مرة أخرى يعود جدل الهوية في المملكة المغربية بين دعاة “العامية” ومناصري “العربية الفصحى”، الجدل هذه المرة جاء عقب إدراج وزارة التربية الوطنية اللغة العامية في مناهج التعليم بالبلاد، الأمر الذي قوبل باستهجان ورفض كبير من العديد من المغاربة بحجة أنه يفتح الطريق لطمس هويتهم وهوية بلادهم.
نماذج عن التغيير
كتب التدريس في المغرب هذه السنة لم يكن محتواها كباقي السنوات الماضية، فقد طبعت وزارة التربية الوطنية كتبًا دراسية جديدة هذا الموسم في إطار تغييرات شملت مناهج عدد من المستويات التعليمية الأساسية.
هذا التغيير شمل في بعض جوانبه لغة التدريس وإدخال العامية كلغة مرادفة للعربية الفصحى، فقد تضمن كتاب للغة العربية للمستوى الثاني الابتدائي مثلاً، صورًا مقرونة بكلمات بالعامية مثل “شربيل” (حذاء نسوي تقليدي) و”البريوات” (نوع من الحلويات المغربية) و”البغرير” (نوع من الخبز المغربي) و”الغريبة” (من الحلويات المغربية).
هذه التعديلات، سرعان ما تناقلها المغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي بكثير من السخرية والاستهجان في نفس الوقت
كما تضمن كتاب للغة الفرنسية (غير مصادق عليه من طرف الوزارة وهو كتاب تكميلي واختياري)، أغنية شعبية بالعامية المغربية مترجمة إلى الفرنسية، ويتعلق الأمر بأغنية متداولة بين أطفال الأحياء الشعبية.
وخلال السنة الدراسية الماضية، سجل سبعة ملايين و870 ألف تلميذ وتلميذة في المدارس المغربية، وفقًا لبيانات وزارة التربية الوطنية، من بينهم أربعة ملايين و322 ألفًا و482 تلميذًا وتلميذةً في المرحلة الابتدائية، ومليون و722 ألفًا و949 في المرحلة الثانوية الإعدادية، ومليون و26 ألفًا و296 في الثانوية التأهيلية، و805 آلاف و201 في التعليم الأولي.
مواقع التواصل الاجتماعي تتفاعل
هذه التعديلات، سرعان ما تناقلها المغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي بكثير من السخرية والاستهجان في نفس الوقت، معبرين عن رفضهم الشديد لهذه الخطوة لما تمثله من خطر كبير على النسيج المجتمعي للمملكة.
نبيل شرفو، أحد المغاربة الذين علقوا على هذه التعديلات، حيث كتب في حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي “توتير” تدوينة جاء فيها: “على ما يبدو أن وزير التعليم لا يدرك أهمية اللغة العربية، هذا الفعل خبيث ويساهم في طمس اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي يجب الحفاظ عليها وتعليمها بشكل صحيح للأجيال، اللهجة العامية يستطيع الطفل اكتسابها من أبويه ولا حاجة له بتعلمها في المدرسة”.
https://twitter.com/nabeelsharfo/status/1037537125992996864
بدوره، عبر مغربي يدعى زبير محمد عن رفضه لهذه الخطوة، مؤكدًا أن اللغة ثابتة واللهجة في إشارة إلى “العامية” متغيرة، وكتب محمد في هذا الشأن على “توتير” قائلاً: “المغرب فيه لغتين فقط العربية والأمازيغية، وتتفرعان للهجات مختلفة حتى تركيا وإيران لغتهم العامية لا تدرس بل تدرس لغة معيارية منقحة لأن اللغة تابثة واللهجة متغيرة باستمرار، فلهجة اليوم ليست لهجة قبل عشر سنوات أو مئة سنة وستتغير بعد سنوات وتدخل عليها مصطلحات جديدة”.
https://twitter.com/onepunchman1992/status/1037094237635072002
هذا الجدل لم يقف على المغرب فقط، فقد نُقل خارج المملكة أيضًا، فقد كتب مجتمع اللغة العربية بمكة الذي يشرف عليه أستاذ القراءات والتفسير بجامعة أم القرى عبد العزيز بن علي الحربي، في موقع “توتير” تدوينة جاء فيها: “لطمس ما تبقى من #اللغة_العربية وزارة التعليم المغربية تعتمد كلمات باللهجة العامية”.
لطمس ما تبقى من #اللغة_العربية وزارة التعليم المغربية تعتمد كلمات باللهجة العاميةhttps://t.co/w1V4hNqlMr#أخبار_اللغة
— مجْمع اللغة العربية (@m_arabia) September 6, 2018
وقبل 7 سنوات أي سنة 2011، رفع عضو المجلس الأعلى للتعليم المغربي ورئيس مؤسسة زاكورة للتربية نور الدين عيوش، في نهاية ندوة دولية عن إصلاح التعليم، مذكرة اعتبرها عيوش “وصفته السحرية” لإصلاح المنظومة التعليمية إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس وأخرى إلى الحكومة، وبعدها بسنتين قاد عيوش حملة لاستعمال العامية في مناهج التعليم الأولى، إلا أن حملته واجهت صدًا كبيرًا وانتقادًا أكبر.
الوزارة تتشبث بالخطوة
الجدل الذي رافق هذه الخطوة، دفع وزارة التربية المغربية للرد دفاعًا عن اعتماد كلمات باللهجة العامية في كتاب مدرسي، واعتبرت الوزارة في بيان أن “اعتماد أسماء بالدارجة (العامية) لحلويات أو أكلات أو ملابس مغربية في مقرر دراسي بالمستوى الابتدائي يعود لمبررات بيداغوجية (تربوية) صرفة”.
وفي البيان ذاته الذي صدر الثلاثاء، دعت الوزارة، جميع الأطراف إلى العمل لإنجاح الدخول المدرسي الحاليّ وعدم الانصياع وراء كل ما من شأنه التشويش على برامج الإصلاح التي تسعى إلى تجويد المنظومة التربوية وتحسين مردوديتها
“مخالفة المنظومة القيمية والثوابت الجامعة للأمة المغربية”
هذا الجدل لم يكن حبيس مواقع التواصل الاجتماعي فقط، فقد انتقل أيضًا إلى البرلمان، إذ دعا نواب حزب الاستقلال المعارض لعقد اجتماع طارئ للجنة التعليم والثقافة والاتصال بحضور وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، وذلك من أجل دارسة موضوع استعمال “العبارات الدارجة” في المقررات الدراسية.
وحسب الموقع الإلكتروني للحزب، فقد عبر رئيس الفريق الاستقلالي بمجلس النواب نور الدين مضيان في رسالة وجهها إلى رئيس لجنة التعليم والثقافة والاتصال عن قلق حزبه من تواتر إصدار عدد من المقررات الدراسية، خاصة بالتعليم الابتدائي التي تستعمل عبارات دارجة (عامية)، وأوضح أن عددًا من مضامين هذه المقررات تخالف المنظومة القيمية والثوابت الجامعة للأمة المغربية، وهو ما يشكل – بحسبه – إخلالاً صريحًا بالمقتضيات الدستورية.
واعتبر رئيس الفريق الاستقلالي أن ما أسماها “محاولة اختراق المقررات الدراسية باستعمال العبارات الدارجة” تدخل في سياق الأزمة المفتعلة بشأن اللغتين العربية والأمازيغية، وتدبير التنوع اللغوي بالبلاد من طرف جهات قال إنها تسوق لاختيارات مجتمعية مضادة لثوابت الأمة وافتعال أزمات قيمية حسم دستور المملكة تفاصيلها.
إلى جانب ضرب المنظومة القيمية والثوابت الجامعة للأمة المغربية، يرى عديد من المغاربة أن الهدف من هذا التمشي إضعاف اللغة العربية لفائدة الفرنسية
من جهته، قال حسن عديلي عضو الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، إن المبررات التي استندت إليها وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي في تبرير استعمال بعض المفردات “العامية” ضمن بعض المقررات الدراسية، غير مقبولة وغير معقولة بالنظر إلى أن المسألة اللغوية محسومة على مستوى الرؤية الإستراتيجية التي تتحدث عن اللغة العربية كلغة للتدريس قائلاً: “لا ندرس الدارجة من حيث المنهج، نحن ندرس اللغة العربية”.
واعتبر عديلي، وفق ما نقله عنه الموقع الرسمي لحزب “المصباح” أن ما قامت به وزارة التربية الوطنية مغامرة لغوية غير محسوبة العواقب لأنها ستؤدي إلى تعميق التيه اللغوي عند التلميذ، مشيرًا إلى أن اللغة نسق مضبوط بقواعد مضبوطة، وأضاف “المادة مادة اللغة العربية وأستاذها أستاذ اللغة العربية ولا يمكن أن يتم إدخال مفردات من هذا النوع، أما أنها تُكتب في نفس القالب مع اللغة العربية فهنا سيتيه التلميذ، وبالتالي كل ما ساقه البلاغ لا قيمة له من الناحية البيداغوجية”.
إضعاف اللغة العربية لفائدة الفرنسية
إلى جانب ضرب المنظومة القيمية والثوابت الجامعة للأمة المغربية، يرى عديد من المغاربة أن الهدف من هذا التمشي إضعاف اللغة العربية لفائدة الفرنسية التي يسعى الداعمون لها إلى تثبيتها في البلاد خدمة لمصالحهم ومصالح الجهات التي ينوبون عنها، فمن شأن اعتماد اللهجة الدارجة في التدريس، تعبيد الطريق لمزيد من التغلغل اللغوي والثقافي الفرنسي في المغرب.
ويؤكد مغاربة أن هذا المسار يخالف كل النصوص الدستورية والقانونية، ويهدف إلى إرضاء اللوبي الفرنكفوني الذي يتحكم في رقاب المغاربة اقتصاديًا وإعلاميًا وتربويًا، والقضاء على ثوابت الأمة المغربية التي تعد اللغة العربية ركيزتها الأساسية.
تعاني المدرسة العمومية في المغرب من خطر “الخوصصة”
يقول هؤلاء إن من يسعى لتثبيت الفرنسية عوض العربية هم مجرد أقلية نافذة كلفت نفسها بحماية المصالح الفرنسية في المغرب وهي نفسها من تقود عمليات إضعاف مكانة العربية في البلاد، وتعتبر اللغة العربية رمزًا للوحدة وللهوية المغربية وليست فقط لغة كغيرها من اللغات بالمملكة، وفقًا لعدد كبير من المغاربة.
ويورد الفصل الخامس من الوثيقة الدستورية بالمملكة، أن “اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها، وتعد الأمازيغية أيضًا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدًا مشتركًا لجميع المغاربة دون استثناء”.
التخلي عن المدرسة العمومية وفسح الطريق أمام الخواص
بعض المغاربة يرون أيضًا، أن الهدف وراء هذا التمشي هو التخلي عن المدرسة العمومية وفسح الطريق أمام الخواص، وليس الإصلاح كما يدعي دعاة هذا البرنامج، وهو ما ذهب إليه أيضًا محمد بوبكري رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي قال في تصريح لنون بوست: “اختزال دعاة التدريس بالدارجة المسألة في أنهم يهدفون إلى إصلاح التعليم، يؤكد أنهم لا يعرفون المعنى التربوي للإصلاح الذي يفرض أن يتم اعتماده”.
وأشار بوبكري في حديثه لنون بوست، أن من يقفون وراء هذه التغيرات هم نفسهم الذين يقولون إن بعض المدارس العمومية في بعض المدن الكبيرة قد هجرها التلاميذ، ما يستوجب تسليمها إلى الخواص بناءً على دفتر تحمُلات.
ويؤكد رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أن “هناك جهات داخلية وخارجية تُرَوِج لفكرة ضرورة تخلص الحكومة من الكلفة المالية للتعليم، ما جعلها تروم تحرير التعليم حتى يتوقف عن أن يكون خدمة عمومية، لكنها لا تستطيع قول ذلك بشكل مباشر مخافة من ردود فعل المجتمع”.
يتحدث المغاربة لهجة هي مزيج يشبه مزيج تاريخهم وهويتهم، التي طبعت بالحضارات الفينيقية والقرطاجية والموريتانية والرومانية والبيزنطية والإسبانية والفرنسية
محمد بوبكري أوضح أيضًا أن الهدف من طرح الدارجة لغة للتدريس هو تجهيل أبناء المغاربة في المدرسة العمومية حتى يغادرونها، وتزداد قاعاتها فراغًا من التلاميذ، حيث سيشعر الآباء بالقلق على مستقبل أبنائهم، وسيطوِرون إستراتيجيات فردية تقودهم إلى الهروب من المدرسة العمومية إلى المدارس الخاصة.
وأضاف “هذا ما سيُحفِز أرباب التعليم الخصوصي على الدعوة إلى تفويت مبانيها لهم بِدِرهم رمزي لكي يتمكنوا من أن ينوبوا عن الدولة في هذا القطاع، ولن يتوقفوا عند هذا الحد، بل سيطلبون منها أن تساهم معهم ماديًا مقابل تسجيل بعض التلاميذ المميزين ذوي الأصول الاجتماعية الفقيرة في مدارس التعليم الخصوصي، وهكذا سيتمكنون من تحرير قطاع التعليم والاستفادة من المال العام في آن واحد”.
وختم بوبكري بقوله: “عوض دمقرطة التعليم وتحسينه كمًا وكيفًا، اختار دعاة التدريس بالدارجة أن يسيروا في اتجاه ليبرالي متوحش هدفه القضاء على المدرسة العمومية، الأمر الذي من شأنه تجهيل كلٍ من الوطن والمجتمع والدولة”.
مرآة تعكس صورة المغرب الثقافية
هذا الرفض الكبير لاعتماد العامية في مناهج التدريس، لا ينفي وجود مؤيدين لهذا الطرح، فبعض المغاربة وإن كان عددهم قليل، يرون أن اللغة العامية تمثل مرآة تعكس صورة المغرب الثقافية وتنوعه الحضاري على مر الأزمنة.
ويرى هؤلاء أن اللغة الدارجة جزء لا يتجزأ من تراث بلادهم الذي لا يمكن التخلي عنه ووجب تدعيمه، ولدعم توجههم لجأوا إلى تأسيس صحف ومجلات تخاطب القارئ المغربي بلغته العامية ومن أشهرها مجلة “نيشان”، كما أسسوا عدة محطات إذاعية محلية تبث برامجها بالعامية كليًا أو جزئيًا، من هذه الإذاعات إذاعة “هيت راديو” التي تبث بالعامية والمعروفة لدى فئة عريضة من الشباب بالرباط.
تعتبر “العامية” أحد رموز المغربية الحضارية
قبل سنتين، أصدر الناشط المدني ورجل الأعمال المختص في مجال الإعلانات نور الدين عيوش، ما اعتبره أول قاموس للهجة العامية المغربية، أطلق عليه اسم “قاموس اللغة العربية المغربية“، ما أصبح يوصف في الإعلام المحلي المغربي بـ”قاموس عيوش”، ويقع هذا القاموس في نحو 1000 صفحة، ويتضمن كلمات متداولة في اللسان المغربي الدارج، وتفسيرها بالدارجة كذلك.
ويتحدث المغاربة لهجة هي مزيج يشبه مزيج تاريخهم وهويتهم التي طبعت بالحضارات الفينيقية والقرطاجية والموريتانية والرومانية والبيزنطية والإسبانية والفرنسية، فهي تتكون من العربية والأمازيغية (البربرية) والفرنسية وأحيانًا ال‘سبانية، وهو مزيج لا يفهمه أغلب العرب خاصة في المشرق، وإن كان مألوفًا بالنسبة لأشقائهم في المغرب العربي (تونس والجزائر وموريتانيا وليبيا)، غير أن فهم العامية المغربية لن يكون سهلاً، ففي جملة واحدة قد يكون الفاعل بالعربية والفعل بالفرنسية وتتمة الجملة بالأمازيغية وحتى الإسبانية.