أصدر النظام السوري قبل أيام قرارًا جديدًا بإيقاف صرف رواتب ما يقارب 500 معلم ومدرس بسلك التربية في محافظة الحسكة، بسبب عدم انضمامهم لصفوف جيش النظام السوري لأداء خدمة الاحتياط.
في الغضون شنت الشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري في مدينة قامشلي حملة جديدة لاعتقال المطلوبين للخدمة في جيش النظام السوري، حيث توزعت دوريات الشرطة العسكرية في مناطق سيطرة النظام داخل المدينة “المربع الأمني” واعتقلت عددًا من الشباب الذي مروا على تلك الحواجز، وحسب المعلومات المسربة أن أفراد الدوريات اعتدوا بالضرب على الشبان الموقوفين.
في حين شغلت قضية المعتقلين لدى النظام السوري، التي تم الكشف عن مصير الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب في أقبية الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري، الرأي العام في سوريا والعالم، وذلك للطريقة اللاأخلاقية والمنافية لأبسط حقوق الإنسان التي استخدمها النظام في كشف مصير المعتقلين.
إذ كان في السابق يستخدم أسلوب التهديد مع إرسال مقتنيات المعتقل وصورة عن البطاقة الشخصية إلى أهله كتأكيد على وفاته، لكن هذه المرة عمَّد إلى تعديل سجلاتهم في دوائر الشؤون المدنية “النفوس” متضمنة شهادة وفاة نتيجة سكتة قلبية، في محاولة منه للتخلص من قضية المعتقلين دون إثارة بلبلة كبيرة نظرًا للأعداد المهولة للذين قضوا في معتقلات النظام بمختلف فروعه، وتشير معظم الأسماء التي كشف مصير أصحابها، أنهم من المعتقلين الذين اعتقلوا في السنوات الثلاثة الأولى من عمر الثورة السورية.
اضطر الشاب “حكم” لمراجعة الطبيب في المشفى الوطني بمدينة قامشلي، بسبب آلام في الظهر، هناك ومن حيث لا يدري اقتادته دورية للشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري من غرفة المعاينة إلى مكان مجهول دون توضيح سبب الاعتقال
قضية عامل الدهان “حكم حكمت سليمان” المولود عام 1980، في مدينة القحطانية بريف الحسكة، مختلفة عن تلك القضايا التي أثيرت، فقد خرج بدايات 2014 من سوريا ليستقر في إقليم كردستان العراق كلاجئ بعد أن سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على قريته بريف المحافظة هاربًا من بطش التنظيم الإرهابي، ليعود بعدها إلى سوريا مجددًا بعد أن فقد شقيقه بحادث سير في إقليم كردستان، مع إعلان قوات سوريا الديمقراطية سيطرتها على قريته وتحريرها من قبضة تنظيم الدولة، وعاد للعمل في مدن المحافظة بمهنته التي اضطرته ظروف الحياة ليتحمل مشاقها وتسببت له بآلام في العمود الفقري.
من يدخل المشفى الوطني يحتاج لوثيقة “لا حكم عليه”!
اضطر الشاب حكم لمراجعة الطبيب في المشفى الوطني بمدينة قامشلي، بسبب آلام في الظهر، هناك ومن حيث لا يدري اقتادته دورية للشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري من غرفة المعاينة إلى مكان مجهول دون توضيح سبب الاعتقال.
بعد السؤال عنه في مراكز أمنية عدة تابعة للنظام في قامشلي تمكن ذووه من معرفة مصيره ومكان وجوده، وفي اليوم الرابع سمح لهم بزيارته، “كان حكمت ليس بحكمت الذي عرفناه فقد بدت عليه آثار التعب والتعذيب، وأيضًا بدا عليه فقدان الكثير من وزنه، ما يدل على شدة التعذيب الذي تعرض له”، حسب أحد أقارب حكمت الذي فضل عدم ذكر اسمه.
بعد محاولات الاستفسار عن التهمة التي اعتقل من أجلها، تبين لأهله أنه كان على قائمة المطلوبين لأداء خدمة “الاحتياط” في صفوف جيش النظام السوري، وهذا ما كان غائبًا عن ذهن الشاب أنه قد يكون مطلوبًا للنظام السوري.
بعد مضي أسبوع على اعتقاله، صدم أهله بورود اسمه ضمن قوائم المفرج عنهم في الصفقة التي عرفت بـ”صفقة كفريا والفوعة” بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري، حيث أفرج حينها عن 1500 شخص حسب القوائم التي تداولتها وسائل الإعلام، الأمر الذي شكل صدمة بالنسبة لأهل حكم
كانت تلك آخر مرة تمكنت فيها عائلته من رؤيته، قبل أن يعلموا أن الشرطة العسكرية أرسلته إلى دمشق للالتحاق بالقطعة العسكرية التي من المفترض أن يخدم فيها المدة التي يفرضها النظام على مجندي الاحتياط، التي لم يلتزم بها كليًا طيلة السنوات السبعة من الحرب.
حاول أهله أن يستفسروا عن مكان وجوده واللحاق به لتقديم ما يمكن من المساعدة له، لكن لم يتلقوا أيّ خبر يفيد بمكانه من النظام السوري، حسب قريب حكم.
ورد اسمه ضمن صفقة تبادل الأسرى في كفريا والفوعة
بعد مضي أسبوع على اعتقاله، صدم أهله بورود اسمه ضمن قوائم المفرج عنهم في الصفقة التي عرفت بـ”صفقة كفريا والفوعة” بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري، حيث أفرج حينها عن 1500 شخص حسب القوائم التي تداولتها وسائل الإعلام، الأمر الذي شكل صدمة بالنسبة لأهل حكم، لكن كما يقول المثل الشعبي “الغريق يتعلق بقشة” وهذا ما دفع بهم وعبر معارفهم للسؤال عن ابنهم المعتقل المفقود في محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة السورية، لكن محاولتهم هذه التي استمرت على مدار أسبوع كامل لم تسفر عن نتيجة، فقد أكدت لهم جميع الجهات المسؤولة في المحافظة أن هذا الشخص لم يكن ضمن المفرج عنهم في الصفقة حسب ما أكد قريب حكم.
ورود اسم حكم في قوائم المفرج عنهم في صفقة كفريا والفوعة زاد من خوف أهله وحيرتهم عن مصير ابنهم الذي لم يقم بأي نشاط سياسي قد يتسبب بهذه السرية في التكتم على مصيره من النظام السوري، وحتى السبب الذي قدمه لهم النظام (أي أنه مطلوب لخدمة الاحتياط ضمن صفوف جيشه)، ليس بسبب ليختفي بهذا الشكل، وبالتالي مجهول المصير.
“تعالوا لتأخذوا ابنكم”
في الأسبوع الثاني من اختفاء حكم، أي بعد مضي ستة أيام على حادثة ورود اسمه في قوائم المفرج عنهم، في الوقت الذي استمر الأهل والأقرباء في بحثهم المستمر عنه لمعرفة طرف خيط قد يقودهم لمكان الابن الذي تاهت التوصيفات عن تجسيد حالته فهو ليس بالمعتقل ولا المختطف ولا بالأسير، وحتى توصيف المجند لا ينطبق عليه، فالمجند من الطبيعي أن يعرف أهله مكان خدمته.
ذهب أحد الأقارب لدمشق محملًا بأثقال الخوف مما ينتظره والحالة التي سيجد فيها حكم، فقد كانت آخر مرة شاهده فيها في المركز الأمني التابع للنظام في القامشلي في حال يرثى له
وأخيرًا جاء الاتصال الهاتفي من دمشق، لكنه لم يكن بشارة خير؛ بل كان كافيًا ليقلب حياة العائلة رأسًا على عقب، ويحيل 22 يومًا من الانتظار والخوف والقلق لفترة تمهيدية لكارثة، المتصل من دمشق ودون أيّ إحساس يقول لهم ببرودة بال: “تعالوا خذوا ابنكم” الجملة هذه فتحت باب التكهنات الممزوجة بالألم والخوف المميت في خيال أهله بشكل عام، وزوجته على وجه الخصوص، وهي المرضعة التي لديها من حكم طفلين والصغيرة رضيعة ذات ثمانية أشهر.
رحلة البحث بين الجثث
ذهب أحد الأقارب لدمشق محملًا بأثقال الخوف مما ينتظره والحالة التي سيجد فيها حكم، فقد كانت آخر مرة شاهده فيها في المركز الأمني التابع للنظام في القامشلي في حال يرثى لها، فكيف وكل هذه الصدمات التي شكلت كمًا من التساؤلات المريبة خلال الأسابيع الثلاث الماضية التي زادت من حمله!
وصل دمشق وتم توجيهه لإحدى برادات مشفى من مشافي دمشق التابعة لجيش النظام السوري، “وهنا تأكدت الكارثة حكم ذو الملامح الكردية الرصينة الشاب العنيد والصلد في مقارعة آلام الحياة جثة هامدة في براد المشفى، وأيّ جثة؟ كان وجهه يحمل كل تعب الدنيا وملامحه تشيّ بعذابات كافية لأن تذهب بكل حكمة قد يملكها الإنسان”، يقولها أحد أقارب حكم في وصف ما شاهده قريبه في براد المشفى.
إن زج اسم “حكم” ضمن قائمة المفرج عنهم، أسلوب جديد للنظام للتخلص من عبء ضحاياه الذين قضوا في أقبية أفرعه الأمنية
“نعم ثلاثة أسابيع هي مدة رحلة عذاب حكم التي كانت كفيلة بأن ترتفع فيه روحه للسماء، هي المدة التي كانت كافية ليفرغ فيه جلادوه كمية الحقد والوحشية التي نالت من كل مسام من مسامات جسد الشاب الثلاثيني، قتلوه والتفاصيل أقسى من أن تسرد” هذا ما قاله قريب حكم.
علامات استفهام
قضية الموت تحت التعذيب في سوريا باتت أمرًا ليس بالصادم، فالنظام السوري اتبع قتل المعتقلين والتخلص من جثثهم منهجًا في قمع معارضيه، لكن في قضية حكم تقفز إلى الذهن أسئلة عدة، ما الذي يدفع النظام السوري لتعذيب شخص اعتقله ليضمه لصفوفه وهو لم يقاوم أصلاً؟
في القامشلي تدعي الإدارة الذاتية التابعة لحركة المجتمع الديمقراطي، أنها الحاكمة في المنطقة وتتعامل مع المواطنين كسلطة صاحبة سيادة مطلقة في الجغرافية التي تسيطر عليها، لكن السؤال هنا أيضًا، كيف لقوة كالشرطة العسكرية أن تأخذ شابًا من المدينة وتقتله تحت التعذيب دون أن يكون للإدارة أي تحرك. إن زج اسم “حكم” ضمن قائمة المفرج عنهم، أسلوب جديد للنظام للتخلص من عبء ضحاياه الذين قضوا في أقبية أفرعه الأمنية.
سؤال آخر يطرح، كيف تمت عملية تبادل الأسرى بين النظام السوري وهيئة تحرير الشام؟ هل كانت العملية بهذه الفوضوية كي ترد أسماء في القائمة المتفق عليها دون أن تعلم بها الهيئة، ولا حتى تسأل أين الشخص المفرج عنه؟ وهل عملية تعذيب وقتل الشاب حكم كانت رسالة من النظام السوري للمواطنين في مناطق شمال وشمال شرق سوريا مفادها أنه ما زال الحاكم القادر على التحكم بمصائرهم.
كل هذه الأسئلة برسم الإدارة الذاتية أولًا والنظام السوري ثانيًا وهيئة تحرير الشام ثالثًا، وقضية حكم ليست الأولى من نوعها، لكن تفاصيلها قد تكون أكثر إيلامًا وتعقيدًا.