في أواخر الموسم الصيفي لعام 2018، خرج آلاف من الأوروبيين في عدة مناطق سياحية للتظاهر بعد زيارة عشرات الملايين من السائحين لمناطقهم وبلادهم في أعداد متزايدة مقارنة بالمواسم الماضية، ربما سيفرح السكان المحليون لأي دولة نامية بتزايد عدد السائحين هذا من القادمين إليهم، كونهم يمثلون مصدر دخل ضخم للاقتصاد المحلي وفرصة ذهبية لتوظيف المئات من أصحاب الحرف اليدوية، إلا إن المتظاهرين الأوروبيين تجاوزوا الفائدة العائدة عليهم وعلى اقتصادهم من السائحين، وخرجوا في الشوارع حاملين لافتات تحمل كلمات مثل “كفى!” و تنادي بمنع السياحة بعد الآن لمناطقهم.
“لا يمكن للمناطق السياحية أن تقع ضحية للإدارة السيئة بهذا الشكل”، كان ذلك جزء من حديث السكرتير العام لمنظمة السياحة العالمية “طالب رفاعي” لصحيفة الغارديان البريطانية متحدثًا عن استغلال المناطق السياحية الموجودة في بيئة ضعيفة نسبيًا سهلة التأثر بالعوامل الخارجية أكثر من المناطق الحديثة، إذ يرى السكرتير العام لمنظمة السياحة العالمية أن “المناطق السياحية تقع ضحية الاستغلال التجاري الذي يزيد من عدد زوارها، فبدلًا من محاولة حمايتها وتقنين زيارات هذا الكم الهائل من البشر، نجدهم يساعدون في تدمير المناطق السياحية شيئًا فشيئًا”.
وجد عمدة مدينة البندقية أن تسهيل تلك المواقع والمنصات الإلكترونية حجز أعداد هائلة من السياح سوف يمنع في المستقبل وجود أي ساكن دائم واحد لمدينة البندقية بحلول عام 2030
وجدت منظمة السياحة العالمية عدم تنظيم واضح للأفواج السياحية في أغلب المناطق الأثرية حول العالم، واستغلالًا تجاريًا لمناطق شديدة القدم تقبع حول المناطق المركزية التي يقبل عليها مئات الآلاف من السائحين شهريًا وعشرات الملايين منهم سنويًا، الموسم السياحي لهذا العام انتهى بوجود آلاف من المناطق السكنية التي تم تأجيرها بشكل غير قانوني حول المناطق الأثرية، فكان في إسبانيا وحدها 7000 وحدة سكنية مؤجرة بشكل غير قانوني في المناطق الأثرية من أصل 16 ألف وحدة سكنية تم تأجيرها من خلال موقع “airbnb” لتأجير الوحدات السكنية.
مواقع الحجز الإلكتروني وأفواج السائحين خارج السيطرة
صورة لتزاحم السائحين على مدينة البندقية في إيطاليا
شاركت إيطاليا المشكلة نفسها مع إسبانيا بـ مشكلة الازدحام الشديد فيما يتعلق بالوحدات السكنية في الأماكن الأثرية، ولهذا قرر عمدة مدينة البندقية (Venice) في إيطاليا وضع قوانين تحد من تأجير الوحدات السكنية بشكل غير قانوني لتقليل أعداد الزائرين من السائحين لمدينة البندقية، بعد أن اكتشف استيلاء الفنادق الفخمة على أغلب المباني القديمة والأثرية في وسط المدينة واستعدادها لاستقبال حوالي 50 ألف ساكن في تلك الأحياء الضيقة بالمشاركة مع تسهيل الحجوزات مع أشهر مواقع حجز الفنادق والنزل مثل “Booking.com”.
كان تأثير مواقع الحجز الإلكتروني للفنادق والنزل في المواسم السياحية ملحوظًا بالنسبة للجهات الرسمية الإيطالية التي حذرت من تأثير النسيج المجتمعي الإيطالي بحركة الحجوزات المكثفة تلك، بعدما وصلت الحجوزات أعدادًا هائلة تفوق استيعاب شوارع وأزقة المدينة الأثرية، مما دفع حاكم البندقية إلى الأمر بوقف بناء المزيد من الفنادق وأغلق بعضها بالفعل منذ بداية صيف 2018 للحد من “السياحة بأعداد ضخمة” على المدينة ومن أجل “الحفاظ عليها من تدمير السائحين لها” كما صرح مكتب الحاكم.
أصبح هناك حالة تسمى بـ “رهاب السياحة” أو “رهاب السائحين”، وهي حالة أصابت الكثير من السكان المحليين للمدن الكبرى، مثل برشلونة، وروما، وإسطنبول
الحكومة الإيطالية قررت أيضًا في بعض المحافظات السياحية تعزيز قوات الأمن بتوظيف مزيد من رجال الأمن للتعامل السريع مع كل سائح يسيء التصرف مع المنشآت الأثرية، بالإضافة إلى طباعة مزيد من الخرائط التي توضح الأماكن غير المركزية، ولكنها تحمل في الوقت ذاته أهمية المنشآت الأثرية المعروفة وذلك من أجل إعادة توزيع الأعداد الضخمة من السياح على مساحات أوسع مثل المنتزهات الطبيعية والأسواق المحلية غير المعروفة، كما منعت السلطات بعض الأنشطة في المنشآت الأثرية الموجودة في الأماكن العامة، مثل تناول الطعام والمشروبات أمام النوافير.
أرجع بعض الخبراء أسباب الأزمة السياحية الملحوظة حاليًا بعد خروج العديد من المظاهرات في مختلف المدن الأوروبية إلى المنصات الرقمية، وعلى رأسها موقع “Airbnb” الذي سهل على المسافرين قضاء عطلات سريعة لا تتجاوز البضعة أيام، إلا أنه يسهل عليهم التركيز فقط في مراكز المدن بعيدًا عن اكتشاف أحياء أو مناطق أخرى منها، ومع وجود مئات الآلاف من السائحين المتواجدين في الوقت نفسه تسبب موقع “airbnb” بزيادة عدد حجوزات الوحدات السكنية والفنادق والنزل عن حد استيعاب المناطق المركزية من المدن مما أدى إلى إحداث تأثير سلبي على المنشآت السياحية.
سياحة أم احتلال!
10 sene sonra bir Beyoğlu/İstiklal de gezeyim dedim. Ülkem arab işgali altındaymış ya 🤨🤨🤨🤨
— ati lacus (@LacusAti) August 2, 2018
شاب تركي مغردًا: “قررت المرور في شارع استقلال، في مركز إسطنبول، ووجدت بلادي تحت “الاحتلال العربي” من كثرة السائحين العرب”!
“السائحون هم الإرهابيون”، “لكل السائحين: ارجعوا لبلادكم!”، “هذه ليست سياحة بل احتلال”. هذه أمثلة لبعض الشعارات التي قد يجدها السائحين على جدران شوارع مدنهم المفضلة، حتى وًصفت تلك الحالة بـ “رهاب السياحة” أو “رهاب السائحين”، وهي حالة أصابت الكثير من السكان المحليين للمدن الكبرى، مثل برشلونة، وروما، وإسطنبول، وأصبحوا في حالة كره دائم لكل سائح وأصبح كل سائح السبب الأساسي لخراب الشوارع وازدحامها.
لم يقع اللوم على موقع Airbnb فحسب، بل كان في صدارة الاتهامات أيضًا موقع “Tripadvisor“، حيث اتُهم الموقع الأخير، الذي يزوره شهريًا أكثر من 450 مليون زائر، أي من بين كل 16 شخص مستخدم للإنترنت، هناك شخص لابد له من زيارة هذا الموقع بشكل دوري لمتابعة أهم المناطق الواجب زيارتها حينما يقرر السفر إلى بلد للمرة الأولى، وعلى الرغم من أهمية موقع مثل “tripadvisor” بالنسبة للسائحين إلا إنه كان من ضمن المنصات الرقمية التي وقع عليها اللوم ضمن الحملات المعارضة للسياحة في هذا الموسم الصيفي.
كان اعتماد المنصة الأول والأخير على ما يُعرف بـ “اقتصاد السمعة”، الذي يرتكز بشكل أساسي على سمعة المناطق والمحلات وتقييم الزبائن والسائحين لها أكثر من جودتها الفعلية
جدار مكتوب عليه “عد من حيث أتيت للسائح، وأهلًا باللاجئين”
كما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرًا بعنوان “كيف غير tripadvisor شكل السياحة؟”، تحدثت فيه أن رحلة المنصة، التي استطاعت النهوض برأس مالها من 3 مليون دولار قبل عقدين من الزمن إلى 7 مليار دولار في الأيام الحالية، لم تأت بنتائج إيجابية بشكل كامل على السياحة والسائحين، ولا على السكان المحليين للمناطق الأثرية كذلك، حيث كان اعتماد المنصة الأول والأخير على ما يُعرف بـ “اقتصاد السمعة”، الذي يعتمد بشكل أساسي على سمعة المناطق والمحلات وتقييم الزبائن والسائحين لها أكثر من جودتها الفعلية.
لم يكن من الواضح على منصة مثل tripadvisor أي من التوصيات الحقيقية للمناطق الأثرية مقارنة مع التجارية منها، فكان للموقع دخل كبير في ترويج بعض الوجهات السياحية على حساب الأخرى بعد تربّح المنصة من تلك الوجهات تحديدًا لغرض ترويجها وجعلها تحتل المراتب الأولى على تقييمات الزوار، كما استهدفت بعض المناطق التجارية بعضًا من الزوار وطلبت منهم رفع تقييم المكان على المنصة مع زيادة التعليقات الإيجابية حولها مقابل مبلغ مالي.
كان إنستغرام أيضًا على قائمة المنصات الرقمية الملامة على تغييرها لمفهوم السياحة الذي عرفته البشرية منذ عقود، فلم
لم تجد منصة “tripadvisor” حلًا لتمويل المنصة، التي اعتمدت في أساسها على “آراء موثوق بها” من قبل المستخدمين غير المدفوع لهم، سوى الحصول على نسبة من الفنادق أو المحلات أو أصحاب المزارات السياحية مقابل الترويج لهم كأماكن يقصدها السياح في البلاد، لتضعها المنصة ضمن أكثر عشرة أماكن زيارة في البلد التي يقوم الزائر العادي بالبحث عما يميزها واثقًا في آراء المنصة التي من المفترض أنها “محايدة”.
إنستغرام: هل يكون المنصة التي دمرت كل شيء؟
من المنصة التي غيّرت نظرتنا للطعام، ونظرتنا لأجسادنا، ومن المنصة التي قامت بتنقية كل حالات الفرد لتلائم منصات التواصل الاجتماعي بعيدًا عن حقيقتها على أرض الواقع، كان إنستغرام أيضًا على قائمة المنصات الرقمية الملامة على تغييرها لمفهوم السياحة الذي عرفته البشرية منذ عقود، فلم يعد هناك أهمية للدليل السياحي ومعرفة التاريخ قبل مشاهدة الأماكن على أرض الواقع، بل المهم هو الوصول إلى المكان الذي التقط منه نجوم الإنستغرام صورة السيلفي الخاصة بهم والتقاط الصورة نفسها ووضعها على الحسابات الشخصية.
عُرفت الكثير من المناطق حول العالم كونها مناطق متخصصة إما في تسلق الجبال أو في كونها مناسبة لرياضة معينة، إلا إن إنستجرام جاء ليغير هذا كليًا بالنسبة لبعض المناطق التي قصدها السياح من قبل لأغراض معينة، لتتحول الآن إلى مناطق مميزة لالتقاط الصور المشهورة من قبل السائحين أو في هذه الحالة مهووسي الإنستغرام وترك مخلفاتهم والرحيل دون القيام بأي شيء له علاقة بتلك البقعة المميزة.
يُنفق ثلث المسوقين حاليًا ميزانية وصلت لملايين الدولارات من خلال المؤثرين الاجتماعيين “Influncers” للتسويق السياحي على انستغرام فقط
كان من بين تلك المناطق هذه البقعة المميزة في آيسلندا والتي تقع على متن جزيرة غير مأهولة بالسكان شمالًا تربط ما بين أقصى شمال أوروبا و أمريكا الشمالية في آيسلندا، وعلى الرغم من قصد السائحين الجزيرة للاستكشاف إلا أنها الآن صارت بقعة مميزة جدًا لمهووسي الإنستغرام لالتقاط صور مشابهة لصور نجوم المنصة نفسها وهم يحاولون تصوير أنفسهم وهم يكادون يسقطون من على جبل مرتفع كما هو موُضح في الصورة السابقة، والتي أشار مصورها في حديثه عنها أنه وجد كثيرًا من الناس كادوا أن يلقوا حتفهم في محاولة التقاط المشهد الأنسب لمنصة إنستغرام.
ربما يظن البعض أن المنصات الرقمية لا تفعل أي شيء يضر بالسياحة سوى باختيار المرء نفسه ورغبة منه، كاستخدام منصة “tripadvisor” مثلًا للمساعدة في معرفة اقتراحات عن البلد المُسافر إليها، أو استخدام “airbnb” للحجوزات كما يفعل الجميع، أو متابعة الصور على إنستغرام لمحاولة التقاط كمثلها، إلا أن الحملات المناهضة للسياحة وجدت في تلك المنصات سببًا رئيسيًا في كون السياحة مصدر بلاء على المدن صاحبة المزارات السياحة أكثر منها كمصدر رزق ينتفع به المحليون واقتصاد البلد المُضيف.