بعد عقود طويلة من جولات المواجهة بين المخابرات المصرية والموساد الإسرائيلي في عالم الجاسوسية، امتدت الحرب مؤخرًا إلى الأعمال الفنية، ليتفاجأ الكثيرون بالحديث عن فيلم سينمائي يحمل اسم “العميل”، ويتبنى الرواية المصرية لقصة “الجاسوس” الراحل أشرف مروان، بعد سنوات من الصمت عن الوثائق الإسرائيلية التي اعتبرت مروان، صهر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، أهم جاسوس لها في القرن العشرين.
جولة جديدة من حرب الجواسيس تمتد إلى السينما
بعد حالة الجدل المصاحبة لشخصية السياسي المصري الراحل أشرف مروان، وافق جهاز الرقابة على المصنفات الفنية في القاهرة على كتابة فيلم سينمائي يحمل اسم “العميل”، يتبنى الرواية المصرية التي تقول إن مروان كان شخصية وطنية، لم يخن بلده لصالح “إسرائيل”، وإنما على العكس قدم خدمات جليلة لوطنه.
تقول الرواية المصرية إن مروان كان شخصية وطنية
خبر الموافقة على المعالجة السينمائية للفيلم، الذي يمهد للشروع في كتابة سيناريو له، أتى متزامنًا تقريبًا مع إعلان شركة “نتفليكس” الأمريكية عرضها فيلم “الملاك” في 14 من سبتمبر الحاليّ الذي يتناول شخصية أشرف مروان، ويؤكد دوره كواحد من أهم جواسيس “إسرائيل” في القرن العشرين.
وعقب إعلان موعد عرض فيلم “الملاك”، شنت وسائل الإعلام المصرية حملات هجومية اتهمت فيها الجانب الإسرائيلي بتشويه صورة أشرف مروان، بينما صب آخرون غضبهم على الأجهزة المصرية لعجزها عن الرد، فقد علق الناقد الفني طارق الشناوي بقوله: “فيلم الملاك كارثة بكل المقاييس”، مضيفًا: “واحد بيزور تاريخك وأنت قاعد بتتفرج!”.
وطالب الشناوي الدولة المصرية بإنتاج فيلم عالمي يرد على الرواية الإسرائيلية، قائلاً: “إسرائيل هاجمتك في فيلم عالمي ترد عليها في فيلم عالمي”، لافتًا إلى أن الفيلم ليس قضية أسرة جمال عبد الناصر، بل قضية أمن قومي، وهذا العمل اعتبره اختراقًا للأمن القومي المصري، على حد وصفه.
وفي ظل هذه الضغوط، تمت الموافقة على “العميل”، لكن رد الفعل سرعان ما تحول إلى فعل، حيث جرى الترويج للعمل السينمائي المصري على أنه تمت الموافقة عليه قبل أسبوعين من عرض فيلم “الملاك” عبر شبكة “نتفلكس”، وأن الرقابة أعطت موافقتها للسيناريست هاني سامي للشروع في كتابة سيناريو فيلم يحكي عن وطنية وبطولات أشرف مروان من خلال إحدى ملفات المخابرات المصرية.
جرى الترويج للعمل السينمائي المصري على أنه تمت الموافقة عليه قبل أسبوعين من عرض فيلم “الملاك” عبر شبكة “نتفلكس”
وفي تصريحات صحفية، قال سامي إنه سبق الجانب الإسرائيلي بعامين، وتقدم بالعمل إلى الرقابة على المصنفات الفنية برئاسة الدكتور خالد عبد الجليل عام 2016، وظل الأمر معلقًا كل هذه الفترة لعرض العمل على الجهات المختصة لحساسية الموضوع والشخصية المطروحة إلى أن تم إبلاغه بالموافقة مؤخرًا، ولكنه ربما يلجأ لتعديلات في السيناريو، ولكن هذا أمر ستحسمه أحداث الفيلم الإسرائيلي حينما نشاهده.
ويعني كلام سامي أنه قدم فيلمه عن أشرف مروان للرقابة حتى قبل الشروع في العمل على فيلم “الملاك” الذي يتبنى الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بعمالة مروان لتل أبيب، والمأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف، عام 2016، وكان من أكثر الكتب مبيعًا، قبل أن يترجم للعربية أخيرًا بعنوان “الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”.
ماذا سيقدم “العميل” المصري؟
التوثيق الدرامي المقابل للفيلم يعني أن حياة أخرى ستكتب للقصة، فالفيلم الإسرائيلي يسعى بالتأكيد لترسيخ رواية جوزيف الذي يعمل حاليًّا أستاذًا للعلوم السياسية في جامعة حيفا، بعد أن خدم على مدى 15 عامًا في جهاز المخابرات العسكرية بجيش الاحتلال الإسرائيلي، عن خيانة أشرف مروان، الموظف المصري الرفيع الذي عمل سرًا لمصلحة الموساد الإسرائيلي من موقعه كصهر للرئيس جمال عبد الناصر وكمستشار مقرب من بعده لأنور السادات.
في المقابل، يتناول “العميل” حياة أشرف مروان، وكيف خدم مصر وكان بطلًا لها، كما يتناول علاقته بالرؤساء الثلاث، بداية من جمال عبد الناصر الذي تزوج ابنته، ثم الراحل أنور السادات الذي وثق فيه وعينه سكرتيرًا خاصًا له، وصولًا إلى محمد حسني مبارك، ويعتمد هذا الفيلم على وثائق وكتب لمؤلفين مصريين وعرب وشهود عيان وفيديوهات موثقة، وذلك حسب المؤلف هاني سامي.
الفيلم الإسرائيلي يسعى بالتأكيد لترسيخ رواية جوزيف
وعلى الرغم من أن الرواية المصرية عن أشرف مروان دائمًا ما يكتنفها الغموض، فإن فيلم “العميل”، إذا وافقت عليه الأجهزة السيادية، ربما يحل هذه الألغاز، بحسب سامي الذي يقول إن عمله لن يكون مجرد سيرة ذاتية لمروان إنما سيتحدث عن بطولاته، من خلال رواية يقصها محقق صحافي سيكون هو البطل الذي سيروي لنا دور الرجل في بعض الأعمال الاستخباراتية المؤثرة في حرب أكتوبر.
وبحسب سامي، تبدأ أحداث الفيلم منذ أن كان عمر أشرف مروان 26 عامًا، وتستمر حتى وفاته الغامضة في لندن، بعد سقوطه من شرفة منزله عام 2007، عن عمر يناهز 63 سنة، وكما كانت وفاته أحد الألغاز، سيترك الكاتب نهاية فيلمه غير محسومة، لكنها ستوحي بأنه اغتيل على يد الموساد الإسرائيلي، وهي الرواية التي تتبناها الأجهزة المصرية.
أبطال العمل حصرهم سامي في كل من محمد رمضان وأحمد السقا لتجسيد شخصية أشرف مروان في “العميل”، وكلاهما معروف بدعمه لسياسة لدولة ومواقفها
أما أبطال العمل، فقد حصرهم سامي في كل من محمد رمضان وأحمد السقا لتجسيد شخصية أشرف مروان في “العميل”، وكلاهما معروف بدعمه لسياسة لدولة ومواقفها، كما عمل كل منهم في الفترة الأخيرة على الكثير من الأعمال السينمائية والدرامية التي تروج للجيش والشرطة، وكان آخرها مسلسل “نسر الصعيد” الذي يجسد فيه محمد رمضان دور رجل الشرطة، أما أحمد السقا فقد عمل على فيلم “سري للغاية” يجسد فيه شخصية الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لكن في ظل تفاؤل السيناريست بأن عمله سيكشف عن خداع مروان لـ”إسرائيل” حتى النهاية، وسيقدم مفاجآت غير سارة وأسرارًا صادمة للإسرائيليين، يبدو السؤال واضحًا: هل تستطيع مصر منافسة “إسرائيل” سينمائيًا بعمل يشاهده العالم أم ستنتج مجددًا فيلمًا على طريقة “خالتي بتسلم عليك”؟
فيلم مخابراتي أم وطني؟
منذ شروعه في كتابة السيناريو، لم يتواصل سامي مع أجهزة في الدولة، لكنه لمس أن الدولة راضية عن الفكرة بعد الانتشار المكثف لخبر الموافقة على “العميل” دون أي تعليقات أو توجيهات رافضة للمبدأ، ولفت إلى أن الدولة لم تتقدم خطوة إلى الأمام لدعمه على مستوى الإنتاج، لكنه يناقش العروض المقدمة له سواء كتابته كفيلم أم مسلسل.
وبرأي الناقد الفني طارق الشناوي في تصريحاته لموقع “رصيف 22“، فإن الرد على فيلم “الملاك” لا يأتي بفيلم مصري أو عربي، إنما بفيلم عالمي مماثل يشارك فيه ممثلون من هوليوود، لأن “إسرائيل” تقدم للعالم جاسوسًا خطيرًا تدين به السلطة السياسية المصرية منذ عبد الناصر حتى مبارك.
وبرأي الشناوي، تتهرب الدولة المصرية من كشف حقيقة أشرف مروان بدعوى عدم النبش في الأسرار العسكرية، ولا سيما المتعلقة بدفاتر فترة حرب أكتوبر، ويبدي شعوره بأنها لم تأخذ موضوع الفيلم بجدية حتى الآن، لكن ربما يتغير الموقف على حسب ردود الفعل على “الملاك”.
قد تفسر ردود الفعل هذه الأسباب وراء مسارعة أجهزة الدولة لإنتاج فيلم عن أشرف مروان، ومطالبة البعض جهات في الدولة لتغطية ميزانيته وتوفير كل الإمكانات من حيث الإنتاج أو الأبطال الأكثر شعبية أو التسويق الخارجي، كما أن المعالجة السينمائية التي قدمها هاني سامي لفيلم “العميل”، تحمل قصة وطنية ستكون لأشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
أحد الصحفيين المتخصصين في الشأن الفني، مصطفى عوض، قال إن السيناريو والعمل جاء من داخل أجهزة سيادية
وفي سبيل ذلك، ادعى أنه اعتمد في كتابة السيناريو على جمع المادة من خلال المراجع وبعض الوثائق اللي نشرت لكتَابنا الكبار، واحتوت على شهادات حية لبعضهم، وكذلك بعض القرائن التي تؤكد أن مروان شخصية وطنية، ولا علاقة له بما طرحه الجانب الإسرائيلي من أنه كان جاسوسًا لصالحهم.
وأوضح سامي، أن صراع القادة العسكريين الإسرائيليين بعد وفاة أشروف مروان بـ10 سنوات، عما إذا كان عميلًا ضدهم أو معهم، هو ما دفعه لفكرة كتابة فيلم عنه، لافتًا إلى أن كتاب “الملاك” المأخوذ عنه الفيلم الأمريكي به قرائن تدين معالجتهم للفيلم، لأن به تناقضات تنفي بعضها بعضًا.
إلا أن أحد الصحفيين المتخصصين في الشأن الفني، مصطفى عوض، قال إن السيناريو والعمل جاء من داخل أجهزة سيادية تم تسليمها لهاني سامي الذي أضاف “حبكة فنية” قبل أن يتم إعلان الموافقة من المصنفات الفنية كطريقة صورية.
وأضاف في تصريحات صحفية “الموافقة على العمل جاءت في توقيت مقارب بعد الإعلان الترويجي لفيلم “الملاك”، بدعوى ربط فكرة أخرى مقابل فكرة العمل الإسرائيلي الذي أكد أن أشرف مروان عمل جاسوسًا لها ضد مصر، وما بين الفيلم الإسرائيلي والآخر المصري الذي ستنتجه على أقرب تقدير إحدى الشركات التابعة لجهة سيادية سيحكم الجمهور ويكشف الحقيقة بنفسه”.
ماذا عن “الملاك”؟
يسرد فيلم “الملاك” قصة المصري أشرف مروان الذي كان متزوجًا من ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكان مستشارًا مقربًا للرئيس أنور السادات، وفي الوقت نفسه اعتبرته “إسرائيل” واحدًا من أهم الجواسيس، ويلعب دور أشرف مروان الممثل الهولندي من أصل تونسي مروان كنزاري، وتلعب ميساء عبد الهادي، وهي من عرب “إسرائيل”، دور زوجته، بينما يلعب دور عبد الناصر الممثل الأمريكي من أصل فلسطيني وليد زعيتر، فيما يلعب دور السادات الممثل الإسرائيلي من أصل عراقي ساسون غاباي.
ويروي فيلم “الملاك” قصة حياة أشرف مروان (1944-2007)، استنادًا إلى كتاب الكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف الذي يحمل الاسم نفسه، ويصف فيه مروان بأنه موظف مصري رفيع عمل سرًا لمصلحة الموساد الإسرائيلي واستطاع الوصول إلى أدق أسرار الحكومة المصرية كونه صهر عبد الناصر، وعمل مستشارًا للرئيس المصري الأسبق أنور السادات.
ووفقًا لجوزيف، حول مروان أسرار الحكومة المصرية إلى كتاب مفتوحٍ، منقذًا “إسرائيل” من الهجوم المصري السوري المشترك في حرب أكتوبر 1973، وتكريمًا له، لم يكن الكتاب كافيًا لإيصال خفايا مسيرته، بل أنتجت شركة “TTV” الإسرائيلية بالتعاون مع شركة “ADAMA” الفرنسية فيلم “الملاك” أيضًا.
وبحسب عرض سابق لنون بوست، فإن اللافت في كتاب “الملاك” هو تحليل مؤلفه للأسباب التي دعت مروان للتعاون مع الموساد رغم حساسية موقعه باعتباره صهر عبد الناصر، ويبرز بالتحديد عاملان واضحان الأول هو المال؛ حيث كان مروان تواقًا للحياة المترفة، ويقول إن انضمامه للعائلة الرئاسية جعله على احتكاك بطيف واسع من الأثرياء في داخل مصر وخارجها، لكنه في الوقت ذاته قلل من فرصه في أن يصبح هو نفسه ثريًا بسبب النزعة التقشفية التي كان ناصر يفرضها على عائلته.
كانت القصة قد بدأت عام 2003، حين ألقت “إسرائيل” قنبلة صحفية، وقالت إن مروان كان عميلاً للموساد حتى وفاته في 2007
أما الدافع الثاني الذي يراه المؤلف أفضل تفسير للسبب الذي جعل مروان يختار الموساد من بين جميع وكالات الاستخبارات الأخرى فهو الغرور! فبزواجه من ابنه الرئيس والانضمام لدائرة السلطة في مصر، حقق مروان نجاحًا يفوق أقصى أحلام أي شاب مصري آخر في عمره، لكن طموحاته الأبعد اصطدمت بعدم ثقة ناصر به.
وكانت القصة قد بدأت عام 2003، حين ألقت “إسرائيل” قنبلة صحفية، وقالت إن مروان كان عميلاً للموساد حتى وفاته في 2007؛ الأمر الذي دفع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك إلى القول في تصريح مقتضب بخصوصه على طائرته في إحدى الجولات الخارجية، إن مروان كان “وطنيًا مخلصًا” بامتياز، وقام بأعمال وطنية لم يحن الوقت لكشفها، ولم يكن عميلاً لأي جهة، نافيًا تمامًا أن يكون أبلغ “إسرائيل” عن وقت حرب أكتوبر.