على عادة تشكيل الحكومات في العراق لما بعد الاحتلال، التي تختلف عن كل حكومات العالم بطول فترة تشكيلها وحدة الصراع في محاولات السياسيين للاستئثار بها، تأتي محاولة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة في هذا الإطار، ذلك لأن كل الأحزاب المشتركة بالعملية السياسية والمتنافسة على السلطة، تعتبرها غنيمة وليست مهمة لخدمة الشعب الذي كلفهم بتشكيلها.
لكن الذي يميز تشكيل الحكومة لهذه الدورة الانتخابية هو دخول لاعب جديد فيها خلع بزته العسكرية توًا ليلبس لباس السياسي، ويحاول المنافسة للفوز بالحكومة سواء بشكل ديمقراطي أم غير ديمقراطي إذا دعت الحاجة لذلك، هذا اللاعب ينظر للفوز بالحكومة وأخذ زمام هذا البلد أنه استحقاق وتتويج لكل الجهود الإيرانية في العراق ولكل العمل الدؤوب الذي عملته المليشيات منذ انهيار النظام السابق ولحد الآن.
النظام الإيراني الذي لم يكتف بما حصل عليه من سيطرة شبه كاملة على سيادة البلد وإرادته السياسية، بل يطمع أن يكون كذلك فعليًا، من خلال سيطرة أتباعه بالعراق على كل مفاصل الدولة وأهمها رئاسة الوزراء، ذلك المنصب الذي يتحكم بكل شيء بالبلد حسب الدستور الذي شاركت هي بصنعه في بداية الاحتلال الأمريكي للبلد.
اللاعب السياسي الجديد الذي نقصده هو مليشيات الحشد الشعبي التي تم تأسيسها ورعايتها على عين النظام الإيراني، وأضفت عليها الأحزاب الموالية لإيران الشرعية من خلال قانون الحشد الذي أقره البرلمان.
ذهب الجميع إلى الجلسة الأولى للبرلمان الجديد، وكلا التحالفين يدعيان أنهما استطاعا تشكيل الكتلة الأكبر التي تستحق تكليفها بتشكيل الحكومة القادمة
دخلت تلك المليشيات في العملية السياسية كأحزاب سياسية، وبذلت كامل جهدها في الانتخابات النيابية، من تزوير لإرادة الناخب وشراء الأصوات والتهديد للناخبين، ومحاولاتها للتحايل على عمليات العد والفرز اليدوي التي قررها البرلمان السابق، ليضمنوا لأنفسهم البقاء بالصدارة، لكن تلك الجهود جلبت عليهم أعداءً من جلدتهم، الذين كانوا حتى وقت قريب حلفاءً لهم، يتبادلون فيما بينهم المنافع، لينقسم شملهم إلى طرفين متصارعين على السلطة، أحدهم أسمى نفسة بتحالف “البناء” بقيادة نوري المالكي وهادي العامري، وتحالف آخر اسمى نفسه بتحالف “الإصلاح والبناء” وهما بعيدان كل البُعد عن معنى الاسمين اللذين أطلقاهما على نفسيهما.
ذهب الجميع إلى الجلسة الأولى للبرلمان الجديد، وكلا التحالفين يدعيان أنهما استطاعا تشكيل الكتلة الأكبر التي تستحق تكليفها بتشكيل الحكومة القادمة، وكانت خطوة تشكيل تحالف “البناء” بقيادة هادي العامري ونوري المالكي في فجر نفس يوم انعقاد الجلسة، ردًا على إعلان تشكيل تحالف “الإصلاح والبناء” وإعلان نفسه الكتلة الأكبر، مما جعل تحالف البناء يرتكب حماقات كبيرة لغرض إقناع الباقين بأنه الكتلة الأكبر كسبًا للوقت أو التأثير على باقي النواب الانتهازيين الذي يئتلفون مع القوى الأكبر، مثل الأحزاب الكردية أو الأحزاب السنية.
فزور تحالف “البناء” أسماء وتوقيعات النواب الذين أعلنوا فيما بعد براءتهم من هذا التحالف وعدم علمهم بأدراج أسمائهم فيه، وأن أسماءهم أُقحمت في ذلك التحالف دون موافقتهم، كما حاول هذا التحالف المدعوم إيرانيًا بشراء النواب القابلين للشراء وكأنها بورصة لبيع الذمم، الأمر الذي يعتبر جريمتي تزوير ورشوة.
وحين ترى ذلك كله يتبادر للذهب سؤال، هو أن كتلة سياسية تبدأ تاريخها السياسي بالتزوير والرشوة، كيف سيكون شكل الحكومة التي تشكلها وهم عبارة عن مجموعة من المزورين والمرتشين؟ بالتأكيد لا غرابة من تصرفاتهم تلك وهم من وصلوا إلى مجلس النواب من خلال تزوير الانتخابات.
الخطة “ب” هذه خطة إيرانية بامتياز، تبتغي بها ضرب عدة أهداف، وتتضمن الخطة في كثير من مفاصلها، مسألة الصراع الإيراني – الأمريكي الذي من المؤمل أن يشتد كلما اقتربنا من موعد فرض الحظر الكلي على الصادرات الإيرانية من النفط الخام
تحالف البناء المؤلف من المليشيات وأطراف أخرى مدعومة من إيران، بعد أن أيقن أن محاولة الفوز بالحكومة بتلك الطريقة ربما لن تنجح، عمدوا إلى إفشال الجلسة الأولى التي كانت مخصصة لانتخاب رئيس للبرلمان مع نوابه الاثنين، وعمدوا إلى دفع رئيس “السن” لرفع المشكلة إلى المحكمة الاتحادية للبت بتلك القضية، وبهذا يمكن أن يكون الفرج قد جاء للمالكي الذي يتمتع بنفوذ قوي على أعضاء تلك المحكمة، تلك المحكمة التي استطاعت انتزاع حق القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي من تشكيل الحكومة عام 2010 وإسنادها إلى نوري المالكي.
لكن هامش المناورة في هذه المحكمة أصبح بسيطًا ولا تستطيع أن تفعل الشيء الذي كانت تفعله قبل سنوات أيام حكم المالكي، والفضيحة التي كشفها رئيس الوزراء العبادي في هذه المحكمة وأحال احد قضاتها للتحقيق بسبب شبهات تلاعب بالقوانين لغرض تغليب كتلة على حساب أخرى بالتعاون مع الإيرانيين، كانت كافية لتحجيم فعالية تلك المحكمة من إدارة كفة الأمور لصالح المالكي، وبالتالي فإن خيارات تحالف البناء المليشياوي، أصبحت قليلة جدًا، الأمر الذي دفعهم لتفعيل الخطة “ب”.
والخطة “ب” هذه خطة إيرانية بامتياز، تبتغي بها ضرب عدة أهداف، وتتضمن الخطة في كثير من مفاصلها، مسألة الصراع الإيراني – الأمريكي الذي من المؤمل أن يشتد كلما اقتربنا من موعد فرض الحظر الكلي على الصادرات الإيرانية من النفط الخام.
التدخل الأمريكي بالعملية السياسية الجارية بالعراق، من خلال دعم القوى السياسية المناهضة للوجود الإيراني، هو السبب الحقيقي خلف تلك المواقف من المليشيات
الأمر الذي جعل الإيرانيين يوعزون للمليشيات العاملة في العراق أن تخرج ببيان مشترك موجه للشعب العراقي وباسم مشاعر الوطنية والسيادة الوطنية التي صحت من غفوتها لديهم متأخرةً، ويريدون تطهير الأراضي العراقية من كل القوات الأجنبية متهمة بشكل شبه علني حيدر العبادي بالعمالة لتلك القوات الأجنبية، وهو من يوفر لها الشرعية للبقاء في العراق، ووصفت المليشيات الموقعة على البيان كل القوات الأجنبية بالعراق وعلى رأسها القوات الأمريكية، بأنها قوات احتلال ويحق لها بالتصرف معها كقوة محتلة، وهي التي قاتلت تحت مظلة تلك القوات سنين طويلة ولم تتجرأ على وصفها بقوات احتلال حينها.
لكن حقيقة الأمر أن التدخل الأمريكي بالعملية السياسية الجارية بالعراق، من خلال دعم القوى السياسية المناهضة للوجود الإيراني، هو السبب الحقيقي خلف تلك المواقف من المليشيات، وهو أمر لم يعد خافيًا حينما ذكر البيان صراحة بأن الأمريكان والسعوديين من يتدخلون في تشكيل الحكومة ويدعمون الأطراف المعادية لإيران لاستلام السلطة بالعراق.
وجاء بإحدى فقرات البيان” “مؤامرة جديدة هي الأخطر نسج خيوطها التحالف الأنجلو أمريكي وتورط معهم بعض الساسة العراقيين لتكون تدخلاً سافرًا بالعملية السياسية وفرض إرادة هذا التحالف الشرير على العراقيين وتشكيل حكومة هزيلة ضعيفة تأتمر بأوامر الثنائي مكغورك – السبهان”.
وتحمل هذه الفقرة من البيان اتهامًا واضحًا للعبادي وحكومته واتهام للأمريكان والمملكة السعودية بالتدخل بالشأن العراقي، وفي فقرة أخرى من البيان تتبين بصمات إيران فيها واضحة، وأنها جادة في إسقاط أي حكومة لا يكون للحشد دور القيادة فيها، أو أن تميل للأمريكان وبعيدة عن الإيرانيين، خاصة مع اقتراب تطبيق الحظر النفطي عليها، وإيران تعتبر العراق رئتها الاقتصادية التي تتنفس من خلالها، كما أن إيران على استعداد لاستخدام كل ميليشياتها في العراق لمشاغلة القوات الأمريكية، في محاولة منها لإحراج الأمريكان في تطبيق الحظر على إيران، أو التفكير في الهجوم عليها.
من السهل على المراقب لأوضاع العراق وتطورات العملية السياسية فيه، أن يتكهن أن الوضع متجه للانفجار بين الأطراف المتنافسة على السلطة وأن المليشيات وصلت إلى آخر خياراتها، متمثلة بمحاولة الاستحواذ على السلطة وبالقوة
حيث جاء بالبيان ما نصه: “إننا نشير أيضًا إلى محاولات الحكومة المنتهية ولايتها، للنيل من مكانة المجاهدين بعد إعلان نتائج الانتخابات واتخاذ إجراءات لا مسؤولة والسيطرة على المفاصل الحيوية للدولة، عبر إجراءات العزل والإقالة والإقصاء والعمل على تفكيكهم، الأمر الذي لا يمكن أن يمر دون رد مناسب منا يعيد الأمر إلى نصابه”.
ومن هذا كله فمن السهل على المراقب لأوضاع العراق وتطورات العملية السياسية فيه، أن يتكهن أن الوضع متجه للانفجار بين الأطراف المتنافسة على السلطة وأن المليشيات وصلت إلى آخر خياراتها، متمثلة بمحاولة الاستحواذ على السلطة وبالقوة، لذلك فهي تهيء الشارع لمثل هذا الحدث، من خلال هذه البيانات النارية، لا سيما أن الخطوة الأولى أقدم عليها العبادي حينما عزل قائد الحشد الشعبي فالح الفياض واستلم العبادي كل صلاحياته في محاولة منه لتحييد هذه القوة العسكرية من أن تنقلب عليه.