تُجرى منذ بداية آب/أغسطس مباحثات فلسطينية ـ فلسطينية، وأخرى فلسطينية ـ إسرائيلية غير مباشرة بوساطة مصر والأمم المتحدة، الأولى في سبيل تحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، والأخرى في سبيل تحقيق هدنة طويلة الأمد بين المقاومة و”إسرائيل”، تشمل تقديم “إسرائيل” تسهيلات إنسانية كبيرة، وتصل بعدها إلى النظر في المفاوضات بشأن صفقة لتبادل الأسرى بين المقاومة و”إسرائيل”.
في الحقيقة أبدت حماس التي تُعد عراب الفصائل في المفاوضات المُتعلقة بالتهدئة، حرصًا كبيرًا على عدم خلط الملفات وتناول كل ملف على حدة، لكن يبدو أنها ترى اليوم نفسها مضطرة لتناول كل الملفات معًا، ليصبح التساؤل المطروح: لماذا باتت الملفات مترابطة؟
إن الهدف الأساسي لحماس من المباحثات هو النظر في آلية لتوظيف مسيرات العودة الشعبية وخطة “ملادينوف” المطروحة من مبعوث الأمم المتحدة لدى منظمة التحرير الفلسطينية نيكولاي ملادينوف، لفك الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة منذ صيف عام 2007، مع محاولة استغلال الأجواء السلبية التي تحيط القضية الفلسطينية في ظل إدارة ترامب التي نفت حق الفلسطينيين في القدس وتُلمح إلى إلغاء حق العودة لإتمام المصالحة الفلسطينية، ولعل الدافع الأساسي لحماس في تحقيق هذين الهدفين يكمن في حرصها على الحفاظ على مشروعيتها الشعبية، بعد تعسر الوضع الاقتصادي في غزة، “فالجائع لا يقاوم ولا يدعم مقاومًا”.
لكن على الرغم من محاولتها الحثيثة لإظهار ليونة شديدة لإتمام المصالحة، والنظر في إمكان عقد تهدئة مع الاحتلال، فإن حماس تواجه رفضًا متصلبًا من السلطة الفلسطينية، على الرغم من إقدامها، أي حماس، على رفع “شرعية” تحركها عبر ضمها 9 فصائل لوفدها، وفي هذه النقطة تكمن الإجابة عن تساؤل المقال الرئيس الذي يدور حول السبب الأساسي وراء ارتباط الملفات ببعضها بعضًا.
إتمام التهدئة طويلة الأمد دون موافقة السلطة الفلسطينية يحمل في طياته مخاطرًا إستراتيجية أوضحها ترسيخ الانقسام الجغرافي السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة
والإجابة هي أن تعنت السلطة التي تقود في ذات الوقت منظمة التحرير الفلسطينية ـ الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني ـ أدت إلى اضطرار حماس لمناقشة ملفي المصالحة والتهدئة على نحو متناسق، فرفض السلطة لمفاوضات الفصائل غير المباشرة مع الاحتلال، اضطر حماس لتقديم خطوة المصالحة على التهدئة، وهو ما أدى إلى خلط الملفات.
إن إتمام التهدئة طويلة الأمد دون موافقة السلطة الفلسطينية يحمل في طياته مخاطرًا إستراتيجية أوضحها ترسيخ الانقسام الجغرافي السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وأخطرها فقدان منظمة التحرير موقعها الدولي كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، ما يُدخل القضية في آتون الانقسام السياسي الصارخ على الساحة الدولية، حيث يصبح بإمكان كل فصيل أن يرى في نفسه ممثلًا للفلسطينيين، فيغيب الإجماع الوطني “المؤسسي” كما هو الحال عند المعارضة السورية.
والراجح أن تتجنب حماس هذا السيناريو حال استمرت السلطة في تعنتها، وتجنح إلى خطة ملادينوف الأممية التي تتضمن دعم بقيمة 400 مليون دولار للبنية التحتية والقطاعات الخدمية التي إن تمت بوجود اللجان الإدارية لحماس على رأس عملها، يمكن أن تشكل بجانب عوائدها الاقتصادية المُجدية وإقدام بعض دول الإقليم “تركيا وقطر” على دعمها كي تكلل بالنجاح، ورقة ضغط تدفع السلطة لإظهار ليونة، وبالأخص في ظل احتمال أن تضغط القاهرة في سبيل التصدي لأي تدخل تركي أو قطري بارز.
تواجه حماس حالة سياسية وشعبية لا تُحسد عليها، فمن جانب هي مضطرة لإظهار ليونة كبيرة في عملية المصالحة، ومن جانب آخر تحاول تحقيق مكتسبات وازنة من مفاوضاتها غير المباشرة مع الاحتلال كي تحقق تهدئة طويلة الأمد
وقبل إغلاق باب المقال، يجدر النظر إلى أسباب رفض السلطة لإتمام المصالحة، على الرغم من توقيع عدة اتفاقات بشأنها، تُستقى الأسباب مباشرة من تصريحات وفد فتح، فعزام الأحمد أشار إلى شروط حركته للمصالحة وهي:
ـ تمكين حكومة الوفاق بالكامل في قطاع غزة، والتمكين يعني حل حماس كل اللجان الإدارية، وإخضاع سلاحها وسلاح المقاومة للجنة تشمل الإجماع الوطني.
ـ وقف مفاوضات التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي، وينبع هذا الشرط من مخافة انتقال حالة الانقسام الداخلي إلى حالة تنازع شرعية على صعيد دولي.
ـ موافقة مكتوبة من حماس على أن سلاحها يخضع للإجماع الوطني.
في الختام تواجه حماس حالة سياسية وشعبية لا تُحسد عليها، فمن جانب هي مضطرة لإظهار ليونة كبيرة في عملية المصالحة، ومن جانب آخر تحاول تحقيق مكتسبات وازنة من مفاوضاتها غير المباشرة مع الاحتلال كي تحقق تهدئة طويلة الأمد، وإن لم يكن، فخطة أممية تحل أزمة القطاع على نحو جذري، ويبدو أن إستراتيجية “الصبر الإستراتيجي” التي تقوم على النفس الطويل لتحويل جزء من المعادلة لصالحها، مع الإبقاء على مسيرات “العودة” والمباحثات الجارية في القاهرة، قد تفي لحماس بجزء جيد من تحقيق طموحها.