بدأت تظهر في الأفق أزمة فنزويلا الاقتصادية عام 2014 بعد وصول معدلات انخفاض العملة المحلية إلى أسوأ مستوياتها ووصلت نسبة التضخم في العام نفسه إلى 50%، توقع الفنزويليون أن تلك الأيام هي الأسوأ على الإطلاق، إلا أن تلك لم تكن سوى البداية، فقد مرت بعدها فنزويلا بعدة تخبطات سياسية كان من شأنها أن يخرج الجميع للتظاهر في الشوارع لا على مدار الأيام بل على مدار الشهور المتتالية، انتهى بها المطاف إلى انهيار حاد في العملة المحلية ووصلت نسبة التضخم في البلاد إلى أكثر من 500%، ليقرر السكان المحليون بيع كل شيء يمتلكونه ليتمكنوا من الحصول على الاحتياجات الأساسية للمعيشة، كان من بين تلك الأشياء التي باعوها هو الشعر على رؤوسهم.
“نحن نختبر أزمة حقيقية تخنقنا”، كانت تلك العبارة التي كررها متظاهرو فنزويلا في الشوارع حينما وصلت نسبة التضخم إلى أكثر من 500% مع توقعات بارتفاعها إلى 2000% عام 2018، لا يستطيع الآن السكان المحليون شراء مستلزمات بسيطة لعدم توافرها أصلًا في السوق الفنزويلية مثل حفاضات الأطفال أو بعض احتياجات المنزل الأساسية، ويضطرهم ذلك للسفر شرقًا إلى الحدود الكولومبية للحصول على احتياجاتهم، وهناك تتعرض النساء من فنزويلا، خاصة من يمتلكن شعرًا طويلًا، لعروض غريبة من نوعها، عروض يعرضها عليهن بعض من السماسرة للحصول على شعرهنن مقابل مبلغ يتراوح بين 30 و150 دولارًا.
كان من يتلقين العروض على الحدود هن المحظوظات بعض الشيء، إذ إن أمثالهن من صاحبات الشعر الطويل داخل المدن في فنزويلا لم يكن أكثر حظًا، بل كن عرضة لسرقة شعرهن من على رأسهن في الشارع وفي وضح النهار، إذ قبل أن تدرك الفتاة ما حدث تجد أحدهم يهرب على دراجة هوائية وفي يديه قطعة طويلة من شعرها وفي يده الأخرى مقص طويل وحاد، وهذا لا يحدث فقط في الأحياء الفقيرة، بل تتعرض له جميع الفتيات أصحاب الشعر الطويل في الشوارع العامة، وعلى الشواطئ وداخل المراكز التجارية أيضًا منذ بداية الأزمة الاقتصادية في 2014 وحتى الآن.
يمكن لصالونات التجميل في الولايات المتحدة أن تشتري الشعر الطبيعي بمبلغ يبدأ من 40 دولارًا ويصل إلى 140 دولارًا على حسب جودته وطوله ودرجة نعومته، كما يُقدر الشعر الطبيعي الفريد من نوعه في السوق من حيث الجودة واللون بـ500 دولار أمريكي
الشعر كمصدر للدخل بعد الفقر
رجل يبيع مجموعة من خصلات الشعر الإضافية في جنوب إفريقيا
ما دام لا يوجد عرض كان الحل الأمثل هو السرقة، إلا أن ذلك قبل أن تحتد الأزمة الاقتصادية في فنزويلا بشكل خرج عن السيطرة، وبدأت النساء تفكر جديًا في استخدام شعرها الطويل والناعم كمصدر للدخل وشراء منتجات لم تعد موجودة بالأساس في فنزويلا، مثل حفاضات الأطفال والمناديل الورقية على سبيل المثال، فبمجرد خروج النساء إلى الحدود للحصول على تلك المنتجات يتعرضن للضغط المستمر من السماسرة وتجار الشعر يعرضون عليهن المال مقابل الحصول على شعرهن، ويمكن للتاجر أن يُقنع عشرات النساء في اليوم الواحد بقص شعرهن والحصول على المال الكافي لشراء مستلزماتهن.
لم يستمر الأمر كثيرًا حتى بدأت النساء نفسها تعرض خصلات شعرها للبيع في صفقة مربحة أكثر للتاجر الذي يشتري منها الشعر مقابل بضع عشرات من الدولارات ليبيعها إلى صالونات التجميل الأمريكية بمئات الدولارات، كما يكون الأمر أكثر ربحًا للتاجر من المرأة من حيث كمية الشعر، إذ يتفق معها على قص مقدار معين من شعر رأسها إلا أن المرأة تجد نفسها دون شعر تمامًا بعد أن يقصه التاجر ويمنحها المال مقابل مقدار من الشعر قد نال أكثر منه بكثير.
فيديو صورته قناة الجزيرة الإنجليزية على الحدود بين كولومبيا وفنزويلا يصور تجار الشعر يقنعون النساء ببيع شعرهن
“لا أحد يملك هذا الشعر إلا نحن، هذا يعتبر كنز ذهبي بالنسبة لتجارة الشعر في العالم”، كان ذلك جزءًا من حديث أحد تجار الشعر الروسيين للصحيفة الأمريكية “نيويورك تايمز” عن أهمية الشعر الأشقر في عالم تجارة الشعر الدولي، إذ إن زيادة الطلب عليه مؤخرًا من السوق الدولية بعد ظهور عدد لا حصر له من المغنيين والشخصيات المشهورة بوصلات إضافية للشعر والحديث العلني عنها جعل منها موضة جديدة تتبعها كثير من الفتيات الآن، ولأن الشعر الأشقر أسهل من البني أو الأسود، المستورد من أمريكا اللاتينية أو الهند، في الصباغة ليُناسب لون بشرة أي فتاة تشتريه، كان الطلب عليه أكثر وكان سعره أعلى بسبب ندرته، حيث قد تصل تكلفة ضفيرة متوسطة الطول من الشعر الأشقر نحو 50 دولارًا.
استطاعت الأيقونات المشهورة فرض موضة لون الشعر الفاتح جدًا على الساحة، فألوان مثل الأزرق والأحمر والأخضر والوردي لم تعد غريبة كما كانت من قبل، وصار لدى الأغلبية رغبة في تركيب وصلات شعر إضافية بهذه الألوان لتبدو وكأنها شعرهن الأصلي، ولهذا كان الشعر الأشقر رجل المهمة، ليكون الأعلى سعرًا والأكثر طلبًا من صالونات التجميل حول العالم، وهو ما جعل تلك الصناعة تزدهر في الآونة الأخيرة بعدما كان متوسط سعر إضافة الشعر الطبيعي نحو 400 دولار في 2009.
قبل بضع سنوات من الآن قُدر حجم تجارة الشعر الطبيعي في الولايات المتحدة بنحو 250 مليون سنويًا، إلا أنها الآن وصلت إلى تحقيق أكثر من مليار دولار للربح السنوي
خلف كل شعرة في صالونات التجميل قصة مؤلمة
مجموعة من النساء الروسيات يصبغن خصلات من الشعر الأشقر
وصلت واردات الولايات المتحدة وحدها فقط من الشعر الطبيعي عام 2016 نحو 700 مليون دولار بعدما لم تتعد الخمسين مليون دولار في التسعينيات من القرن الماضي، ويكون مصدر أمريكا المفضل للحصول على الشعر الطبيعي بسهولة، هو الهند، حيث تحلق النساء شعر رأسها بالكامل تطوعًا لأسباب دينية، وعليه فتكون تجارة ذلك الشعر بالنسبة للمعابد الهندية بمثابة أموال سهلة تدخل للمعبد، حيث يبيع الأخير كيلو الشعر بنحو 700 دولار وهو ما جعل المعبد يتربح من وراء بيع تلك الكيلوات من الشعر الطبيعي بمبلغ سنوي بلغ 7 ملايين دولار.
هناك 3 طرق مهمة حول العالم لتجارة الشعر الطبيعي، أولها طريق أوروبا الشرقية والصين وأمريكا، يكون المصدر بلاد أوروبا الشرقية التي تكون جودة الشعر فيها عالية وتكون بألوان مطلوبة للسوق الدولية بدرجات مختلفة من اللون الأشقر الفاتح، إلا أن النساء في تلك البلاد ليسوا بحاجة لبيع شعرهن من أجل المال كما هو الحال في كثير من دول جنوب آسيا والدول الإفريقية، وبالتالي يكون سعر الشعر في هذا الطريق هو الأعلى بسبب ندرته.
أما الطريق الثاني فيكون عبر الهند وجنوب إفريقيا مرورًا بكينيا ومن ثم فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، ويكون المصدر الأساسي فيها المعابد الهندية وخصوصًا في مدينة دلهي، أما المصدر الآخر يكون الشعر الإفريقي المميز المطلوب بكثرة من الأفارقة الموجودين في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا، بالإضافة إلى انتشار صالونات التجميل التي تتاجر في الشعر الطبيعي بالمملكة المتحدة، بعد أن أصبحت واحدة من أكثر عشر صناعات رواجًا في المملكة وحققت مئات الملايين من الدولارات على مدار السنوات الأخيرة.
لكل شركة تجميل في البلاد الغربية سماسرة يعملون على إقناع النساء في البلاد النامية بقص شعرهن مقابل مبلغ مالي قد يكفي احتياجات المرأة وأسرتها على مدار الشهر إلا أن السمسار قد يبيع الشعر للشركة بأضعاف المبلغ الممنوح للمرأة
الطريق الثاني الأكثر استخدامًا في تجارة الشعر حول العالم
أما الطريق الثالث فيمتد من الهند ومن ثم مباشرة إلى إيطاليا، حيث أكثر شركات التجميل العالمية التي تستخدم وصلات الشعر الإضافية لصنع منتجات تجميلية للشعر أو صيحات جديدة لصباغة الشعر واختراع ألوان جديدة، ومن ثم يكتمل الطريق إلى نيويورك، وهناك يتم بيع وصلات الشعر الإضافي “Hair extensions” للزبائن الباحثين عن الجودة وعلى استعداد أن يدفعوا في قطعة شعر جيدة آلاف الدولارات.
وصلت صادرات الهند “الرسمي” من الشعر الطبيعي نحو 26 مليون دولار عام 2017، إلا أن أغلب عمليات قص الشعر وتجارته من خلال سماسرة تجارة الشعر لا تتم بشكل رسمي ولا تتم من خلال المعابد، إذ إن بعض السماسرة يعتمدون فقط على إقناع النساء في صالونات التجميل من أجل عشرات الدولارات مستغلين أوضاع النساء المادية المتردية في الدول النامية، ولهذا قد تختلق صادرات البلد كثيرًا عن حجم صادراتها الحقيقي على أرض الواقع.
لم تحتل أي دولة من الشرق الأوسط أي مرتبة من قوائم الدول المصدرة للشعر الطبيعي، إلا أنها بلا شك من أهم المناطق في العالم التي تستقبل الشعر الطبيعي من شركات التجميل وصالونات التجميل المصدرة، إذ تشيع صيحة ارتداء الشعر الطبيعي وصباغته واستخدامه في تزيين الشعر عند النساء العربيات بشكل كبير منذ بضع سنوات، والآن مع انتشار الصناعة ووصولها إلى واحدة من أكثر الصناعات الناشئة رواجًا في العالم يدخل خبراء الشعر العرب المضمار مع من سبقوهم، إلا أن الواقع يشير إلى عدم اهتمام الجميع بالبحث عن مصدر الشعر الذي يأتي إليهم، ولا يدركون أن صاحبة هذا الشعر خاضت رحلة صعبة لكي تقرر أن تبيعه في النهاية لكسب قوت يومها.