تقف إدلب في هذه اللحظة التاريخية من حياة الأمة شاهدة على الأوضاع التي وصل إليها حالنا من تشتت وتفرق وهوان، حين انكسر عمود خيمتنا وهبت عواصف الصحراء الهوجاء تعمي العيون فتفقدها البصر والبصيرة، وتغوص أقدامنا في رمالها المتحركة وكلما تحركنا للنجاة منها غرقنا أكثر وأكثر، لم نفهم طبيعة الصراع معها كما ينبغي حتى ننقذ أنفسنا منها بدلاً من أن تهلكنا.
إدلب هي آخر المعاقل التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية بتشكيلاتها المختلفة وبسقوطها – لا قدر الله – تسقط الثورة السورية بمنطق الجغرافيا لا منطق الحق، في أيدي نظام بشار الأسد وأسياده في الكرملين وطهران.
والمعركة التي يقرع طبولها الآن من الجميع تلخص لك سبع سنين عجاف من تاريخ الثورة السورية قتل فيها نحو مليون مواطن سوري على يد النظام وحلفائه، وشرد وهجر الملايين – 12 مليون سوري – في أصقاع الأرض المختلفة واعتقل وعذب مئات الآلاف من الأبرياء في مآسي يندى لها جبين البشرية، وسط ضوء أخضر مخزي من دول الغرب المحتل السابق والحاليّ لأوطاننا ومعاونة من دول الشرق العربي بالمال والسلاح والشجب والإدانة التي لا تغني ولا تسمن من جوع وأحيانًا الصمت المخزي على ضياع الأرض والعرض في سوريا.
الكارثة الأسوأ التي تحدث بها دي ميستروا هو عندما أكد أن النصرة والقاعدة يمتلكان أسلحة كيماوية وقد يستخدمونها في معركة ادلب
المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا كان واضحًا بوقاحة هذه المرة، ممهدًا الطريق أمام الهجوم على إدلب عندما أعلن نهاية شهر أغسطس المنصرم أن هناك نحو 10 آلاف مقاتل في إدلب من القاعدة والنصرة، الذين لا يشكك أحد في أنهم إرهابيون يتعين هزيمتهم، على حد قوله، وهو ما يفهم منه أنه ضوء أخضر أممي للنظام والروس ببدء معركة إدلب وارتكاب حمام للدماء فيها بحق 4 ملايين مواطن من المدنيين، وهو ما يكشف حقيقة تحيزات هذه المنظمات الدولية خاصة السياسية منها وأنها في الحقيقة ليست سوى ذراع في يد أمريكا وحلفائها.
الكارثة الأسوأ التي تحدث بها دي ميستروا هو عندما أكد أن النصرة والقاعدة يمتلكان أسلحة كيماوية وقد يستخدمونها في معركة إدلب، وهو ضوء أخضر غير مباشر كذلك للنظام للاستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين، وبعد وقوع الكارثة سهل حينها إلقاء المسؤولية على فصائل المعارضة وأنها من استخدمت هذه الأسلحة.
وبناءً عليه يبدو ميستروا الناطق غير الرسمي للإدارة الأمريكية وكأنه يمهد للمعركة استعدادًا لتصفية ملف الثورة السورية والبدء في حلب بقرة إعادة الإعمار على أشلاء ملايين السوريين.
وهو ما يجعل عقلية “رجل الأعمال” التي يتعامل بها ترامب مع الأزمة السورية أشبه بـ”صفقة قرن” جديدة لكن هذه المرة في الملف السوري.
تسعى روسيا للانتقال إلى خطوتها التالية بسوريا عبر تأمين وجود سياسي واقتصادي دائمين لها إلى جانب الوجود العسكري مما يجعلها أكثر شراهة لدخول معركة إدلب والقضاء على المعارضة بها
على الجانب الآخر تبدو روسيا أكثر نهمًا لتصفية القضية السورية بالقضاء على المعارضة في أدلب، حتى يتسنى لها تأسيس نفوذ مستقر ودائم على الأراضي السورية خصوصًا أنها وقعت في السابق مع النظام السوري في 26 من أغسطس 2015 اتفاقًا يعطي الحق للقوات الروسية باستخدام قاعدة حميميم في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى!
وتكرر الأمر في 18 من يناير 2017 بتوقيع اتفاقية تقضي ببقاء القاعدة الروسية في مدينة طرطوس السورية لمدة 49 عامًا قابلة للتمديد، وتحديثها وتوسعتها لاستيعاب حاملات الطائرات والغواصات النووية.
وعليه تسعى روسيا للانتقال إلى خطوتها التالية بسوريا عبر تأمين وجود سياسي واقتصادي دائمين لها إلى جانب الوجود العسكري مما يجعلها يجعلها أكثر شراهة لدخول معركة إدلب والقضاء على المعارضة بها حتى تتفرغ لعملية إعادة الأعمار التي تبني عليها آمالاً كبيرةً لتحسين أوضاعها الاقتصادية المتدهورة، فضلاً عن حضور قوي ودائم في قلب الشرق الأوسط ونقاطه الساخنة واستعادة شيء من ظلال إمبراطوريتها السوفيتية.
من ناحية أخرى تعتبر إدلب الملجأ الأساسي لعملية التهجير القسري المتعمد من كل أنحاء سوريا إليها، وضمت الهجرات إليها مدنيين وعسكريين ومنتمين لمجموعات مصنفة دوليًا كمنظمات إرهابية.
ونتيجة للنمو السكاني المفاجئ بها بسبب النزوح المتواصل إليها تدهورت الحياة في المدينة سريعًا اقتصاديًا وخدميًا، فضلاً عن صراعات الفصائل العسكرية المختلفة على السيطرة والنفوذ داخلها واستهدافها بالقصف المستمر من النظام والروس، كل هذا جعل أكثر من 90% من سكان المدينة تحت خط الفقر بما يقل عن 40 دولارًا شهريًا.
الأتراك من جانبهم يعززون وجودهم عسكريًا في شمال إدلب ومحيطها خصوصًا بعد فشل المفوضات مع جبهة تحرير الشام كي تقوم بحل نفسها لتفويت الفرصة على الروس والنظام
بهذه الخلفية تستعد إدلب المنهكة والمثخنة بالجراح لمعركة مصيرية ليس في الصراع مع النظام وحلفائه فحسب ولكن حتى في الجانب الأخلاقي والإنساني، لما يتوقع من استخدام الروس والنظام لسياسة الأرض المحروقة مع المدينة وسكانها لغلق ملف الصراع العسكري في سوريا كما يأملون.
الأتراك من جانبهم يعززون وجودهم عسكريًا في شمال إدلب ومحيطها خصوصًا بعد فشل المفوضات مع جبهة تحرير الشام كي تقوم بحل نفسها لتفويت الفرصة على الروس والنظام الذين يبررون هجومهم على إدلب بالقضاء على الجبهة التي يصفونها بالإرهابية، حيث طلب الأتراك من الروس فرصة حتى الـ4 من سبتمبر لإقناع الجبهة بحل نفسها.
في حين ترى فصائل من المعارضة أن المفاوضات مع النظام لن تؤدي إلى شيء كما حدث سابقًا، وأنها فرصة يستغلها الروس للاستعداد للمعركة وكسب مزيد من الوقت.
وهو ما يجعلنا أمام كارثة إنسانية بحق بسبب هذا الخلاف، فالأتراك أعلنوا الجبهة منظمة إرهابية وهو ما يعني احتمالية وقوع صدام عسكري بينهما رغم وجود تفاهمات وتنسيق كبير بينهم قبل ذلك، كما أن الجبهة تسيطر فعليًا على معظم أنحاء إدلب مما يعني معركة على نطاق واسع يخسر فيها الجميع ويكسب النظام وحلفاؤه.
وبالتالي نصبح أمام المعضلة الآتية: هجوم منتظر للنظام والروس على المحافظة وفصائل منقسمة على نفسها جزء منها موالٍ للأتراك وآخر رافض لها وثالث ينسق أمريكيًا.
وهنا نصل إلى النتيجة الحتمية التي نسير لها وهي الحرب، فلا تنازلات حقيقية بين الأطراف ولا ثقة بينهم لتقديمها، وعليه سيعتمد حسم مصير إدلب على صوت البندقية ونصبح أمام مأساة إنسانية على وشك الحدوث نتيجة حالة الضعف والتشرذم التي تحياها الأمة، اللهم إن نسألك السلامة والأمن لأهلنا في أدلب وسوريا.