في مايو الماضي وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو خلال حفل افتتاح سفارة باراغواي في القدس المحتلة مخاطبًا الرئيس البارغواني حينها هوراسيو كارتيس بأنه صديق لا مثيل له بالنسبة لـ”إسرائيل”، ليقابله الآخر “من صميم قلبه” بالإشادة بدفاع “إسرائيل” الشجاع عن “حقها بالعيش بسلام”، معربين عن أن هذه الخطوة تعكس حجم “الصداقة الصريحة والتضامن الوطيد” بين الدولتين.
بالأمس أعلن وزير خارجية باراغواي ليويس ألبيرتو كاستيليوني أن حكومة بلاده اتخذت قرارًا بإعادة سفارتها لدى “إسرائيل” من القدس إلى تل أبيب، ليصبح هذا القرار الأهم من بين القرارات التي اتخذها ماريو عبدو بينيتيس رئيس باراغواي الجديد ذو الأصول العربية الذي جاء خلفًا لكارتيس المتهم بتجارة وتهريب المخدرات.
قرار جاء بمثابة الصدمة للإسرائيليين في مقدمتهم نتنياهو، لا سيما أنه يضع عقبة جديدة أمام الطريق نحو إتمام صفقة القرن التي يهرول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحلفاؤه الصهاينة لإنهائها بأسرع وقت، بينما تسير الأمور عكس عقارب مخططاتهم التي بدت ملامحها تتكشف للمجتمع الدولي يومًا تلو الآخر.
تساؤلات عدة رافقت هذا القرار المفاجئ والمثير للجدل في آن واحد، خاصة أن له تبعات ربما تدفع ثمنها أسونسيون من علاقاتها بالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، غير أن العديد من الأصوات ذهبت إلى دور محوري للدبلوماسية الفلسطينية في إحداث هذا التحول في موقف باراغواي تجاه قضية القدس على وجه التحديد.
الالتزام بقرار مجلس الأمن
في الـ15 من أغسطس/آب الماضي انتهت ولاية الرئيس الباراغواني هوراسيو كارتيس، ليتولى ماريو عبدو بينيتيس الحكم، ورغم انتماء كلا الرئيسين إلى حزب “كولورادو” المحافظ، لكن من الواضح أن كلاهما يتبنى أفكارًا ومعتقدات وسياسات مختلفة وهو ما كشفته الأيام الـ15 الأولى للحكم.
في 21 من مايو/أيار الماضي افتتح رئيس الباراغواي السابق هوراسيو كارتيس السفارة الجديدة لبلاده في القدس، محتذيًا بالولايات المتحدة وغواتيمالا، يومها أعلن بينيتيس (الرئيس الحاليّ) أنه لم تتم استشارته في هذا القرار
الخارجية البارغوانية في بيانها الصادر بشأن نقل سفارتها من القدس إلى تل أبيب قالت: “باراغواي تريد الإسهام في تكثيف الجهود الدبلوماسية الإقليمية الرامية إلى تحقيق سلام واسع وعادل ومستدام في الشرق الأوسط”، مضيفة أن قرارها جاء التزامًا بقرار مجلس الأمن الدولي لعام 1980، وتنفيذًا لالتزامها الذي قدمته لوزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي الذي سافر قبل أسبوعين خصيصًا إلى أسنونسيون بناءً على تعليمات الرئيس محمود عباس، للمشاركة في احتفالات تنصيب الرئيس الجديد ذي الأصول اللبنانية (ناحية الوالدة).
في 21 من مايو/أيار الماضي افتتح رئيس الباراغواي السابق هوراسيو كارتيس السفارة الجديدة لبلاده في القدس، محتذيًا بالولايات المتحدة وغواتيمالا، يومها أعلن بينيتيز (الرئيس الحاليّ) أنه لم تتم استشارته في هذا القرار، ومن ثم ذهبت بعض الأصوات إلى احتمالية إعادة النظر في هذا القرار حال خروج كارتيس من المشهد السياسي، وهو ما حدث بالفعل وإن جاء بصورة أسرع مما توقعه الكثير من المقربين من دوائر صنع القرار هناك.
ماريو عبدو بينيتيس رئيس باراغواي الجديد ذي الأصول العربية
غضب إسرائيلي وترحيب فلسطيني
أثار القرار غضب تل أبيب ودفع الخارجية الإسرائيلية إلى الرد فورًا بإغلاق سفارتها في باراغواي، ففي بيان لها كتبت “إسرائيل تنظر ببالغ الخطورة إلى قرار باراغواي الاستثنائي الذي سيعكر صفو العلاقات بين البلدين”، فيما ذكر بيان آخر صادر عن مكتب رئيس الوزراء “طلب رئيس الوزراء من وزارة الخارجية إغلاق السفارة الإسرائيلية في الباراغواي”، مضيفًا “قرار أسانسيون يلحق أضرارًا بالعلاقات بين البلدين”.
الصحافة العبرية تفاعلت مع القرار بشكل ملحوظ، حيث نددت بالخطوة التي وصفتها بأنها تطور خطير في مسار العلاقات الثنائية للبلدين حسبما أشارت صحيفة “يسرائيل هايوم”، فيما ذكرت صحيفة “معاريف” أنه لم تكد يمر 3 أشهر فقط على نقل سفارتها إلى القدس، أعاد الرئيس الجديد ماريو عبدو بينيتيس السفارة إلى تل أبيب مرة أخرى كما كانت، ليوتر العلاقات الثنائية مع “إسرائيل”.
الوضع في غواتيمالا لا يختلف كثيرًا عن باراغواي، حيث يعتقد البعض أن الرئيس الغواتيمالي جيمي موراليس أقدم على قرار نقل سفارة بلاده للقدس في 25 من ديسمبر/كانون الأول 2017 مؤازرة لقرار الولايات المتحدة من أجل تأمين الحماية لنفسه، فهو متهم منذ صيف 2017 بقضايا تتعلق بالفساد
وفي المقابل رحبت السلطة الفلسطينية بالقرار الذي اعتبرته منسجمًا مع قرارات الشرعية الدولية، مؤكدة في بيان صادر عن الرئاسة أن هذه “الخطوة الشجاعة من حكومة البارغواي تشكل نموذجًا يحتذى لكل الدول في مواجهة الأطماع الإسرائيلية، ولمحاولات الإدارة الأمريكية أن تفرضه على العالم عندما نقلت سفارتها الى القدس ضمن ما تسمى بصفقة القرن”، مثمنة مواقف كل الدول التي رفضت الخطوة الأمريكية.
وزارة الخارجية الفلسطينية في بيان لها قالت: “بناء على قرار حكومة باراغواي بإعادة سفارتها في “إسرائيل” من القدس إلى تل أبيب، وبناء على قرار نتنياهو سحب سفير “إسرائيل” من أسونسيون وإغلاق سفارة “إسرائيل” هناك، فإنه تقرر وبناء على تعليمات من الرئيس محمود عباس فتح سفارة لدولة فلسطين في باراغواي”.
أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات أعرب في بيان له عن ترحيب السلطة بـ”القرار الجريء للرئيس عبدو بينيتيز الذي يظهر أن حكومة باراغواي قررت العودة إلى موقف أمريكا اللاتينية التقليدي، احترام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة”.
הנחיתי את משרד החוץ לסגור את שגרירות ישראל בפרגוואי. ישראל רואה בחומרה רבה את ההחלטה החריגה של פרגוואי שתעיב על היחסים בין המדינות
— Benjamin Netanyahu – בנימין נתניהו (@netanyahu) September 5, 2018
الدبلوماسية الفلسطينية في اختبار جديد
بذلت السلطة الفلسطينية جهودًا دبلوماسية مكثفة لإجهاض “صفقة القرن” منذ بدء أولى مراحلها بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وحذو باراغواي وغواتيمالا الحذو الأمريكي في نقل سفارتي بلادهما للقدس بدلًا من تل أبيب، حيث أشار المتحدث باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة أن “الصمود الفلسطيني والتمسك بالثوابت الوطنية، والموقف العربي الرافض لتجاوز قضية القدس والشرعية العربية هو الحل لإفشال بصفقة القرن، إذ إنها قامت أساسًا على فكرة صفقة غزة الهادفة لتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية”.
قرار نقل بارغواي سفارتها إلى تل أبيب يعكس الدور الذي بدأت الخارجية الفلسطينية لعبه دفاعًا عن حقوقها وقضاياها أمام المجتمع الدولي، سواء عبر حزمة من القضايا المقدمة أمام الكيانات الأممية، فضلًا عن الجهود المبذولة لإقناع دول العالم بعدالة قضيتها وحقها في الدفاع عن أرضها المغتصبة، هذا بخلاف الجهود المبذولة بالتوازي من بعض الدول الحلفاء، وهو ما تجسد في تراجع واحدة من الدول الـ3 التي نقلت سفارتها للقدس عن موقفها بعد 3 أشهر فقط، وهي ضربة موجعة للإسرائيليين بلا شك.
يكثف الفلسطينيون، سلطة وشعبًا، جهودهم من أجل دفع الضلع الثاني في المثلث الدولي الذي أقدم على نقل سفارته للقدس، لإثنائه عن قراره
قبل أسبوعين تقريبًا كان وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي في العاصمة أسونسيون للمشاركة في حفل تنصيب رئيس البارغواي الجديد، كذلك للمطالبة بضرورة إعادة السفارة من القدس إلى تل أبيب، وقد أسفر اللقاء الذي عقده مع نظيره الباراغواني عن الاتفاق على إعادة نقل السفارة إلى حيث كانت، على أن يتم ذلك بهدوء، وأن يصدر القرار عن خارجية الباراغواي يليه التزام المالكي بهذا الاتفاق الذي كان يقضي بعدم اللجوء لمحكمة العدل الدولية، كما هو الحال مع الإدارة الأمريكية وحكومة غواتيمالا.
وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي
ماذا عن غواتيمالا؟
يكثف الفلسطينيون، سلطة وشعبًا، جهودهم من أجل دفع الضلع الثاني في المثلث الدولي الذي أقدم على نقل سفارته للقدس، لإثنائه عن قراره، وكما حدث مع باراغواي فتشير بعض المصادر إلى احتمالية تكرار ذات السيناريو مع غواتيمالا، خاصة أن هناك أوجه شبه كبيرة بين السيناريوهين.
علاقات قوية كانت تربط بين الرئيس البارغواني الأسبق هوراسيو كارتيس وكل من تل أبيب وواشنطن، خاصة أنه كان يرى فيهما الظهير والحماية ضد أي ملاحقة له، خاصة أنه متورط في عدة جرائم بعضها متعلق بتجارة المخدرات وأخرى بتلاعبات مالية ونقدية غير مشروعة.
ورغم عدم رضا الكثير من الشعب البارغواني عن سياسات كارتيس وقراره بالانصياع للرغبة الأمريكية في نقل سفارة بلادة للقدس حتى من بين أعضاء الحزب الذي ينتمي إليه “كولورادو”، فإنه أصر على اتخاذ القرار منفردًا مغازلة لحلفائه وضمانًا لإبقائه بعيدًا عن الاستهداف والمساءلة.
يبدو أن الضغوط الاقتصادية والتوعية الإعلامية هي السلاح الأبرز لدفع غواتيمالا للتراجع عن قرار نقل السفارة أسوة ببارغواي
الوضع في غواتيمالا لا يختلف كثيرًا عن باراغواي، حيث يعتقد البعض أن الرئيس الغواتيمالي جيمي موراليس أقدم على قرار نقل سفارة بلاده للقدس في 25 من ديسمبر/كانون الأول 2017 مؤازرة لقرار الولايات المتحدة من أجل تأمين الحماية لنفسه، فهو متهم منذ صيف 2017 بقضايا تتعلق بالفساد.
أما عن موقف الشعب الغواتيمالي من هذا القرار فهناك حالة من الانقسام، تعود في معظمها إلى عدم الوعي بالقضية الفلسطينية وعدم وجود تسويق إعلامي وسياسي قوي لها في مقابل الآلة الإعلامية الداعمة لدولة الاحتلال، ويشير بعض أعضاء الجالية الفلسطينية المقيمين هناك إلى أن 40% من الغواتيماليين يتبعون الطائفة الإنجيليكية التي تدعم سياسة الرئيس موراليس، وهناك محايدون، وقسم آخر من السكان الأصليين طوردوا في زمن حكم ريوس مونت الديكتاتوري، لذلك فإن أحزابهم ضد القرار، خصوصًا أنهم كانوا هم أنفسهم ضحية دعم “إسرائيل” لديكتاتورهم، إذ حين فرضت الولايات المتحدة حظرًا على بيع الأسلحة لغواتيمالا تدخلت “إسرائيل” وقدمت الأسلحة للنظام، ولهذا فإن تلك الفئة تعتبر أن “إسرائيل” تهدد السلام العالمي.
هل تحذو غواتيمالا حذو باراغواي؟
البعض ذهب إلى أن الخسائر التي قد تتكبدها غواتيمالا إذا أثارت غضب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حال التراجع عن قرار نقل السفارة، مثل القيام بمزيد من عمليات الترحيل وتقليص التجارة الإقليمية وتقليل المساعدات الخارجية، ربما يكون حجر عثرة أمام هذه الخطوة، فيما قال آخرون إن العلاقات التاريخية بين “إسرائيل” والأنظمة القمعية في غواتيمالا هو العامل الأبرز في تحديد المسار مستقبلًا.
في هذه الحالة يبدو أن الضغوط الاقتصادية والتوعية الإعلامية هي السلاح الأبرز لدفع غواتيمالا للتراجع عن قرار نقل السفارة أسوة ببارغواي، خاصة أن هناك حالة من التخوف لدى الغواتيماليين من المقاطعة الاقتصادية العربية والشرق الأوسطية لمنتجاتهم، على رأسها قهوة “الهيل”.
قرار تراجع باراغواي عن نقل سفارتها للقدس وإعادتها حيث كانت في تل أبيب، خطوة إيجابية تحسب للدبلوماسية الفلسطينية التي بات أمامها تحد من نوع آخر مع غواتيمالا
تصدر غواتيمالا ما قيمته 300 مليون دولار من حب الهيل سنويًا، ففي عام 2016 استوردت السعودية حبة الهيل من هذا البلد اللاتيني بقيمة 70.7 مليون دولار، والإمارات بقيمة 34.5 مليون دولار، فيما استوردت بنغلادش ما قيمته 16 مليون دولار، والأردن 11 مليون دولار، والعراق نحو 8.6 مليون دولار، في حين استوردت مصر 6.5 مليون دولار، بحسب بيانات موقع “ITC Trade“.
وفي المجمل.. فإن قرار تراجع باراغواي عن نقل سفارتها للقدس وإعادتها حيث كانت في تل أبيب خطوة إيجابية تحسب للدبلوماسية الفلسطينية التي بات أمامها تحد من نوع آخر مع غواتيمالا حتى يمكنها الإجهاز بصورة كبيرة على “صفقة القرن” التي تعاني من عراقيل خلال الأيام الأخيرة، لكن هذا لا يمكن أن يكون بمعزل عن الدبلوماسية العربية والإسلامية التي غابت عن المشهد بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، وانصاعت في معظمها خلف ذيول ترامب وتوجهاته التي تضع مصلحة الكيان الصهيوني فوق كل اعتبار حتى لو كان عبر تصفية القضية الفلسطينية من جذورها.