13 من يونيو 1956 رحل الوجود البريطاني الظاهر عن مصر ليستبدل بالهيمنة الأمريكية من وراء حجاب، غادر الإنجليز لكنهم تركوا خلفهم ما هو أسوأ وأكثر وطأة من الاحتلال العسكري في 1882، بعد استتباب السيطرة السياسية والعسكرية أدرك الإنجليز ضرورة تخريج جيل من المصريين بمواصفات معينة ليشغلوا الوظائف الحكومية التي من شأنها أن تدير شؤون الدولة بالتعامل مع المستعمر بما ستتعلمه من معارف في اللغة بين القراءة والكتابة وفي الحساب.
فأنشأوا المدارس “المدنية” لتكون مقابل التعليم الأزهري، وهو نوع التعليم الوحيد الذي يعرفه المصريون بعد أن يحفظ الطفل القرآن في الكتاب، ولأن الأزهر كان – وقتها – في القلب من المعارضة ضد المحتل والتوعية ضده فلم تكن هناك فرصة للاعتماد على خريجين هذا النظام.
نشأت تلك المدارس على نظام مطابق لما يجري في بريطانيا نفسها، مهمتها تهذيب العقول أو بكلمات أخرى السيطرة عليها وإخضاعها؛ لتعلمها مجموعة مهارات تؤهلها للوظيفة التي في النهاية تضمن استمرار الحكام بالاطمئنان على الناتج الاقتصادي، ويعتمد هذا النظام التعليمي على طرق تقييم عمودية تقيس جموع الطلاب بدرجات، وتجعل الأفضل فيها من يتفوق على الجميع ويحصل على أعلى درجة في المقياس.
ثمة اعتقاد أصيل في جوهر حضارة القبيلة الأورو-أمريكية بالتفوق الذهني والأخلاقي، بل بضرورة احتكار هذا الادعاء فلا ينافسهم فيه أحد غيرهم
إن مشكلة هذه الطريقة أنها تغرز في نفس الإنسان المقارنة المتنافسة مع الغير “إما أنا وإما هو”، وتصف بجفوة صريحة أن هناك من هو أذكى من غيره؛ بما يبرر مستقبلاً بساطة الاستسلام لسيطرة مجموعة من البشر على غيرهم من منطلق أنهم أعلى، فهم يحملون شهادة ذات أرقام ودرجات تصف بشكل حيادي موضوعي درجتهم بين زملائهم ومجتمعهم.
الحقيقة الواضحة أن هذا الأمر ليس استنباطًا عبقريًا، وإنما أمر واضح يشكل ملامح ثقافة وحضارة القبيلة الأورو-أمريكية، اقرأ معي تعريف الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكن عن العلم: “العلم هو إخضاع الطبيعة والسيطرة عليها”، كان هذا في بداية القرن السابع عشر، أما في 20 من يناير/كانون الثاني 1949 أعلنها الرئيس الأمريكي ترومان أن “الشعوب خارج أمريكا وأوروبا الغربية غير نامين”، وأوضح استعداده – كرمًا – لتنميتنا!
ثمة اعتقاد أصيل في جوهر حضارة القبيلة الأورو-أمريكية بالتفوق الذهني والأخلاقي، بل بضرورة احتكار هذا الادعاء فلا ينافسهم فيه أحد غيرهم، ويمتد الأمر على استقامته ليفرضوا أنفسهم كمعلمين ومشرعين ومفكرين ليرفعونا – بموجب مسؤوليتهم الأخلاقية – من وحل الظلام إلى نقاء نورهم.
من تكلف هذا الاعتقاد أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة الوحيدة التي وصفت نفسها بنفسها أنها “حضارة حديثة”، ليصبح المعنى أن كل ما فات قديم ومترهل ولا يمكن أن تعيش في العصر الحاليّ إلا بضوء حضارتهم، وقد سبقهم في الحياة منذ نشأتها حضارات عظيمة في مصر وفارس والهند والشام واليمن والعراق والأندلس ولم تدع أي منهم هذا الادعاء الفج!
الاعتقاد بقدرة اختبار ذكاء رياضي على تحديد القدرة العقلية للبشر بشكل موضوعي مما يخلق تراتبية ويصنع النخبوية بين البشر يضرب الاعتقاد بالمساواة في مقتل
إن خطيئتهم الأولى – التي ما زالت تشكل عقول أطفالنا – تنبع من تصورهم عن الإنسان، فلا يرون فيه إلا عقلاً، وبالتالي لا ينتجون إلا وسائل لقياس درجة كفاءة هذا العقل، ويصنفون الناس على ما تنتجه هذه الوسائل، فبات طبيعيًا جدًا أن يطل علينا العالم آرثر جينسن عام 1969 بدراسة من جامعة بيركلي يؤكد فيها “علميًا” أن السود – جينيًا – أقل ذكاءً.
صدرت هذه الدراسة في أوج الحملات الإعلامية التي تنادي بالمساوة وترفض وتندد بالتفرقة العرقية والعنصرية، ولو لم يكن في الفكر الغربي ما يمنعهم من تبني هذه الإطروحات ففي حضارتنا بمختلف مآربها ما يمنعنا، وأخص بالذكر إسلامي الذي أعتز به، فيقول النبي محمد في خطبة الوداع: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟”، وهو يتفق مع قول القرآن {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فالاعتقاد بقدرة اختبار ذكاء رياضي على تحديد القدرة العقلية للبشر بشكل موضوعي مما يخلق تراتبية ويصنع النخبوية بين البشر يضرب الاعتقاد بالمساواة في مقتل ويمضي بنا إلى العبث، أو إلى الإيمان بأحقية تسلط البعض دون الآخر على الجميع، وهو أصل مآسي الإنسان في هذه الحقبة التعيسة من الحياة.
الإنسان يتكون من جانب ظاهر يمثله الجسد، وجانب غيبي سنطلق عليه لفظ القلب*، يتشارك في تكوين القلب (الجانب الغيبي): العقل، والوجدان، والضمير على شكل دوائر متداخلة ومتشابكة، ويخاطب المنطق العقل، ويتصل العقل في جسم الإنسان بجهازه العصبي المركزي، ويخاطب الفن والجمال الوجدان (دائرة الشعور)، ويتصل أيضًا بجسم الإنسان عن طريق دماغه (جهازه العصبي المركزي).
فالتعامل مع الإنسان أنه مجرد عقل فيه ظلم وإجحاف لبقية مكوانته، ويحط ذلك من كرامة الإنسان، بل يتمادى الأمر ويُفرق بين البشر على درجات مقياس اختبارات الذكاء إلى الحد الذي سنعتبر فيه ذوي الاحتياجات الخاصة ليسوا بشرًا، ما داموا لا يستقيمون على مقاييسنا التي وضعناها لتحدد قيمة الإنسان بقدرته على أداء المطلوب منه في هذا النظام الشامل.
ما ينتجه نظام التعليم الحاليّ فهو معرفة سطحية هشة هدفها الأول حصول الطالب على الدرجة ليتفوق بها عن رفقائه فيًحسن فرصته باقتناص فرصة العمل المتاحة، مطبقًا النموذج الذي أعدوه له دون تفكير أو البحث عن رغبته الشخصية
وتفوق الدهشة من الثقة في هذا الإطار الظالم دهشتي من فخر أبنائه بعبوديتهم له! علمت من القراءة أن كل حضارة امتلكت عبيدًا، لكن حال كل العبيد كان التذمر والرغبة في العصيان أو على الأقل الغضب من وضعهم، إلا في الحضارة الحاليّة حيث الفخر والزهو بالعبودية لهذا الإطار السطحي الذي ينتج آلات ولا يُعلم الإنسان أن يحيا.
في القرآن ربط واضح ومتكرر بين الحث على التعلم وإدراك وجود الله، وهي الغاية الأولى والأخيرة للقرآن، فيقول:
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ(الْمِيزَانَ) {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا (الْحَدِيدَ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
{أَلَم تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ (الظِّلَّ) وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}.
والكثير من الأمثلة التي يدعو بها إلى التأمل والتدبر في علوم تفيد الإنسان في حياته وبنفس الوقت يطلب منه الاستدلال بها على وجوده وعبادته.
أما ما ينتجه نظام التعليم الحاليّ فهو معرفة سطحية هشة هدفها الأول حصول الطالب على الدرجة ليتفوق بها عن رفقائه فيًحسن فرصته باقتناص فرصة العمل المتاحة، مطبقًا النموذج الذي أعدوه له دون تفكير أو البحث عن رغبته الشخصية أو حتى يقف لحظة ويسأل: لماذا؟
إنني لا أدعوكم بالطبع إلى ترك تعليمكم الرسمي، فهو المؤدي للوظيفة التي تعين على الحياة، ولكنها دعوة للإدراك وللوصول لحقيقة التعلم وأصل التعليم
وشفاء داء تصنيف الناس تدركه في كلمة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يُحسنه”، فمن واجب التعليم أن يخبر سالكه عما يحسنه بشكل شخصي لا عن قدرته وقيمته فيما رُسم له من طريق يريد السطيرة عليه وإخضاعه في نظام عالمي.
يجب علينا التحرر من أسطورة اللحاق بالغرب، ففي تاريخنا نماذج جديرة بالمتابعة والملاحظة، من أول “بيت الحكمة” في الدولة العباسية حتى مجالس مساجد قرطبة الممتلئة بحلقات العلم، يجلس فيها علماء عدة وحولهم مريديهم كل على حسب ما أراد أن يتعلم، وتُعبر شخصية المعلم عن مجموع معارفه التي يدرسها فلا يأخذ منه المتعلم مادته العلمية فحسب بل يتعلم من مجموع سلوكه وتفاصيل شخصيته، فتدخل المعرفة قلب المتابع بعمق وتطوف بعقله في جوانب عدة، والأهم من ذلك كله أن تترك فيه الحكمة فيستعين بعلومه على الحياة، وتتوقف عن كونها مجرد معرفة معلوماتية جامدة صماء لا حياة فيها، كالفرق بين الورود الطبيعية والبلاستيكية.
طبقت هذا النسق حضارات عدة ليس الإسلام وحسب، فالحضارة المصرية الفرعونية تفوقت في الرياضيات لاهتمامها بالزراعة الفلك، فعرفت الكسور لحساب نسبة الضرائب حسب مياه النيل، وشكلوا حياتهم على إطار رياضي يمس حياتهم اليومية، وكذلك الحال في بقية العلوم والمعارف، لاحظ أن رمز الحضارة المصرية كان زهرة اللوتس.
إنني لا أدعوكم بالطبع إلى ترك تعليمكم الرسمي، فهو المؤدي للوظيفة التي تعين على الحياة، ولكنها دعوة للإدراك وللوصول لحقيقة التعلم وأصل التعليم، ولإزالة أسطورة الإعجاب المزيف بطرق التعليم الغربية التي تدّعي عالميتها بينما ينتج عنها واقع مؤلم في النهاية، أريد أن نذهب إلى حرية التعلم ثم إلى تعلم التحرر.
ففي المرة القادمة التي تسمع بها شنشنة الأكاديميين بكلمات كبيرة توحي بمعنى عظيم يختلج نفسك لكنك لا تفهم على نحو دقيق إلام تشير، لا تبتئس، إنها كلمات ميتة بها شبح معنى من كثرة ما أُثير حولها فقط، إليك مثالًا، كلمات مثل: تعليم – تنمية – إستراتيجية، لو وضعتها في أي ترتيب ممكن تبدو وكأن لها معنى كبير! “إستراتيجية التعليم التنموي، تنمية التعليم الإستراتيجي، تنمية إستراتيجية تعليمية، إستراتيجية التعليم في التنمية، تعليم تنمية إستراتيجية…” كما ترى، أشباح معاني لا تدل على شيء ولا تقترب ولو من بعيد إلى الحكمة، فتذكرها لعلها تنفعك.