خرجنا للحياة، مرت علينا السنوات الدراسية، ولم نعرف عن مرحلة ما قبل الإسلام إلا مصطلح “الجاهلية”، ولكن ماذا عنها، هل كانت تلك الكلمة التي ارتبطت في أذهاننا بمواصفات فانتازية للكفار في السينما المصرية، توصيفًا حقيقيًا لما جرى على أرض الواقع، أم أنه ليس أكثر من ازدراء لحقبة الوثنية وعبادة الأصنام التي كان عليها العرب قديمًا، بما جعل المؤرخون المسلمون ينشغلون عن تأريخها وإبراز تفاصيل جهل وغفلة وعزلة العرب عن المجتمع الخارجي قبل الإسلام.
لن تكفي مجلدات للحديث عن قصة ما حدث في تأريخ التاريخ الجاهلي، خاصة أنه كان لافتًا للنظر أن لفظ “الجاهلية” ورد في القرآن الكريم بالسور المدنية دون المكية، بما يعني أن بداية تأريخ المصطلح جاء بعد هجرة الرسول إلى المدينة، ومن وقتها وهي تعرف بهذا الاسم الذي تفرع بشدة وترواح تفسيره بين من يريد نسبه إلى الجهل بالقراءة والكتابة فقط ومن يريد أن يعممه على كل من كان يجهل أي طريقة تؤدي إلى الله ورسوله وشرائع الدين الحنيف.
فيما ذهب فريق آخر، كشف عنه المستشرق المجري “كولدتزهير”، إلى أن اللفظة أطلقت على العرب القدامى بسبب مغالاتهم في التباهي بالحسب والنسب، بطريقة لا يمكن تصورها إلا في ثوب الكبر والتجبر، وهي صفات تراها الشريعة الإسلامية من أهم ملامح الجاهلين، لذا دعا الإسلام دائمًا إلى الابتعاد عن التفاخر بالأحساب والأنساب، حتى لا يصاب الإنسان بأمراضها التي لا حصر لها.
بين التاريخ الحقيقي والأساطير.. أين تقف الجاهلية؟
يمكن استنباط الكثير من الاستنتاجات عن سر التعريفات المتعددة والمتناقضة في كثير من الأحيان بخصوص معنى الجاهلية وعدم الوصول إلى حل توافقي لتوصيفها بدقة، وسرد الحقائق التي جرت بتلك الحقبة، على رأسها أن المؤرخين العرب لم يهتموا بها بما يكفي، الأمر الذي جعل هناك حاجة لضبط المعنى وإزالة كل ما لحق بتاريخ تلك الحقبة من أساطير.
استخدم المستشرقون الكتب العربية التي حكت كثيرًا عن التاريخ الجاهلي، واستعانوا بمصادر تاريخية نادرة، ساعدتهم في تكوين تصور أقرب لما كانت عليه الجاهلية
كان القرن التاسع عشر بداية إزالة الكثير من الغموض عن الألغاز التي رافقت المصطلح طوال العقود التي سبقت هذا التاريخ، بعدما تصدي عدد من المستشرقين لتناول الجاهلية بالنقد، وخصصوا عدة معايير علمية كانت وقتها أحدث ما توصل إليه العلم، بما كشف في النهاية عن كواليس كثيرة للغاية تحكي عن الجاهلية التي لم تكن معروفة من قبل، أهمها على الإطلاق، مجموعة الكتابات التي دونها العرب قبل الإسلام، وأعُيد تعلمها بعد أن تم طمسها مدة تزيد على ألف عام، وهذه اللغات هي البوابة الكبرى لمعرفة التاريخ الجاهلي الصحيح.
قبل مئتي عام من الزمان، لم يكن بهذه السهولة التي يتوقعها أحد تجول باحثين عن التاريخ بين حضارات وبيئات ثقافية مختلفة في الصحراء، أملاً في الحصول على أقل المعلومات عن الخرائب والأماكن التي تم نسيانها، لذا دفع العلماء والسياح ثمنًا غاليًا كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، للحصول على تأريخ يمكن قبول نتائجه، لمعرفة ما الذي كان يحدث على وجه الدقة قبل موعد قدومهم بهذه البقعة من قلب العالم.
استخدم المستشرقون الكتب العربية التي حكت كثيرًا عن التاريخ الجاهلي، واستعانوا بمصادر تاريخية نادرة، ساعدتهم في تكوين تصور أقرب لما كانت عليه الجاهلية، استخدموا النقوش والكتابات والتوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى، بجانب جمع الكثير من الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية التي ورد فيها أي كتابات عن العرب القدامى.
استحدم الباحثون عن تاريخ الجاهلية، المواضع التي ذكر فيها العرب بأسفار التوراة التي شرحت الكثير من علاقات العبرانيين بالعرب، والتوراة كما هو معروف عنها، مجموعة من الأسفار التي كتبها أنبياء لعصور مختلفة، وأغلبها كتب في فلسطين، بينما كتب حزقيال والمزامير في وادي الفرات أيام عصر السبي، وآخر ما كتب منها كان سفر دانيال والإصحاحان الرابع والخامس من سفر المزامير الذي كتب بالقرن الثاني قبل ظهور المسيح.
ساعدت الاستعانة بالكتب الكلاسيكية القديمة التي خطت باليونانية واللاتينية وجرى تأليفها قبل ظهور الإسلام، في معرفة أخبار تاريخية وجغرافية على درجة عالية من الأهمية خاصة أنها كانت تحتوي على أسماء قبائل عربية كثيرة
كانت النقوش والكتابات في صدر المصادر التي كشفت أسرارًا هائلة عن التاريخ الجاهلي بالمنطقة العربية، ومنها عُرفت هوية الجزيرة الغائبة، خاصة أن النقوش احتوت مفاجآت كبيرة بعد رصد كتابات بالمنطقة غير عربية، ورغم ذلك كانت تحكي تاريخ العرب ببعض التفاصيل التي لم تذكر من قبل حتى في النصوص الإسلامية، كبعض النصوص الآشورية والبابلية والنصوص المكتوبة بلهجات مختلفة، ولم تقف عمليات البحث عن الجزيرة العربية فقط، بل امتدت عمليات البحث عن التاريخ المطموس، لتشمل مصر وبعض جزر اليونان وأرض الحبشة.
كما ساعدت الاستعانة بالكتب الكلاسيكية القديمة التي خطت باليونانية واللاتينية وجرى تأليفها قبل ظهور الإسلام، في معرفة أخبار تاريخية وجغرافية على درجة عالية من الأهمية خاصة أنها كانت تحتوي على أسماء قبائل عربية كثيرة، ولولا هذه الكتب ما كنا عرفنا عنها شيئًا حتى الآن، كما كشفت الكتب أيضًا، حجم الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب.
كان الكتاب الكلاسيكيون القدامى، يهتمون بتدوين كل ما يصل أيديهم عن العرب، وأغلبهم كان لديهم يقين بوجود علاقات قديمة بين سواحل بلاد العرب واليونان والرومان، وبعض الكتب ذهبت إلى درجة من الغلو في الحديث عن علاقة العرب باليونان، وأكدت وجود أصل دموي مشترك بين العديد من القبائل العربية وشعب اليونان، ورغم صعوبة تأكيد هذه المعلومات بعد قرون طويلة على بداية البحث عنه، إلا أنها تكشف في الوقت نفسه عدم انعزال العرب القدمى وقوة علاقاتهم بسكان البحر المتوسط.
العرب هم العرب.. ماذا كشفت كتب التاريخ عن أصلهم في الجاهلية؟
رغم هذه الاكتشافات العظيمة لما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، فإن مكنون الثقافة العربية تجذر أكثر عند المستشرقين الذين وجدوا صدى للفكر العربي الراهن الذي لا يفضل الانخراط في الشؤون العامة وينأى بنفسه عن مشاركة الحاكم ومحاسبته ولا يطالب بالحرية أو المشاركة في اتخاذ القرار، كما هو الحال في الفكر الغربي، فكان جل الكتابات الجاهلية التي عثر عليها، مجموعة كتابات شخصية، ابتعدت بشكل كبير عن الحالة السياسية ولم ترصد نبض المجتمع واتجاهاته العلمية والدينية التي كانت سائدة في هذا التوقيت.
توالت الاكتشافات، وبدأت الحفريات تسفر عن الكثير مما تم إخفاؤه من التاريخ الجاهلي، أهمها على الإطلاق النصوص التي عثر عليها وكشفت تفاصيل الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد وحُمير في مدينة ناعط، بجانب الكشف عن نص كتبه أبرهة عندما كان نائبًا لملك الحبشة، ويحوي معالجات مهمة للأحداث تتألف من 136 سطرًا، ويعود تاريخها إلى عام 658 الحُميرية أو 543 م، وكانت الوثيقة مكتوبة باللغة الحُميرية بشكل رديء وركيك.
تبع الاكتشافات المتتالية معرفة بعض اللهجات العربية الشمالية التي أكدت في مجملها عربية لغة القرآن الكريم، بينما استفاد المتشرقون من البحث المتواصل عن اللغات الثمودية واللحيانية والصفوية، في استخراج أسماء بعض الأصنام، بجانب معرفة أسماء الكثير من القبائل التاريخية التي لم تكن معروفة من قبل.
توصلت عملية البحث في مطلع القرن التاسع عشر إلى كتابات المؤرخين النصارى، وخاصة الروم والسريان الذي عاصروا أيام الدولة الأموية والعباسية، وكانت الأحداث الجارية آنذاك أقوى حافز لهم، للبحث عن تاريخ العرب في الجاهلية قبل الإسلام، كيف كانوا وماذا أصبحوا
كان لصعوبة رصد تقويم ثابت في بلاد العرب قبل الإسلام، العامل الأكبر في تأخير الكشف عن إنجازات تحكي تاريخ الأجزاء المطموسة في عمر المنطقة، وخاصة أن العرب اعتمدوا في تأريخهم للحوادث على حكم الملوك، والإشارة لحادث دون غيره إلى توقيت حدوثه في زمن حاكم بعينه، وكان يقال حدث هذا في عهد الملك أو العام الذي حكم فيه الملك فلان، ودخل على الخط لنفس التقويم الثابت، عظماء القبائل وأرباب الأسر، وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئين والقتبانيين وعند غيرهم في مختلف أنحاء جزيرة العرب.
ورغم ذكاء الطريقة التي لجأ إليها العرب القدامى في حفظ أحداثهم حسب الإمكانات المتاحة، فإن كثيرًا من الأحداث سقطت من ذاكرة التاريخ بهذه الطريقة، ولم تتوصل عمليات البحث بشكل جدي في تاريخ المنطقة منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى الكثير من الأحداث، فالطريقة التي كانت مستخدمة قديمًا لتأريخ الأحداث، ارتكنت لفترة وقوعها في زمن حاكم بعينه، ويبدو أن العرب وقتها لم يكونوا على دراية، بأن شهرة الإنسان لا تدوم وأن الملك فلان أو رب الأسرة أو الزعيم، ربما لن يعرفه أحد بعد أجيال عدة، وقد يصبح نسيًا منسيًا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئًا خاصة أن ذاكرة الإنسان لا يمكن أن تعي إلا الحوادث الجسام.
توصلت عملية البحث في مطلع القرن التاسع عشر إلى كتابات المؤرخين النصارى، وخاصة الروم والسريان الذي عاصروا أيام الدولة الأموية والعباسية، وكانت الأحداث الجارية آنذاك أقوى حافز لهم، للبحث عن تاريخ العرب في الجاهلية قبل الإسلام، كيف كانوا وماذا أصبحوا.
كانت هذه المؤلفات، مفيدة للغاية في تسديد المساحات الواسعة المفقودة في التأريخ الجاهلي، والمنقول فقط عن الروايات الإسلامية التي اعتمدت دائمًا في جمع مادتها عن الجاهلية على الأفواه، ولم تهتم بتدوين علاقات الفرس بالعرب وأحوال الحياة الجاهلية، وكيف كان تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام بمعزل عن القرآن الكريم وهو الكتاب المقدس الذي نزل بالعربية ليخاطب أهل الحجاز ويصف حالتهم وتفكيرهم وعقائدهم، بما يؤكد أن رصد الجاهلية، يحتاج للعديد والعديد من المقالات للاشباك معها، ونقل الأسرار التي يعرفها غالبيتنا عنها.