شهدت خريطة الإعلام المصرية تغيرات وتقلبات خلال الأعوام الثلاث الأخيرة على وجه التحديد لم تشهدها منذ معرفة المصريين بالإعلام عبر “الوقائع المصرية” (أول صحيفة عربية في الشرق الأوسط) في ديسمبر 1828، إذ بلغت معدلات ديناميكية الحركة فيها، صعودًا وهبوطًا، قياسات غير تقليدية وصلت إلى قفزات غير متوقعة فشل خبراء المجال في تفسير الكثير منها.
جملة من التغيرات فرضت نفسها على الساحة خلال الفترة الماضية، وقف برامج وفتح أخرى جديدة، منع ظهور إعلاميين وحبس آخرين، غلق قنوات ودمج بعضها، حتى وصل الأمر إلى تدشين مجلس لـ”تأميم” هذه المنظومة برمتها، يكون يد السلطة لتقليم أظافر المغردين خارج السرب حتى إن كانوا أبناء السلطة.
خلال الأيام القليلة الماضية فوجئ الجميع بقرارات منع ظهور عدد من الإعلاميين الموالين للنظام الحاليّ، الذين كانوا أحد أبرز أذرعه التي روجت لترسيخ أركانه، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات، غير أن الكثير من المقربين ذهبوا إلى أن الأمور تسير نحو اقتراب حلم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في إعادة استنساخ إعلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث الصوت الواحد، لا مجال فيه للمعارضة مطلقًا، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وهي التجربة التي طالما كشف السيسي إعجابه بها وأمنيته أن تعود مرة أخرى.
“الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظًا، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه”، عكست مقولة السيسي هذه حلمه في امتلاك إعلام موالٍ تمامًا له
إطاحات بالجملة
في أقل من شهر أُطيح بما يقرب من عشرة إعلاميين مرة واحدة، بعضهم كان عبر منعه من الظهور على الفضائيات والبعض الآخر من خلال إيقاف برنامجه، فيما جاء غلق قنوات بأكملها، قناتي “ON E” و”DMS sport” الفضائيتين، على قائمة القرارات الأكثر صدمة لعشرات الإعلاميين ممن وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها على أرصفة البطالة.
الملفت للنظر أن جميع الإعلاميين المطاح بهم من أشد المؤيدين للنظام الحاليّ وأبرز خصوم ثورة 25 يناير، على رأسهم تامر عبد المنعم المعروف بولائه وقربه للرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي فوجئ بوقف برنامجه المذاع على قناة “العاصمة”، كذلك تامر أمين، مقدم برنامج “الحياة اليوم” المذاع على قناة “الحياة” بجانب المحامي خالد أبو بكر والإعلامية نهاوند سري.
هذا بخلاف الإعلامي عزمي مجاهد صاحب الأسلوب المثير للجدل والسخرية، الذي اتهم الشعب المصري قبل عدة أيام عبر برنامجه على قناة “العاصمة” بأنه “شعب يخاف ميختشيش” تعليقًا على عدم رضا البعض عن أداء الحكومة والنظام الحاليّ الذى أدى إلى تراجع المستوى المعيشي للملايين من المصريين.
ما حدث جاء على خلفية تعثر مفاوضات لا تزال مستمرة تهدف لإقناع لميس الحديدي بالانتقال إلى شاشة “أون تي في” المملوكة لشركة “إعلام المصريين” المملوكة بدورها لجهاز المخابرات العامة
كذلك مغادرة الإعلامي عمرو الليثي قناة “الحياة” التي تولى رئاستها لمدة 6 أشهر، فيما أشارت بعض التكهنات إلى وقف برنامج “العاشرة مساءً” المذاع على قناة “دريم” الذي يقدمه الإعلامي وائل الأبراشي، كذلك برنامجي “ملعب شريف” الذي يقدمه الإعلامي أحمد الشريف، و”صح النوم” الذي يقدمه الإعلامي محمد الغيطي، المعروضين على قناتي الحدث اليوم وLTC الفضائيتين.
القرار الأكثر إثارة للجدل كان الإطاحة بالإعلامية لميس الحديدي، وغيابها عن تقديم برنامجها اليومي”هنا العاصمة” المقدم على قناة “CBC” خاصة أنها كانت المذيعة التي اختصها السيسي لإجراء أول حوار معه – بجانب إبراهيم عيسى – قبيل ترشحه للانتخابات الرئاسية في 2014.
الحديدي وعلى حسابها بموقع “تويتر” كتبت قبل عدة أيام: “وخلصت الإجازة، راجعين للشغل تاني، هنا العاصمة التاسعة مساءً السبت القادم 1 من سبتمبر بإذن الله” غير أن أحد العاملين بالقناة، مشترطًا عدم الكشف عن هويته، قال إن لميس تواجدت بالفعل في القناة، وعملت مع فريقها على التجهيز للحلقة، قبل أن يتلقى فريق البرنامج اتصالًا من إدارة القناة لإبلاغهم بأن الحديدي لن تقدم الحلقة، وبأن ريهام إبراهيم المذيعة بالقناة نفسها، ستظهر بدلًا منها، حسبما كشف “مدى مصر“.
و خلصت الاجازه، راجعين للشغل تاني. هنا العاصمه التاسعه مساء السبت القادم ١ سبتمبر بإذن الله pic.twitter.com/ilXp2OlMyn
— Lamees elhadidi (@lameesh) August 28, 2018
سيناريوهان لتفسير غياب الحديدي عن برنامجها، أحدهما يشير إلى رغبة النظام في الإطاحة بالوجوه القديمة حتى إن كانت مؤيدة لا سيما أن عليها عدد من علامات الاستفهام عند الجمهور، فيما ذهب آخرون إلى أن ما حدث جاء على خلفية تعثر مفاوضات لا تزال مستمرة تهدف لإقناعها بالانتقال إلى شاشة “أون تي في” المملوكة لشركة “إعلام المصريين” المملوكة بدورها لجهاز المخابرات العامة.
حملة الإطاحة لم تتوقف عند مقدمي البرامج التليفزيونية أو على عدد من الصحفيين هنا أو هناك، بل تجاوزت إلى مذيعي المحطات الإذاعية كذلك، لعل آخرها حركة التنقلات المثيرة للجدل لرؤساء الشبكات الإذاعية، حيث تم نقل 6 مذيعين من شبكة القرآن الكريم وتوزيعهم على عدد من الإذاعات الأخرى داخل مبنى الإذاعة والتليفزيون (الحكومي).
السيسي والإعلام
“الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظًا، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه”، عكست مقولة السيسي هذه حلمه في امتلاك إعلام موالٍ تمامًا له، وذلك خلال كلمته في احتفالية إعلان تدشين محور تنمية قناة السويس، في 5 من أغسطس 2014، حجم التوتر بينه وبين الإعلام بصورة عامة التي تكشفت لاحقًا في العديد من التصريحات التي هاجم فيها وحذر معربًا عن عدم رضاه عن المعالجة الإعلامية لكثير من القضايا.
بعد تلك المقولة بأقل من شهر وتحديدًا في 6 من سبتمبر، انتقد السيسي خلال كلمته في إحدى الندوات التثقيفية للقوات المسلحة، طريقة تناول وسائل الإعلام لقضية انقطاع الكهرباء، وتحديدًا جملة “الحكومة منورة”، قائلًا: “لما ألاقي في الجرنال مكتوب الحكومة منورة، هو أنت كده يعني بتعالج الموضوع لما تكتب كده؟ مينفعش، لكن الحل في معالجة الأمور”.
احتلت مصر المرتبة الـ161 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة خلال 2017
وبعدها بشهر ونصف، وخلال حضوره مناورة ذات الصواري بالإسكندرية، وجّه السيسي كلمة للإعلاميين قال فيها: “أنتوا الإعلاميين، على مهلكوا على المصريين، الناس قاعدة في بيوتها بتسمع منكم وبتقرأ لكم، خلوا عندهم أمل عشان إحنا ماشيين كويس، مش زي ما إحنا عايزين، لأن آمالنا كبيرة أوي، خلوا فيه سياق عام تتكلموا فيه، اللي هو الحفاظ على الدولة المصرية”.
وصل هذا الصدام ذروته في 24 من فبراير 2016، حين طالب الشعب المصري عدم الاستماع إلى أي شخص آخر غيره، وذلك في أثناء كلمته باحتفالية تدشين إستراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030، وفي 26 من يوليو العام الماضي طالب بخلق “فوبيا” لدى الشعب المصري من إسقاط الدولة المصرية، وحماية مصر من السقوط، وذلك خلال فعاليات المؤتمر الدوري الرابع للشباب بالإسكندرية.
https://www.youtube.com/watch?v=KEkAsf-Ds6M
“الأعلى للإعلام”.. نافذة إحكام السيطرة
لم يتحمل الرئيس المصري الانتقادات الموجهة لنظامه عبر وسائل الإعلام كثيرًا، ولم ينتظر طويلاً لتحقيق حلمه في امتلاك “إعلام عبد الناصر”، ومن ثم كان البحث عن حل لإسكات الأصوات غير الموالية وإخماد المنصات التي لا تدين بالولاء الكامل، وعلى الفور كان التفكير في إنشاء جهاز رقابي على منظومة الإعلام برمتها، وفي 11 من أبريل 2017 أصدر السيسي قرارًا بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، برئاسة أحد أبرز مؤيديه في الإعلام، نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد، وعضوية 12 آخرين.
تعددت صلاحيات المجلس المشكل بصورة تجاوزت صلاحيات وزارة الإعلام في السابق، وصلت إلى حد غلق قنوات ومنع برامج ومعاقبة إعلاميين، فكان قرار منع إذاعة إعلان شركة فودافون “أبلة فاهيتا” في ديسمبر 2017 لما ينطوي عليه من ألفاظ لا تليق بالذوق العام حسبما أشار القرار، كذلك إحالة أحمد سعيد، مقدم برنامج “كلام في الكورة” على قناة “الحدث اليوم” إلى التحقيق بنقابة الإعلاميين بسبب ما اعتبره تجاوزًا في حق تركي آل الشيخ وزير الشباب والرياضة السعودي، في يونيو من نفس العام، إضافة إلى وقف برنامج “S.N.L” بالعربي الذي يُبث على قناة “ON.E“، وذلك لدأب البرنامج، حسبما زعم المجلس، على استخدام الألفاظ والعبارات والإيحاءات الجنسية التى تخالف المعايير الأخلاقية والمهنية.
ومن ثم بات المجلس الأداة التي من خلالها تعيد السلطات المصرية إعادة تشكيل الخريطة الإعلامية وفق ما يتراءى لها، فمن يلتزم بالخيط المرسوم وينفذ ما يملى عليه من تعليمات فهو المقرب المدعوم حتى إن خالف معايير المهنية، وعلى العكس من فكر في التغريد خارج السرب ولو من باب حفظ ماء الوجه وإن كان مؤيدًا وداعمًا، فسيكون العقاب مصيره أيًا كانت مهنيته.
ضبابية غير مسبوقة
نتاجًا لما سبق، وفي ظل الضبابية غير المسبوقة التي يعاني منها المشهد الإعلامي في مصر، فقد شهدت الخريطة الإعلامية تمزقًا في شتى جوانبها حتى باتت ثوبًا مهلهلاً لا يسلم كل من يرتديه من سهام التنكيل والتوبيخ، حتى من بعض المؤيدين للنظام، وتشير التقارير إلى أن هناك ما يقرب من 92 صحفيًا وإعلاميًا داخل السجون والمعتقلات بتهم تتعلق بمهام وظيفتهم أو آرائهم السياسية.
نحو 513 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في مصر في أثناء تأدية عملهم تم رصدها خلال عام واحد في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017، حسب مرصد “صحفيون ضد التعذيب”، فيما كشفت مؤسسة حرية الفكر والتعبير المعنية بالدفاع عن حريات الصحافة، في تقرير لها عن حجب ما يزيد على 500 موقع منذ مايو 2017 وحتى الآن دون مبررات، أسفر عن تشريد الآلاف من العاملين فيها، صحفيون كانوا أم إداريون وفنيون.
بخلاف زرع الموالين للنظام داخل تلك المنظومة حبذا لو كانوا من العسكريين السابقين كما حدث مع المتحدث العسكري السابق للقوات المسلحة العميد محمد سمير الذي تولى إدارة قنوات “العاصمة”
هذا بخلاف قوانين تضييق الخناق كان آخرها قانون الصحافة الذي وصفه عدد من الصحفيين بـ”قانون إعدام الصحافة”، تلك الضربات الموجعة التي تلقتها الصحافة المصرية أقبعتها في ذيل الدول فيما يتعلق بالحريات، إذ احتلت المرتبة الـ161 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة خلال 2017، بحسب تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود”.
تراجع ترتيب مصر في المؤشرات الدولية لحرية الصحافة
هل يتحقق حلم “إعلام ناصر” لدى السيسي؟
لم يغب حلم “إعلام ناصر” عن مخيلة السيسي منذ توليه مقاليد الأمور، خاصة بعدما فرض الإعلام نفسه كأحد أبرز أدوات التأثير في المشهد السياسي الداخلي والخارجي على حد سواء، بعد ثورة 25 يناير، لذا ومنذ الوهلة الأولى اعتمد عددًا من الإستراتيجيات بهدف تحقيق هذا الحلم، الأولى كانت عبر تجنيد عدد من رجال الأعمال لتكريس أركان النظام بشكل قوي، بينما جاءت الثانية عبر إرهاب العاملين في مجال الإعلام وتضييق الخناق عليهم عبر حزمة من القوانين التي صدرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، على رأسها قانون الإرهاب والإعلام الموحد وقانون الكيانات الإرهابية، وآخرها قانون الصحافة الجديد.
الأمور تسير نحو رغبة حقيقية لدى الدولة في إعادة تنظيم خريطة الإعلام الخاص بعد أن استحوذت أجهزة أمنية مختلفة على أغلب المحطات التليفزيونية والإذاعية على مدار العام الماضي
هذا بخلاف زرع الموالين للنظام داخل تلك المنظومة حبذا لو كانوا من العسكريين السابقين كما حدث مع المتحدث العسكري السابق للقوات المسلحة العميد محمد سمير الذي تولى إدارة قنوات “العاصمة” وبات أحد كتاب صحيفة “المصري اليوم”، فيما جاء التخلص من الإعلاميين المعارضين أو أصحاب أنصاف الولاء آخر تلك الإستراتيجيات المتبعة.
الأمور تسير وفق بعض المصادر نحو رغبة حقيقية لدى الدولة في إعادة تنظيم خريطة الإعلام الخاص بعد أن استحوذت أجهزة أمنية مختلفة على أغلب المحطات التليفزيونية والإذاعية على مدار العام الماضي، عبر شرائها من مالكيها من رجال الأعمال، ويتلخص التصور المطروح مستقبلاً في الاكتفاء بشبكتين رئيسيتين مملوكتين لأجهزة الأمن: “أون تي في” بمجالي الرياضة وبرامج “التوك شو”، و”دي إم سي” في مجال الأخبار.
أما بقية الشبكات والقنوات والصحف الأخرى فلم يعد أمامها سوى خيار من اثنين، الأول: إما الغلق عن طريق البيع للشركتين الرئيسيتين، أو الدمج مع منصات أخرى تجنبًا للإفلاس والغلق، وفي الحالتين ستكون تحت سيطرة السلطات التي من الواضح أنها لن تترك منصة أو نافذة إعلامية إلا وستحكم عليها قبضتها.