ساعات قليلة بعد إعلان الأمم المتحدة التوصل لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في العاصمة الليبية طرابلس، حتى عاد القتال مجددًا في بعض شوارع المدينة بين الميليشيات المسلحة هناك، وإن كان بصفة متقطعة، قتال راح ضحيته إلى حدود اللحظة أكثر من 60 قتيلًا، فضلاً عن عشرات المصابين بجروح متفاوتة.
أطراف الصراع
الشرارة الأولى للقتال بدأت منذ نحو أسبوع حين زحف اللواء السابع القادم من مدينة ترهونة – الذي حله المجلس الرئاسي في أبريل/نيسان الماضي دون أن ينفذ القرار على الواقع – نحو المدخل الجنوبي للعاصمة عبر منطقة قصر بن غشير، واستولى على معسكر اليرموك بعد قتال مع الكتائب العسكرية بطرابلس التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق، ويقود هذا اللواء محمد الكاني.
ويدعم اللواء السابع في هذه المعركة اللواء 22 ترهونة الذي يقوده عمران علي فرج، ويعد هذا التشكيل العسكري مواليًا للواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود ميليشيات الكرامة، ويرتكز قتال اللواء 22 ترهونة بالضواحي الجنوبية لطرابلس، يذكر أن اللواء السابع كثيرًا ما يعلن مساندته لحكومة الوفاق رغم أنه لا يلتزم بأوامرها.
يتبين من هنا أن القوات التي هاجمت طرابلس، تضم في صفوفها أفرادًا محسوبين على ثورة 18 من فبراير/شباط وضباطًا وعساكر محسوبين على نظام العقيد معمر القذافي، وفئة ثالثة مؤيدة للواء المتقاعد خليفة حفتر الذي لا يعترف بشرعية حكومة الوفاق الوطني.
نتيجة هذا القتال الدامي، أعلنت حكومة الوفاق التي يقودها فائز السراج حالة الطوارئ في العاصمة طرابلس وضواحيها
أمام تواصل القتال لجأت حكومة الوفاق إلى قوات من مدينة مصراتة (المنطقة العسكرية الوسطى) والزنتان (المنطقة العسكرية الغربية)، فضلًا عن “ثوار طرابلس” التي تعتبر من أقوى الكتائب بالعاصمة ويقودها هيثم التاجوري، وكذلك قوات “النواصي” التي تعرف أيضًا باسم “القوة الثامنة” ويقودها مصطفى قدور، وتعتبر من الكتائب النافذة بطرابلس خاصة أنها تسيطر على منطقة سوق الجمعة (شرقي طرابلس) التي يوجد بها مطار معيتيقة الذي تعرض منذ أيام لسقوط قذائف.
وتعتمد حكومة الوفاق أيضًا على قوة الردع الخاصة “أبو سليم” التي يقودها عبد الغني الككلي، وكذلك الكتيبة 301 التي تعتبر إحدى الكتائب المنحدرة من مصراتة، تتمركز غربي العاصمة وتقاتل لصد هجمات اللواء السابع، بالإضافة إلى قوات حكومة الإنقاذ السابقة على الجبهة الغربية.
هذا القتال تشارك فيه أيضًا قوات تابعة لحكومة الإنقاذ الوطني (2014 – 2017)، حيث دخل الصراع “لواء الصمود” الذي يقوده صلاح بادي قائد تحالف فجر ليبيا الذي يعتبر أكبر داعم عسكري لحكومة الإنقاذ الوطني التي انهارت بعد هزيمة قواتها في طرابلس عام 2017، ويحارب هذا اللواء الطرفين السابق ذكرهما.
وصول تعزيزات عديدة للعاصمة طرابلس
يشارك إلى جانب قوات حكومة الإنقاذ الوطني التي يقودها “بادي” القوة الوطنية المتحركة المشكّلة من الأمازيغ، وأيضًا كتيبة فرسان جنزور، في مواجهة الكتيبة 301 مصراتة (كانت حليفتها في وقت سابق) وضد قوات عماد الطرابلسي التي تسمى الأمن المركزي وتتبع اسميًا حكومة الوفاق الوطني، رغم أنها قاتلت عام 2014 إلى جانب قوات حفتر.
مؤخرًا دخلت قوات البنيان المرصوص – التي تمثل القوة الرئيسية التي تعتمد عليها حكومة الوفاق وأغلب كتائبها من مصراتة وتتركز بالمنطقة الوسطى خصوصًا مدينة سرت وضواحيها – طرابلس من تاجوراء لتأمينها خاصة في ظل الانفلات الأمني.
نتيجة هذا القتال الدامي أعلنت حكومة الوفاق التي يقودها فائز السراج حالة الطوارئ في العاصمة طرابلس وضواحيها، وتشكيل لجنة لتنفيذ الترتيبات الأمنية الواردة في الاتفاق السياسي، وكلف السراج بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي الأحد الماضي قوة مكافحة الإرهاب بقيادة محمد الزين (تتمركز في مصراتة) بالتوجه إلى جنوب طرابلس لفض النزاع وتأمين المنطقة، وتسليم المعسكرات ومقار الوحدات العسكرية لوحداتها السابقة التي كانت متمركزة بها.
عشرات القتلى والجرحى وفرار مساجين ولاجئين
هذه الاشتباكات المتواصلة في العاصمة الليبية طرابلس خلّفت حتى الساعة 6:30 مساء يوم أمس الثلاثاء 61 قتيلًا، فضلًا عن 159 جريحًا و12 مفقودًا لا يعلم إلى الآن مكانهم والجهة التي تقف وراء اختفائهم، وفقًا لبيان صادر عن إدارة شؤون الجرحى في طرابلس التابعة لوزارة الصحة بحكومة الوفاق الوطني.
تدهور الوضع الأمني في طرابلس استغله عدد من المساجين، حيث فر قرابة 400 معتقل إثر أعمال شغب في سجن عين زارة وفق ما أفادت الشرطة القضائية، وقالت الشرطة في بيان إن المعتقلين تمكنوا من خلع الأبواب والخروج بعد أعمال شغب، على هامش المعارك بين مجموعات مسلحة قرب السجن.
أوضحت الشرطة أن أعضاء الحماية بهذه المؤسسة السجنية اضطروا للسماح للسجناء بالخروج تجنبًا لإزهاق أرواحهم، وأُدين معظم المعتقلين بارتكاب جرائم، أو كانوا من مؤيدي العقيد الليبي الراحل معمر القذافي وأُدينوا بارتكاب جرائم قتل خلال ثورة 18 من فبراير/شباط 2011.
إلى جانب ذلك، نقلت رويترز عن موظف إغاثة قال إن مئات المهاجرين هربوا من مركز احتجاز في العاصمة الليبية طرابلس مع احتدام المعارك على مقربة منه، ونفى متحدث باسم إدارة مكافحة الهجرة غير المشروعة فرار المهاجرين، لكن موظف الإغاثة الذي يعمل في منظمة دولية قال إن زهاء 1800 ربما هربوا من المنشأة الواقعة قرب طريق المطار، وفقًا لرويترز.
خسائر مادية ونزوح المئات
فضلًا عن سقوط عدد من القتلى والجرحى وفرار مساجين، ألحقت هذه الاشتباكات التي تعتبر الأعنف منذ سنتين أضرارًا جسيمة في العديد من المحلات التجارية والمباني المدنية، إلى جانب تعرّض مطار معيتيقة الدولي وهو الوحيد بطرابلس، للقصف بالصواريخ ما أدى إلى إغلاقه وتحويل الرحلات إلى مطار مصراتة على بعد 190 كيلومترًا شرقي طرابلس.
لم يتضح إلى الآن إن كانت جميع الفصائل المتحاربة قد التزمت باتفاق وقف إطلاق النار
دفعت هذه المعارك الدائرة في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، الآلاف من السكان إلى النزوح إلى بلدات مجاورة أو البحث عن مناطق آمنة داخل العاصمة، وفق وزارة شؤون النازحين، وقالت الوزارة إن كثيرين غيرهم لا يزالون عالقين داخل منازلهم، والبعض الآخر يرفضون المغادرة خشية تعرض ممتلكاتهم للنهب.
وأشارت الوزارة التابعة لحكومة الوفاق الوطني إلى أن هذه العائلات بحاجة ماسة إلى المواد الغذائية، مضيفة أن فرق الإغاثة التي حاولت تقديم المساعدة لهم تعرضت لاعتداء من مسلحين غير معروفين بسرقوا سيارة الإسعاف.
هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار؟
بعد أيام من الاشتباكات المتواصلة، أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا مساء أمس الثلاثاء، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين مجموعتين مسلحتين في الضاحية الجنوبية للعاصمة طرابلس يشمل إعادة فتح مطار معيتيقة الدولي.
وأوردت البعثة في بيان “برعاية الممثل الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتوقيعه اليوم لإنهاء جميع الأعمال العدائية وحماية المدنيين وصون الممتلكات العامة والخاصة” وإعادة فتح مطار معيتيقة في طرابلس.
ولم يتضح إلى الآن إن كانت جميع الفصائل المتحاربة التزمت باتفاق وقف إطلاق النار، خاصة أنه سُمع في الساعات الأولى لصباح اليوم صوت إطلاق نار متقطع ودوي بعض الانفجارات في بعض الأحياء الجنوبية للعاصمة.
برعاية الممثل الخاص #غسان_سلامة تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار + وتوقيعه اليوم لإنهاء جميع الأعمال العدائية وحماية المدنيين وصون الممتلكات العامة والخاصة + وإعادة فتح مطار معيتيقة في #طرابلس #ليبيا pic.twitter.com/MDX3j2ucdH
— UNSMIL (@UNSMILibya) September 4, 2018
سبق أن وصلت الأطراف المتنازعة إلى اتفاق بوقف إطلاق النار الخميس الماضي وأعلنه أعيان مدن غرب ليبيا إلا أنه لم يصمد سوى بضع ساعات، وبعد ذلك أُعلنت هدنة جديدة مساء الجمعة لكن سقوط القذائف استمر.
وما زال الوضع في العاصمة إلى الآن يشوبه الحذر والترقب خصوصًا فترة الصباح، وفقًا للناشط السياسي المقيم في طرابلس فرج المجبري الذي قال في تصريح لنون بوست “فترة المساء هي الأكثر توتر إذ إن معظم العمليات العسكرية التي شهدتها العاصمة منذ بداية الأحداث كانت في فترة المساء، مما يسبب قلة الحركة وتوقفها في مناطق الاشتباكات التي كانت معظمها جنوب طرابلس في مناطق خلة الفرجان ووادي الربيع وطريق المطار وعين زارة”.
عرقلة الحل السياسي
هذه الاشتباكات المتواصلة وصفتها حكومة الوفاق الوطني بأنها محاولة لعرقلة الانتقال السياسي السلمي في البلاد، مضيفة أنها لا يمكنها البقاء صامتة، إزاء الهجمات على طرابلس وضواحيها، التي تمثل انتهاكًا لأمن العاصمة وسلامة المواطنين.
وتشهد ليبيا في الفترة الأخيرة حراكًا دبلوماسيًا كبيرًا للوصول إلى حل للأزمة السياسية المتواصلة في البلاد منذ سنة 2014، وفي شهر يوليو/تموز الماضي حذر المبعوث الأممي إلى ليبيا مجلس الأمن الدولي من أن “حفنة” من أصحاب النفوذ الليبيين على استعداد لبذل كل ما في وسعهم لمنع حصول الانتخابات في البلاد.
تسيطر العديد من الميلشيات المسلحة على معظم أرجاء ليبيا في ظل غياب الدولة المركزية
وأبلغ غسان سلامة مجلس الأمن أنه دون رسالة واضحة من القوى الكبرى في العالم إلى هؤلاء الذين قد يسعون لوقف أو تعطيل الانتخابات، فإنه لن يتم تحقيق الظروف الملائمة لها، وقال “دون توافر الظروف الصحيحة، لن يكون من الحكمة إجراء الانتخابات”.
ويوم السبت دعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا إلى وقف فوري للاشتباكات الدامية في العاصمة الليبية، وجاء في بيان مشترك لهذه الدول أن محاولات إضعاف السلطات الشرعية الليبية وعرقلة العملية السياسية المستمرة أمر غير مقبول.
تصاعد العنف يربك عملية السلام
ووفقًا للناشط السياسي فرج المجبري فإن المستفيد الوحيد من هذه الاشتباكات هو الطرف الذي يسعى إلى إطالة عمر الأزمة، وهنا تتداخل الأطراف الداخلية ومن يدعمها من أطراف خارجية في الملف الليبي بالعموم الذي أصبح رهين التجاذبات والخلافات بين الدول التي لها مصالحها داخل ليبيا سوى المعلن أو المخفي منها وإن كانت تعلن تحت إطار المحافظة على الاستقرار في ليبيا.
وأكد المجبري صعوبة الوصول إلى حل، قائلًا في حديثه لنون، “لن يكون هناك بوادر لانفراج الأزمة خصوصًا مع وجود الميلشيات التي تحظى بتأييد ودعم من حكومة الوفاق الوطني التي لم تعد تسيطر على تغول هذه المجموعات المسلحة وما تقوم بها من أعمال ابتزاز وسطو”.
وتسيطر العديد من الميلشيات المسلحة على معظم أرجاء ليبيا في ظل غياب الدولة المركزية وعجز حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج المدعوم دوليًا في بسط نفوذها في كامل أنحاء البلاد بعد قرابة سنتين من توليها الحكم.
أي دور لفرنسا فيما يحصل؟
مع بداية هذه الاشتباكات تعالت أصوات من إيطاليا تتهم فرنسا بالوقوف وراءها، في هذا الشأن قال وزير الداخلية الإيطالي – الذي يشغل أيضًا منصب رئيس رابطة الشمال اليمينية المتطرفة – ماتيو سالفيني، إن للأزمة السياسية في ليبيا مدير وهنا “اسأل فرنسا”، وتابع سالفيني الذي يشغل أيضًا منصب نائب رئيس الوزراء: “أنا قلق، أعتقد أن هناك من يقف وراء ما يحدث في طرابلس، شخص ما شن حربًا لا ينبغي القيام بها، والذي يريد إجراء انتخابات دون سماع آراء الحلفاء والفصائل المحلية، أي شخص يريد أن يجبر الآخرين على تصدير الديمقراطية”.
اتهامات إيطالية لفرنسا بالوقوف وراء أزمة طرابلس
ويفهم من كلام سالفيني اتهامه لفرنسا بإرباك الوضع في ليبيا، حتى يتسنى لها فرض أجنداتها والتسريع بإجراء انتخابات، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد حصل من الأطراف الرئيسية في الأزمة الليبية، على رأسها رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج وقائد قوات الكرامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على اتفاق شفهي من دون توقيع في الـ29 من مايو/أيار في باريس، لإجراء انتخابات في الـ10 من ديسمبر/كانون الأول بهدف إخراج البلاد من الأزمة السياسية والأمنية التي تتخبط فيها منذ 2011.
واستبعد وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني أي تدخل عسكري لبلاده في ليبيا، وقال سالفيني بعد مشاركته في اجتماع حكومي بقصر كيجي، خيمت عليه تطورات المستجدات في طرابلس، إن التدخل العسكري لا يحل شيئًا، وعلى الآخرين أن يدركوا ذلك، في إشارة إلى فرنسا.
وتحرص فرنسا على إجراء انتخابات ليبية في أقرب وقت ممكن رغم المخاطر التي يمكن أن تنجر عن ذلك، ويؤكد متابعون صعوبة تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية هذه السنة، والحال أنه لم يتم بعد الاستفتاء على الدستور، كما أن البلاد لا تمتلك المؤسسات التي يمكن لها أن تشرف على انتخابات نزيهة وديمقراطية، كما أن الحديث عن وقف إطلاق النار في غياب آليات وطرق ذلك وفي ظل انتشار كبير للسلاح والمليشيات الخارجة عن القانون لن يؤدي إلى تحقيق المبتغى.