى المصابة بمرض التلاسيميا في 14 فبراير/ شباط 2012، بحجّة أن قسيمة دخول لبنان مزورة، واستمر توقيفه 17 يومًا في مبنى الأمن العام اللبناني، بينما ابنته بقيت مع الدكتور المشرف على علاجها.
أما في المرة الثانية كانت نهاية أبريل/ نيسان 2015 حيث تم استدراجه من قبل صديقين إلى مبنى الأمن العام للحصول على تأشيرة سفر، ورغم استنكار القاضي لتوقيفه وأمره بإطلاق سراحه إلا أن رحلة التعذيب بدأت، وهنا يبدأ الفصل الرابعة من الكتاب بعنوان “رحلة التشتت والمكابدة بين السجون اللبنانية”.
تبدأ الرحلة بالتوقيف في مبنى الأمن العام اللبناني بمدينة بعلبك، مرورًا بفرع أبلح التابع لمخابرات الجيش اللبناني في منطقة البقاع الأوسط، إلى سجن الريحانية (هو سجن الشرطة العسكرية الوحيد المسجّل عند المنظمات الواقع في يزرة، قضاء بعبدا شمال شرق بيروت)، وقبل أن ينتهي المطاف بالسجن المركزي في بيروت (هو أكبر السجون اللبنانية يقع في رومية، قضاء المتن شرق بيروت)، والذي من المفترض أن يكون مركزًا تأهيليًا وإصلاحيًا، لكن هو أبعد ما يكون عن ذلك لأنه بات أحد مسالخ النظام اللبناني الرديف لنظام دمشق.
معاناة المعتقلين
ينتقل الكاتب عمر جمول إلى “توصيف أساليب التعذيب والتنكيل في السجون اللبنانية”، وفي هذا الجزء يسلط الضوء على تجربته الشخصية، حيث يكشف أنه بقي معلقًا لمدة 18 يومًا، يتعرض لأبشع أنواع التعذيب.
يوضح الكاتب أن اسمه “عمر”، استُغل من قبل العناصر الشيعية في السجن كذريعة للانتقام الطائفي لما وصفوه بثأر الحسين، مما زاد من قسوة معاملته، ومن بين المواقف المؤثرة التي يرويها الكاتب، كان مناجاته لابنه “علي” تحت التعذيب، الأمر الذي أثار سخرية وتعليقات طائفية من السجانين الذين استغربوا مناداته بهذا الاسم بينما يحمل اسم “عمر”، مؤكدًا أن اعترافات السجناء انتُزعت منهم تحت التعذيب الوحشي، وتمت محاكمتهم بناءً على تهم ملفقة لم يرتكبوها،
ينتقل الكاتب عقب ذلك إلى “وصف سجنَي الريحانية ورومية وما جرى فيهما من الأحداث”، مشيرًا إلى أنهما الأشهر من بين السجون اللبنانية، وتتماثل الحياة في السجون مع فوراق.
يقول الشاهد أبو لؤي إن الحياة في سجن الريحانية كانت أصعب من رومية لما فيه من جو العنتريات التي يمارسها المعتقلون السابقون مع النزلاء الجدد.
بينما في رومية الذي شهد انتفاضة وعمليات اقتحام مطلع العام 2015، يؤكد الكاتب أنه عندما انتقل من سجن الريحانية المظلم الذي أمضى فيه 11 شهرًا تحت الأرض إلى سجن رومية، شعر وكأنه أُطلق سراحه، لكن هناك صعوبات أخرى منها نشوب الخلافات وتراشق التهم بين السجناء لاختلاف انتماءاتهم.
وفي الباب السابع “الخروج من السجن: الولادة من جديد”، يؤكد الكاتب الذي نال البراءة من تهمة الإرهاب نهاية العام 2018، أن المفرج عنهم من سجون لبنان كان خروجهم براءة دون إثبات واحدة من التهم التي عُذبوا وسُجنوا من أجلها، ما يدل على حقيقتَين: أولاهما الفساد القضائي والقانوني، وثانيهما التواطؤ المفضوح بين السلطات اللبنانية على رأسها “حزب الله” مع سلطات النظام السوري.
ويصف الكاتب، في الباب الثامن “التآمر ضد المعتقلين وتلفيق التهم لهم”، المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية بأنهم الحلقة الأضعف، حيث كان المحامون سماسرة يساومون السجناء بعشرات ألوف الدولارات من أجل إطلاق سراحهم، ويقع السوريون أمام خيارين: إما شراء البراءة وإما المكوث في السجن.
وفي الختام يتحدث الكاتب عن نقطة مهمة، وهي “تجنيد العملاء لصالح السلطات اللبنانية تحت قناع الإسلاميين”، حيث الإرهاب التهمة البارزة على الصعيد الدولي، وباتت كرة يتقاذفونها في جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، ويصرّون على لصقها بالمسلم، فلعب السجناء الإسلاميون من الدواعش وجبهة النصرة دورًا في رمي التهم الباطلة بحق معتقلي الرأي السوريين، على غرار دور المحامين والقضاة.
ويختم جمول كتابه بسرد قصص عن “تواطؤ السلطات اللبنانية مع نظام الأسد”، والتأكيد على دور “حزب الله” في سوريا، وهو الباب الأخير في الكتاب الذي ختمه بالتأكيد على أن ما دفعه إلى الكتابة هو وجود مئات المعتقلين السوريين في سجون لبنان خاصة رومية، وأن جراحهم المفتوحة لا تلتئم سوى بإطلاق سراحهم، إذ يواصل الناجون بطلب الحرية لهم عبر حملات إعلامية آخرها تحت وسم “أنقذوا المعتقلين السوريين في لبنان”.