عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، واجهت روسيا في تسعينيات القرن العشرين نزاعات حدودية، وصراع عرقي، وضغائن تاريخية، وسقوط اقتصادي، وترسانة نووية غير مؤمنة، وبيت داخلي على حافة الانهيار، وسياسة خارجية متقلبة، وفوق كل ذلك، لم يتمكن الجيش الروسي الذي عانى من انعدام الانضباط والانحطاط المعنوي من قمع تمرد في الشيشان التي لم يتجاوز عدد سكانها مليون ونصف.
فقط رجل واحد غير معروف تمامًا لمعظم الروس والعالم كان مصممًا على فعل شيء حيال كل هذه الفوضى والأزمات، لاستعادة قوة الدولة، وقد خرج من الظل عندما عينه يلتسن مديرًا لجهاز الأمن الفيدرالي، وبعد عام واحد فقط، تم تعيينه واحدًا من ثلاثة نواب لرئيس الوزراء، وفي وقت لاحق من نفس اليوم، عينه يلتسن رئيسًا للوزراء عام 1999، ثم في غضون خمسة أشهر من توليه منصبه الجديد، استقال يلتسن وأصبح رجل الظل رئيسًا بالنيابة، وبعدها فاز بالرئاسة ضد الشيوعي زيوغانوف في عام 2000.

أخيرًا لم يعد بوتين مساعدًا لأحد، والآن وقد اكتسب السلطة الكاملة، فماذا سيفعل بها؟ لقد تحرك بسرعة مثل القياصرة من قبله نحو تجديد القوة العسكرية، ورغم أن بلاده لم تكن في حالة حرب، فقد خاض سلسلة من الحروب كأداة حاسمة ليس فقط لتعزيز موقفه وشرعنة سلطته، بل لإعادة تأكيد مكانة بلاده في العالم وبناء أسطورة وطنية من الفخر والمجد والنجاح.
سنناقش في هذا التقرير كتاب “حروب بوتين: من الشيشان إلى أوكرانيا”، حيث يستكشف المحلل العسكري وأحد كبار الخبراء الغربيين في شؤون روسيا مارك غاليوتي “Mark Galeotti” كيف ولماذا كرس بوتين معظم جهوده لبناء آلة حربية حديثة، وما هي التغييرات التي طرأت على الجيش الروسي خلال الحروب الأخيرة التي خاضها في الشيشان، وجورجيا، وشبه جزيرة القرم، ودونباس، وسوريا، إلى أن أوصلته إلى ما هو عليه اليوم في أوكرانيا.
الاختبار الأول.. الحرب التي صنعت مجد بوتين
في نفس الوقت الذي كان بوتين يبحث فيه عن فرصة لإظهار قدرته على تحويل مسار روسيا واستعادة هيبة بلاده في الداخل والخارج مهما كانت التكلفة من الدماء والأموال، شن أمير الحرب الشيشاني باساييف إلى جانب الجهادي السعودي المعروف باسم خطاب، توغلًا عسكريًا في داغستان، لكن تم صد هذا التوغل، ثم بعدها بشهر واحد هزت موسكو سلسلة من تفجيرات المباني السكنية في ثلاث مدن.
استمر الجدل حول هذه التفجيرات، وهناك أسباب وجيهة في أنها كانت من تخطيط بوتين، ولكن على أي حال، وفرت مبررًا قويًا لغزو الشيشان وتركت الشعب الروسي في حالة من القلق والخوف، وهذا بالضبط ما ساعد بوتين على تأكيد الإجماع الوطني واختبار نظامه الجديد.
من المعروف أن الحرب الشيشانية الأولى كانت بمثابة إذلال للجيش الروسي الذي تم سحقه وهزيمته إلى حد خسارة المدن الكبرى أمام الشيشانيين، لكن هذه الهزيمة كانت جرس إنذار لإصلاح الجيش الروسي.
وبمقارنة الحرب الأولى التي خاضها الروس بطريقة فوضوية، كانت خطتهم في الحرب الثانية مختلفة تمامًا عن الأولى، إذ كانت منظمة ومنهجية بشكل وحشي، كما كان مجموع القوات النظامية نحو 50 ألف جندي، و40 ألف جندي من قوات الداخلية، أي ثلاثة أضعاف عدد الجنود الذين شاركوا في الحرب الأولى.
لم يقع الكثير من الجنود الروس في الكمائن، وكانوا أكثر حذرًا في تقدمهم، كما كانت الدبابات مصحوبة بالمشاة، وبطبيعة الحال، حصن الشيشانيون غروزني، وحفروا الخنادق، وزرعوا الألغام، ونصبوا الفخاخ في مبانٍ أخرى مستفيدين من دروس الحرب الأولى، لكن الروس تعلموا أيضًا دروسهم، فأولًا وقبل كل شيء، أطلقوا طائرات استطلاعية على المرتفعات العالية، وحيثما تم تحديد مواقع المتمردين، تم قصف نقاطهم بالطائرات وصواريخ “أو تي آر-21” بعيدة المدى، بجانب منع وسائل الإعلام من تغطية الحرب.
ورغم أن الروس كانوا في طريقهم إلى الانتصار، وبوتين نفسه اختار القتال الذي علم أنه سيكون بالنهاية قادرًا على الفوز به، فإن الحرب كانت بمثابة تذكير غير مريح بضعف الجيش الروسي الذي اضطر إلى تدمير المدن بوابل من المدفعية والطيران، ثم “شيشنة” الصراع من خلال العثور على شيشانيين على استعداد للقتال من أجل الروس مقابل المناصب والمال، فحتى بعد الانتصار على الأرض، كانت هناك تحديات ضخمة لا تزال قائمة لإخضاع هذه المنطقة الصغيرة.
بناء على ذلك، أدرك بوتين الحاجة إلى الإصلاح العسكري، ويزعم غاليوتي بحماس أن القوة الدافعة وراء هذا التحول هي رؤية بوتين للجيش باعتباره المحور الرئيسي لروسيا، وقناعته بأن روسيا في حالة حرب دائمة، ووفقًا لغاليوتي، فإن هذا الاعتقاد دفع بوتين إلى إعادة تحديث الجيش بشكل مستمر من أجل استعادة مكانة بلاده كقوة عظمى.
سرعان ما استبدل بوتين وزير الدفاع سيرجييف بأحد أقرب أصدقائه، وهو سيرجي إيفانوف، الذي كان أيضًا مثل بوتين من مواليد لينينغراد وانضم إلى الـ”كي جي بي”، حيث التقى الاثنان.
يلقب إيفانوف بـ”جيمس بوند السلافي”، وتمثلت وظيفته الأساسية في إصلاح الجيش، وفي فترة 2001 – 2007 ضاعف إيفانوف من ميزانية الجيش أربعة أضعاف، وحاول جاهدًا إقناع الجنرالات بفوائد التجنيد الاختياري بدلًا من الإجباري، لكن تمسك قادة الجيش بحزم بالمفاهيم السوفيتية حول أهمية وجود جيش حاشد، وكان هذا يعني التجنيد الإجباري، وبعبارة أخرى، أرادوا المزيد من الجنود وعدم التخلي بالكامل عن النمط القديم.
بحلول عام 2006، كان بوتين يشعر بالاستياء تجاه تراجع مكانة روسيا في النظام العالمي، خاصة أن حلف شمال الأطلسي توسع شرقًا وسمح لسبع دول بالانضمام له، وهي: بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.
لذا بات بوتين على قناعة بأن بلاده تعرضت للاستغلال والخداع والتهميش، واعتقد أن روسيا لديها الحق في الهيمنة على الدول التي كانت تابعة الاتحاد السوفيتي، وفي خطاب ألقاه بميونيخ في فبراير/شباط 2007، اشتكى من الطريقة التي يتعامل بها الغرب مع روسيا، وأشار إلى أن بلاده لن تقبل بعد الآن محاولات الغرب لحرمانها من مكانتها كقوة عظمى.
وعندما اعترف الغرب بانفصال كوسوفو عن صربيا في فبراير/شباط 2008، زاد غضب بوتين بشكل كبير، واعتبر أن هذا الاعتراف سابقة خطيرة، نظرًا لأن صربيا حليفة تقليدية لروسيا، وردًا على ذلك، بدأ بوتين في إصدار ضجيج مفاده أن الغرب إذا كان قادرًا على التعامل مع المناطق الانفصالية باعتبارها دولًا حقيقية، فإنه قادر على ذلك أيضًا. وبالفعل بعد أشهر قليلة، شن حربه الثانية على جورجيا، واعترف رسميًا بانفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.
حرب جورجيا 2008.. إصلاح شامل للجيش
لم تؤد حرب الشيشان الثانية إلى تعزيز مكانة بوتين فحسب، بل أسست أيضًا لافتراضات معينة حول استخدام القوة وعلاقتها بالسياسة، وأصبحت نبرة الخطاب الروسي عن الحرب أكثر خشونة.
وبشكل متزايد أصبح بوتين مستاءً من جورجيا التي كان رئيسها ميخائيل ساكاشفيلي، منتقدًا لبوتين شخصيًا ويتجه سياسيًا نحو الغرب، كما أنفق 9.2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، لذا نفذ بوتين حيلته المعتادة في تحريك الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية لخلق مشكلة يستطيع العبور من خلالها.
تصاعدت أعمال العنف بين قوات الأمن الجورجية وقوات أوسيتيا الجنوبية غير النظامية التي شجعتها موسكو وسلحتها، واستفزت قوات أوسيتيا ساكاشفيلي حين قصفت المدن الجورجية، فأمر الرئيس الجورجي قوات الجيش بالتحرك نحو أوسيتيا الجنوبية واشتبكت هناك مع قوات حفظ السلام الروسية في مدينة تسخينفالي، ليس لأن الجورجيين أرادوا ذلك، لكن لمجرد تواجد القوات الروسية في فوضى الصراع.
من الواضح أن الهدف كان استفزاز ساكاشفيلي ودفعه للقيام بعمل ما يمكن الروس من استخدامه كذريعة، وهو ما تحقق، إذ قال الروس إننا ذاهبون لاستعادة السلام، لأن الجورجيين خالفوا تفاهماتنا، وهم يطلقون النار على رجالنا، وبالفعل في أغسطس/آب 2008، شنت القوات الروسية المدعومة بقوة جوية هجومًا خاطفًا على جورجيا أدى إلى تدمير قوات الأخيرة في غضون خمسة أيام.
وفي محاولة لتذكير الجمهوريات السوفيتية السابقة بعدم التودد إلى الغرب، زحفت القوات الروسية بشكل مسرحي نحو طريق العاصمة الجورجية قبل أن تعود أدراجها، ولم تترك أي شك لأحد في أنها قادرة على احتلال العاصمة والبلاد بأكملها لو أرادت ذلك.
أخيرًا في 26 أغسطس/آب، اعترفت موسكو رسميًا بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين، وهو القرار الذي رفضه المجتمع الدولي، والآن تخضع حدود المنطقتين لمراقبة دائمة من قِبَل قوات الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهناك أيضًا وجود عسكري روسي قوي في المنطقتين.
أظهر بوتين الإرادة والقدرة على استخدام جرعة قصيرة وحادة من القوة لمعاقبة جار فشل في الامتثال له، وفاز في هذه الحرب التي استمرت خمسة أيام فقط، لكن هذا كان حتميًا في الأساس، فلم يكن لدى الجيش الجورجي أكثر من 30 ألف جندي، وكان نحو ألفين من أفضل جنوده يقاتلون في العراق إلى جانب قوات التحالف.
المثير للاهتمام، أن هذه الحرب السريعة والناجحة كشفت عن العديد من أوجه القصور التكتيكية، إذ ارتكب الروس كل أنواع الأخطاء الكارثية والخرقاء، بدءًا من الضربات الجوية التي شنت على المطارات التي لم تُستخدم لسنوات، والكثير من حوادث النيران الصديقة، فضلًا عن ضعف الاتصال والتنسيق بين الوحدات العسكرية المختلفة.
بحسب غاليوتي، هزت كل هذه الأشياء بوتين ودفعته إلى ضرورة إصلاح شامل للجيش، ورغم أن وزير الدفاع نفذ بالفعل بعض الإصلاحات، أثبتت الحرب في جورجيا أن النظام العسكري لا يزال يعمل ككل وفقًا للنموذج السوفيتي القديم.
لذا كان الحل الوحيد بالنسبة لبوتين هو إعادة بناء النظام العسكري بالكامل وتغيير طريقة تفكيره، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2008، كشف بوتين عن خطة لما وصفه بالتغييرات الأكثر جذرية للجيش منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مدركًا أن القوة العسكرية الروسية الحالية ليست ندًا لحلف شمال الأطلسي، وساعيًا إلى إنشاء قوة مرنة أكثر فتكًا ورشاقة، مجهزة بشكل أكبر للحروب المحلية والتدخلات الإقليمية.
وضع الروس برنامج تحديث شامل من شأنه أن يجعل 70% من جميع أنظمة الأسلحة تتوافق مع معايير أحدث جيل بحلول عام 2020، فتم أولًا تقليص عدد الضباط، مع زيادة في نسبة المحترفين، وتقليص مراكز التدريب الـ65 إلى 10 مراكز فقط، وتحويل هيكل الجيش من هيكل قائم حول فرقة قوامها 10 آلاف جندي إلى هيكل لواء يبلغ 6 آلاف جندي، وإخراج مخزونات الذخيرة القديمة، بما في ذلك دبابات “T-34” من حقبة الحرب العالمية الثانية وتدميرها.
كذلك أقال بوتين صديقه إيفانوف من وزراة الدفاع، وبدلًا منه، عين المحاسب الذي ترأس مصلحة الضرائب الفيدرالية، أناتولي سيرديوكوف، وحقق الأخير الكفاءة المالية وطهر الرتب العليا في القوات المسلحة، ورغم نجاحه، كان غير محبوب لدى القيادات العليا في الجيش، وفشل في نهاية المطاف في كسر مقاومة الضباط المحافظين، وبالنهاية تم القبض عليه وهو يمارس علاقة غرامية مع ابنة أحد أقرب أصدقاء بوتين.
عين بوتين مكانه سيرجي شويغو، وهو شخص مخضرم من أكثر وزراء الدفاع نجاحًا، فقد نفذ إصلاحات شاملة واستثمر في التقنيات الجديدة، فضلًا عن منح المؤسسة العسكرية روح مؤسسية حقيقية، وتحويل الجيش من مؤسسة قائمة على التعبئة الجماهيرية إلى مؤسسة أكثر احترافية، ما أدى إلى ظهور فئة جديدة من الجنود المحترفين.
أسلوب جديد.. احتلال شبه جزيرة القرم 2014
شعر الكرملين بالفزع من انهيار نظام يانوكوفيتش الذي كان إلى حد كبير تحت جناح موسكو، ثم ظهور حكومة أوكرانية جديدة تريد إقامة علاقة أوثق مع الغرب والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي اعتبره بوتين مؤامرة من المخابرات الأمريكية لمحاصرة مصالح روسيا الاستراتيجية خاصة في شبه جزيرة القرم.
من وجهة نظر روسيا، فجزيرة القرم منطقة استراتيجية بالغة الأهمية، خاصة أنها المقر الرئيسي لأسطول البحر الأسود، أقوى الأساطيل الروسية التقليدية. وفي ليلة الجمعة 21 مارس/آذار 2014، احتلت موسكو شبه جزيرة القرم التي ضمت عددًا كبيرًا من السكان الروس.
طوال الليل، كانت السيارات تجوب الطرق في موسكو وهي تحمل ركابها الصاخبين وهم يطلقون الألعاب النارية، وكان ذلك بمثابة اندفاعة غير عادية من الفرح الوطني الذي وحد بين أنصار بوتين ومعظم شخصيات المعارضة على حد سواء، إذ يعتقد أغلب الروس أن شبه جزيرة القرم جزء من بلادهم، وأنها مُنِحَت ظلمًا لأوكرانيا.
ارتفعت نسب تأييد بوتين بشكل كبير بعد احتلال شبه جزيرة القرم، والواقع أن الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم كان نجاحًا عسكريًا غير عادي، خاصة درجة التكامل التي تمتعت بها مختلف القوات العسكرية الروسية، وهو ما يدل على القدرات الجديدة التي اكتسبها الجيش الروسي، وتحوله من أسلوب المطرقة الثقيلة القديمة المألوف إلى مشرط جراحي. والمفارقة أن عدد القوات الأوكرانية كان أكبر من عدد القوات الروسية التي احتلت شبه جزيرة القرم.
ورغم مقتل جنديين أوكرانيين ومتطوع من القوزاق، لم تقع خسائر روسية، ولم تحدث أي معارك تقريبًا، وكانت حفنة من القوات الخاصة الروسية لم يتجاوز عددها 2000 جندي في الأيام الأولى، إلى جانب المليشيات والتضليل والخداع والسرعة والاحترافية التي اتسمت بها العملية والتخطيط الميداني الدقيق، ناجحة إلى حد فاق توقعات بوتين.
على مدار الأيام والأسابيع القليلة التالية، حاصر الروس معظم القوات الأوكرانية في شبه جزيرة القرم، وأغلقوا مداخل ومخارج الجزيرة أمام التعزيزات، وأقاموا حكومة عميلة، مرورًا باستفتاء لصالح الانضمام إلى روسيا جرى في ظل البنادق الروسية، وفي اليوم التالي، اعترف الكرملين رسميًا بشبه جزيرة القرم كدولة مستقلة ورحب بها في الاتحاد الروسي.
يؤكد غاليوتي أن تزايد إيمان بوتين بأسطورته وتطلعه إلى ترسيخ مكانته في التاريخ باعتباره الرجل الذي “جعل روسيا عظيمة مرة أخرى” نابع من الحرب الشيشانية الثانية وغزو القرم، فقد أحيا كبرياء الروس، واقتنع بأن نجاحاته في الشيشان وجورجيا والقرم يمكن تكرارها في أوكرانيا.
حرب دونباس 2014-2022.. كلاب المجد
خلقت إصلاحات الجيش الروسي التي بدأت منذ عام 2008 جيشًا أكثر رشاقة وفعالية، ففي عام 2014، تمكن الروس من نشر ما يقرب من 40 ألف جندي على الحدود الأوكرانية في غضون سبعة أيام في بداية تدخلهم بمنطقة دونباس الجنوبية، في حين أنه في عام 1999، استغرق الأمر ثلاثة أضعاف هذا الوقت لتعبئة قوة مماثلة في الشيشان.
من ناحية أخرى، عانت أوكرانيا من تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة، فقد ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير، وتدهور الاقتصاد، وفي عام 2013، ارتكب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش خطأ جسيمًا عندما تراجع عن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي إرضاءً لموسكو.
كانت المشاعر العامة خاصة في غرب البلاد، تريد علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي، وبدأت الاحتجاجات في ساحة الاستقلال الرئيسية في كييف، ولم تنجح محاولات تفريق المتظاهرين، وفي فبراير/شباط 2014 انهارت حكومة يانوكوفيتش، وفر الأخير إلى روسيا.
بعد احتلال شبه جزيرة القرم وما أعقبها من فوضى في كييف، رأى بوتين ومستشاروه ضرورة القيام بعملية عسكرية محدودة في شرق أوكرانيا الذي تسكنه أكثرية روسية، ولم يكن الهدف هذه المرة غزو الأراضي، بل إحداث المتاعب والضغط السياسي من أجل إقناع كييف بأن موسكو قادرة على معاقبتها على أي تحركات نحو تكامل أوثق مع الغرب.
كان افتراض بوتين أن هذا من شأنه أن يرهب أوكرانيا ويجبرها على قبول النفوذ الروسي، وهو ما لا يرغب الأوكرانيون بوضوح في القيام به، ثم في أغسطس/آب 2014، نشرت روسيا ما يقدر بنحو 3500 إلى 6500 جندي في الحدود الشرقية لأوكرانيا، وزاد العدد إلى 10 آلاف جندي بحلول نهاية العام.
بدا هذا أشبه بالعودة إلى الحرب التقليدية، حتى لو لم يتم الإعلان عنها، حيث نشر كلا الجانبين مزيجًا من القوات النظامية والميليشيات في صراع متقطع ولكنه وحشي. واستمرت الاشتباكات المتقطعة، تلاها معركة مطار دونيتسك الثانية، واستطاعت روسيا الحد من قدرة كييف على سحق المتمردين الموالين لها.
بحسب غاليوتي كانت هذه الحرب هي بداية اعتماد روسيا بشكل كبير على المليشيات والمرتزقة، وعلى رأسهم “مجموعة فاغنر”، وهي وحدة عسكرية بدأت في دونباس وسوريا، ثم شاركت في مجموعة واسعة من الصراعات الأخرى، وبشكل متزايد في إفريقيا.
سوريا 2015.. حرب بوتين الأولى بعيدًا عن الحدود
رغم أن بوتين لم يتدخل عسكريًا في أي صراع خارج نطاقه الإقليمي، فقد شن حربه الخامسة ضد المعارضة السورية لنظام بشار الأسد. في هذا الخصوص، يشير غاليوتي إلى أن هذه الحرب على وجه الخصوص، تم تدريسها في معظم الأكاديميات العسكرية الروسية من كبار الضباط العائدين من سوريا باعتبارها انتصارًا عظيمًا للقيادة الروسية في ساحة معركة معقدة وبعيدة عن حدودهم.
رغم أنها كانت في الأساس حرب قصف ضد المدنيين في مدن مثل حلب، ولم تتمتع هذه الحرب بنفس الدقة كالتي اتسم بها احتلال القرم وحرب دونباس، ولكن هذه الحرب بحسب غاليوتي أعطت بوتين الثقة اللازمة لممارسة النفوذ على نطاق عالمي.
بحسب غاليوتي أيضًا فإن أهم الأسباب التي دفعت بوتين إلى التدخل في سوريا ليس فقط لدعم الحليف القديم، بل أيضًا لتذكير الولايات المتحدة بمصالح روسيا في المنطقة، وفي حين حاولت واشنطن عزل موسكو دوليًا كعقاب على احتلالها القرم ومغامرتها في أوكرانيا، كان بوتين عازمًا على إقحام نفسه في صراع كان مهمًا للأمريكيين، بجانب إرسال رسالة للغربيين بأنه قادرًا على التسبب بمشكلات في مسارح بعيدة عن ملعبه المعتاد.
بالنسبة للدائرة المحيطة ببوتين، كانت سوريا عبارة عن ليبيا أخرى، إذ ساعدت الضربات الجوية التي شنها حلف الأطلسي في ضمان انتصار الثوار وإعدام القذافي، لذا كان هناك اعتقاد قوي في الكرملين بأن الغرب خدع الرئيس ميدفيديف بإقناعه بعدم استخدام حق النقض ضد قرار الأمم المتحدة الذي وافق على الضربات الجوية. وبالنسبة لبوتين كان من الضروري الانتقام من هذا الخداع.
أخيرًا، كانت المؤسسة العسكرية الروسية على اتصال طويل الأمد بنظيرتها السورية، وتراقب الوضع عن كثب، وكان تقييمها أن التدخل بالاعتماد بشكل أساسي على القوة الجوية، من الممكن أن يقلب الموازين.
بحلول منتصف عام 2015، كان نظام الأسد في حالة حرجة، رغم المساعدة المقدمة من إيران والمليشيات المختلفة، ثم شهد عاما 2015 و2016 تصعيدًا في التدخل الروسي، بدءًا بالضربات الجوية ونهاية ينشر قوات برية محدودة، وخاصة القوات الخاصة ومرتزقة فاغنر، وقد تعلم الجيش الروسي أن الشركات العسكرية الخاصة يمكن أن تكون ذات قيمة فعالة. وبالنهاية ساعدت روسيا بشكل غير متوقع في إنقاذ نظام الأسد المهترئ، وحولت طائراتها مجرى الأحداث.
وفرت حرب سوريا فرصًا مثالية للروس لاختبار قوتهم في القتال والتعلم بشكل أفضل من معارك جورجيا ودونباس، حيث خدم العديد من الجنود الروس في سوريا لمدة تتراوح بين ثلاثة وأربعة أشهر، بما في ذلك معظم كبار قادة الجيش وأكثر من نصف قادة الألوية البرية.
يذكر غاليوتي أن حوالي 90% من أطقم الطيران الروسية الحربية اكتسبوا خبرتهم القتالية في سماء سوريا، وقد قام العديد منهم بـ150-200 طلعة جوية هناك، وهو ما يعادل إجمالي وقت الطيران السنوي للعديد من نظرائهم الغربيين.
كذلك سمحت هذه الحرب للروس باختبار أساليب جديدة للقيادة والسيطرة وتحسين التكتيكات، والتعامل مع تحديات لوجستية جديدة، والأهم اختبار أحدث الأنظمة والأسلحة الروسية، مثل صاروخ كاليبر كروز، ومقاتلات الشبح الجديدة، إضافة إلى أسلحة أخرى من الذخائر الموجهة بدقة إلى الطائرات دون طيار والروبوتات الصغيرة.
ساهم كل هذا في تطور القوات الروسية، ويزعم غاليوتي أن مبيعات الأسلحة الروسية والتي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الحجم بعد صادرات الولايات المتحدة، زادت بسبب الحرب في سوريا، خاصة بعدما شاهد العالم فاعلية الأسلحة الروسية. واليوم يدير كثير من القادة الروس الذين حاربوا في سوريا، ساحة المعركة في أوكرانيا، وقد كان القائد الأعلى رتبة هناك هو ألكسندر دفورنيكوف الذي أطلق عليه لقب “جزار حلب”.
بمعنى أن سوريا كانت بمثابة فرصة كبيرة للروس لاختبار نماذج ومعدات وهيكل قيادة جديدة، وحسب غاليوتي فقد أعطت هذه الحرب الروس ثقة وشعورًا قويًا بأنهم جيدون في أرض الواقع وليس فقط في أثناء التدريبات الاستعراضية.
أوكرانيا 2022.. الحرب الأخيرة؟
بدأت روسيا عام 2021 في حشد قوات غير مسبوقة على حدودها مع أوكرانيا، إذ كان بوتين يعلم أن الحرب الشاملة التي لاحت في الأفق منذ ما يقرب من ثماني سنوات ستطلب تصعيدًا عسكريًا كبيرًا وعلنيًا، حتى جاء عام 2022 عندما قرر أن الوقت قد حان لكسر الجمود.
يشير تحليل غاليوتي إلى أن النجاحات التي حققها بوتين في شبه جزيرة القرم ودونباس وسوريا دفعته إلى الثقة المفرطة في أن الاستيلاء على أوكرانيا التي بلغ عدد سكانها أكثر من 40 مليون نسمة سيكون بنفس السهولة، ومن الواضح أن الجيش الروسي عندما عبر الحدود الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022 للزحف نحو كييف، كان يتوقع انتصارًا سهلًا.
لكن الأوكرانيين على مدى ثماني سنوات منذ احتلال موسكو لجزيرة القرم كانوا يتوقعون حربًا شاملة، ويخططون ويتدربون على كيفية مواجهة هذا السيناريو، وبالفعل أثبت فولوديمير زيلينسكي ذلك رغم أن الكثيرين قللوا من شأنه واعتبروه مهرجًا، وهو ما تعكسه حالة الحرب الطويلة التي كشفت عن ضعف عسكري روسي واستعداد أوكراني أقوى بكثير وغير متوقع لصد مثل هذا الغزو.
ورغم أن بوتين يحب استخدام الحروب لوضع نفسه في قائمة أبطال روسيا العظماء الذين أسهموا في بناء الإمبراطورية، يزعم غاليوتي أن حرب أوكرانيا 2022 أظهرت أن بوتين يتمتع بخبرة عسكرية ضئيلة نسبيًا، فتجاهله لروح التخطيط الأكثر تقليدية للجيش ومهاجمة كييف دون خطوط إمداد مناسبة كانت كارثية، خاصة أن أوكرانيا مدعومة بسلاسل توريد غربية.
بعبارة أخرى، تعد الخدمات اللوجستية بمثابة نقطة ضعف لروسيا وربما لا يستطيع الجيش الروسي الاستمرار في شن عمليات قتالية واسعة النطاق بعيدًا عن حدوده وشبكة السكك الحديدية، بسبب الضعف الرئيسي الذي يعاني منه في اللوجستيات – قطع الغيار والغذاء والمياه أو شاحنات النقل -.
في هذا السياق، يذكرنا غاليوتي بأن السكك الحديدية الروسية تعمل بشكل مختلف عن كل أوروبا، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من الصعب على روسيا الحفاظ على العمليات القتالية بعيدًا عن حدودها، وبكلمات غاليوتي: فإن “بوتين أكثر إعجابًا بـ”أسنان” المعدات العسكرية أكثر من “ذيل” الخدمات اللوجستية”.
كما يرى غاليوتي أن أحد أهم الجوانب البارزة لهذه الحرب أن مجموعة فاغنر هي التي حظيت بأعظم نجاح في ساحة المعركة، وكانت أفضل كتيبة على الأرض، مع ذلك فقد شكلت تهديدًا مستمرًا للقيادة العسكرية الروسية، وحتى لسلطة بوتين، حيث وصل الوضع إلى ذروته عندما قام زعيم فاغنر بتمرد ضد موسكو. ولذا حاول بوتين مؤخرًا تجنب خطر ما يمكن أن نطلق عليه “الذيل الذي يتحكم في الكلب”.
وحتى الآن ورغم الجهود التي تبذلها موسكو في تجنيد الأقليات العرقية مقابل منح مكافآت كبيرة للتطوع للحرب بأوكرانيا، لم تحقق انتصارًا محوريًا في هذه الحرب. وبالنظر إلى التنظيم العسكري الروسي الحالي، يعتقد غاليوتي أن الجمود هو أقصى ما يمكن لبوتين تحقيقه.
بوتين ولعنة الإمبراطورية
أعاد بوتين تأكيد مكانة روسيا الدولية من خلال شن الحروب ضد قوى صغيرة، وبنى قوة هجومية قادرة على فرض نفوذها في الجوار الاستراتيجي لروسيا وخارجه، كما أن الجيش الروسي أصبح أكثر قدرة وأفضل قيادة بشكل مطرد منذ عهد بوتين، ولعل العامل الأكثر أهمية هو قدرة الجيش الروسي على الاستجابة للفشل ومنحنى التعلم الذي اختبره في الشيشان وجورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس وسوريا.
لكن غزو أوكرانيا عام 2022 أظهر أيضًا أن بوتين أصبح مفرط الثقة بقدرات جيشه نتيجة سلسلة انتصاراته الخمسة. وقد يحفر بوتين قبرًا لنظامه ببطء، فبعد أن قارن نفسه بشخصيات تاريخية مثل بطرس الأكبر، يخاطر بأن يبدو أشبه بنيكولاس الثاني آخر القياصرة، والذي تصور أن الحرب العالمية الأولى فرصة لتجديد الشرعية لنفسه ونظامه، فوجد نفسه يقود بلاده في حرب لا يمكنه الفوز بها إلى أن حكم على نفسه وسلالته بالهلاك.
بالنهاية، كانت الحروب جزءًا مركزيًا من مسيرة بوتين السياسية ورؤيته لماهية القوى العظمى، والتي قاسها دومًا بالقدرة على الترهيب وإجبار الآخر على فعل ما يريده، وبعبارة عالم الاجتماع تشارلز تيلي: “بوتين صنع الحرب، والحرب صنعت بوتين”، فهي مسيرة بدأت بالدم والحرب، ويبقى التساؤل: هل ستنتهي أيضًا بالحرب؟ وهل ستكون أوكرانيا آخر قطعة أرض يريد بوتين ضمها إلى وطنه؟