بضعة أشهر تفصل الجزائريين عن موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، موعد من المنتظر أن يكون عاديًا لا يختلف عما سبقه، عكس ما يروّج له النظام والمعارضة على حدّ السواء. فالجزائريين ألفوا الحالة التي هم عليها، وفقا للعديد منهم، ولا طاقة لهم بعواقب التغيير الذي إن حصل سيرجع بهم التاريخ إلى “العشرية السوداء” وفقًا لأذرع السلطة الماسكين بزمام الحكم في البلاد منذ عقود متتالية.
ذكرى حزينة تأبى النسيان
رغم مرور 26 عامًا على انقلاب الجيش الجزائري على الإسلاميين واجبار الرئيس الشرعي حينها الشاذلي بن جديد على الاستقالة من منصبه، ما زالت آثار ذلك الانقلاب ماثلة لدى الجزائريين، رغم جهود المصالحة السياسية والقانونية التي بذلت لمعالجة كافة الآثار المترتبة على دوامة العنف والإرهاب وسنوات الدم التي شهدتها البلاد بعد يناير 1992، حتى إقرار قانون الوئام المدني في نهاية سنة 1999، وتلاه قانون المصالحة الوطنية عام 2005.
وكان انقلاب الجيش، مباشرة عقب إجراء الدورة الأولى من أول انتخابات برلمانية تعددية تشهدها الجزائر في تاريخها في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، التي فازت فيها “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” وحسمت أغلب مقاعد البرلمان لصالحها، على حساب حزب “جبهة التحرير الوطني” الذي كان يمثّل الجهاز السياسي للدولة والجيش.
هذا الواقع الذي يعاني رهاب الماضي، أفلحت أحزاب السلطة والموالية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والدائرين بفلكهم في استغلاله أحسن استغلال لصاحلها
عقب ذلك الانقلاب، تمّ حظر “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، لتدخل البلاد حينها في دوامة من العنف والاقتتال، كانت نتائجه البشرية والمادية وخيمة وقاسية، 120 ألف قتيل، بحسب تقديرات رسمية، و200 ألف بحسب تقديرات غير رسمية، و7400 مفقود، وأكثر من 30 ألف معتقل نقلوا إلى سجون أقيمت في مناطق مشبعة بإشعاعات نووية من مخلفات التجارب النووية الفرنسية في الصحراء، ناهيك عن تقديرات بخسائر اقتصادية فاقت الـ50 مليار دولار، وتخريب 40 ألف مؤسسة اقتصادية، وخسارة 400 ألف عامل لأعمالهم، عدا عن عشرات النساء المغتصبات، وتمزّق اجتماعي عميق بعمق تلك الحقبة.
صفاء، فتاة جزائرية من مدينة سطيف، ولدت مع بداية الحرب الأهلية، رغم أنها في تلك الفترة كانت صغيرة ولا تعلم عن الحياة شيء، فإن مشاهد الأزمة ما زالت ماثلة أمامها. تقول صفاء لنون بوست، “إلى اليوم ما زلنا نتعايش مع العشرية السوداء أو بالأحرى “رواية العشرية السوداء”، بالرغم من مرور أكثر من 25 سنة عليها.”
وتضيف صفاء في تصريحها لنون، “أحداث تلك الفترة خلفت آثارًا نفسية على المجتمع الجزائري، حيث جعلتنا نعيش في دوامة الخوف بالأخص مع الأحداث التي عرفها العالم العربي في فترة الأخيرة، فكل جزائري أصبح يستذكر تلك الأحداث الأليمة المفجعة.”
https://www.youtube.com/watch?v=-k-bK02yo6w
بدوره قال عبد القادر (50 سنة) لنون بوست، إن “أحداث العشرية السوداء جعلتنا نتنازل على العديد من الأمور، خوفًا من إحياء ثورة جديدة يروح ضحيتها الشعب، وأبرز مثال على ذلك، أننا كلنا ضد رئاسة عبد العزيز بوتفليقة، وضدّ إعادة ترشحه العهدة الخامسة، لكن الرفض عن طريق مظاهرات سلمية أو حتى المقاطعة الكلية، صار يحسب له ألف حساب.”
وتابع عبد القادر: “بالمختصر العشرية السوداء، جعلتنا نعيش الدكتاتورية من نوع آخر وليس تلك الدكتاتورية المتعارف عليها، بإمكاننا أن نسميها الدكتاتورية النفسية، فالجميع يخاف أن يعود الحال إلى ما كان عله سنوات التسعين.”
ما زالت السلطات الجزائرية تستدعي الملف الأمني، لقطع الطريق على أية محاولة للتغيير، حيث تصف كل من تسوّل له نفسه المجاهرة بالدعوة إلى التغيير بـ “المتربصين بأمن البلاد”
“إما نحن أو الخراب”
هذا الواقع، أفلحت أحزاب السلطة الجزائرية والموالية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والدائرين بفلكهم في استغلاله أحسن استغلال، وذلك لتقوية نفوذهم، فما أن يشعروا برغبة الشعب في التغيير، حتّى يسارعوا في استعادة ملامح “العشرية السوداء” والفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات.
ما إن تركّز في خطاباتهم، التي ملّ الشارع سماعها، حتى تلاحظ تركيزهم على استدعاء تلك الفترة، فتجدهم يحذّرون مما يعتبرونه فوضى تؤدي حتمًا وفق تصوّرهم، لرجوع البلاد إلى حالة الاقتتال والعنف والفوضى، ودخولها في مغامرة سياسية وأمنية لا يعرف أحد عواقبها على البلاد وأهلها.
وكثيرا ما يستدعي الدائرين في فلك السلطة مصطلحات من قبيل “الفوضى”، “سنوات الجمر”، “عشرية الدم”، للدلالة على فظاعة الأحداث التي حصلت خلال تلك الفترة التي ما زلت ذكراها الأليمة ساكنة في عقول الجزائريين ممن شهدها أو حتى سمع عنها.
“رفْض التغيير عند النظام، جعل منهم يتشبثون بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة وترشيحه لفترة رئاسية خامسة، رغم مرضه وشلله”
يصرّ هؤلاء في خطاباتهم أمام المواطنين، على تأكيد ضرورة اتقاء العودة إلى الفوضى التي عاشتها البلاد في السابق، وذلك بالاصطفاف حولهم، وتبني خياراتهم فهي الوحيدة الكفيلة بإنقاذ البلاد من أزماتهم العديدة، رغم أنهم مسؤولون بدرجة أولى عن هذه الأزمات التي يعيش الجزائريين على وقعها منذ سنوات.
وما زالت السلطات الجزائرية تستدعي الملف الأمني، لقطع الطريق على أية محاولة للتغيير، حيث تصف كل من تسوّل له نفسه المجاهرة بالدعوة إلى التغيير بـ “المتربصين بأمن البلاد”، الواجب التصدّي لهم ووضع حد لنشاطهم حتى لا تنتقل “العدوى” إلى غيرهم.
فخلال الانتخابات البلدية والتشريعية الأخيرة مثلا، حرمت السلطات العديد من الشخصيات من الترشّح بحجة تهديدهم للأمن العام، وتطال هذه التهمة ” خطر على الأمن العام”، كلّ شخص لا يروق للنظام، دون أن يكون لها أي وجه قانوني.
“هم أحق بالحكم من غيرهم”
يصف أتباع النظام وأنصاره، كلّ محاولات التغيير ضربًا للاستقرار في البلاد، فهم الوحيدون المؤهلون لحكم البلاد، بعد أن أنقذوها وفق ادعائهم من براهن الحرب الأهلية من خلال سنّ قانون الوئام المدني الذي يعتبر أول قرار سياسي اتخذته السلطة تجاه الجماعات المسلحة في البلاد، مباشرة بعد فوز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات أبريل/نيسان 1999.
ومنح هذا القانون، الذي تمّ استفتاء الشعب عليه في تاريخ 16 سبتمبر/أيلول من نفس السنة، المسلحين حق العودة إلى المجتمع بالنزول من الجبال وتسليم أسلحتهم، ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بتنظيم “الجيش الإسلامي للإنقاذ”.
يصرّ النظام على ترشيح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة
أعقب هذا القانون، قانون ثان تمّ الاستفتاء عليه يوم 29 سبتمبر/ أيلول 2005، وحدّد هذا الميثاق إطارًا قانونيًا للذين تم العفو عنهم، وينص الميثاق على تدابير العفو عن “المسلحين” الذين سلموا أسلحتهم، باستثناء المتورطين في “جرائم القتل الجماعي وتفجير المنشآت العامة والاغتصاب”، كما يشمل القانون أيضًا المحكوم عليهم غيابيًا، فضلًا عن إقرار تعويضات مالية لأسر ضحايا الإرهاب والمفقودين.
ويرى الماسكين بالحكم في الجزائر، أن قيادتهم نجحت في تجنيب البلاد خطر الحرب، وأنهم هم صمام الأمام للمصالحة الوطنية التي تمنع عودة سنوات الدم، وتجنّب الجزائر والجزائريين خطر الانزلاق مجدّدًا في أتون الحرب الأهلية، لذا لا أحقية لغيرهم في حكم بلاد هم وحدهم دون غيرهم، صانوا أمنه وحفظوا استقراره.
إلى جانب استدعائها أحداث العشرية السوداء، كثيرًا ما تستدعي أحزاب السلطة في الجزائر ما يحصل في الجارة ليبيا، ومصر واليمن وسوريا، وتأكيد أن الأحداث الدامية هناك نتاج للتغيير الذي يريده البعض
يؤكّد هذا، أن النظام ومن حوله ليس لديهم أي نية لمغادرة الحكم في البلاد بل يسعون للخلود فيه، ولا يريدون ترك الجزائر تدخل مرحلة دولة القانون ولا السماح بالتغيير وفقًا لأسس الديمقراطية التي أضحت بمثابة ديمقراطية الحزب الواحد والرجل الأوحد.
افلاس سياسي
هذا الخطاب المتّبع من قبل أجنحة السلطة، يراه العديد من الخبراء بمثابة الإفلاس السياسي، فهو يعبّر عن عجز السلطة في اقناع الشعب بخياراتها وتوجهاتها، ولتجاوز ذلك، ترهب الناس من خطر التغيير، ويتوعدونهم بالفوضى والدم إن فكّروا في غيرهم.
التخويف من التغيير الذي يطرحه الماسكين بالحكم، واعتبار أمن واستقرار الجزائر خط أحمر لا يمكن تجاوزه، لا يفهم منه وفق للمتابعين للشأن الجزائري إلا عجزًا من قبل النظام في استيعاب طموحات الجزائريين الراغبين في غد أفضل يجمع بين الاستقرار الأمني والرفاه الاقتصادي والكرامة الاجتماعية.
إلى جانب استدعائها أحداث العشرية السوداء، كثيرًا ما تستدعي أحزاب السلطة في الجزائر ما يحصل في الجارة ليبيا، ومصر واليمن وسوريا، وتأكيد أن الأحداث الدامية هناك نتاج للتغيير الذي يريده البعض، فالتغيير عندهم يقابله الفوضى.
حلم التغيير في بلد المليون شهيد ربما سيتأجّل إلى 6 سنوات أخرى على الأقل، فالأطراف الحاكمة ستبقى في السلطة لفترة أخرى يجهل الجميع موعد نهايتها
رفض التغيير عند النظام، جعل منهم يتشبثون بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة وترشيحه لفترة رئاسية خامسة، رغم مرضه. وسبق أن أصيب بوتفليقة البالغ من العمر 81 سنة، عام 2005 بقرحة معدية استدعت عملية جراحية في مستشفى فال دوغراس، قبل أن يصاب في 2013 بجلطة دماغية أثرت على بعض وظائفه وأقعدته على الكرسي المتنقل، وغيبته عن مخاطبة شعبه وممارسة مهامه أمام كاميرات الإعلام إلا في الضرورة القصوى.
ولا يشاهد الجزائريين بوتفليقة عادة، إلا في مقاطع فيديو قصيرة يبثها التليفزيون الرسمي خلال استقباله مسؤولين أجانب يزورون البلاد في مقره الرئاسي، ورغم هذا يأبى بوتفليقة والمحيطين به أن يترك الحكم ويسمح بتغيير سلمي في البلاد.
الأمن مقابل السكوت عن الفساد
استدعاء هذا الخطاب، يتمّ أيضا لمساواة الجزائريين، فالنظام يروج لمعادلة تتمثّل في أن حفظ الأمن والاستقرار يلزم السكوت في الفساد. ويعلم الجميع قدر الفساد في البلاد إلا أن السكوت خيارهم حتى لا تنزلق البلاد إلى الفوضى وفق النظام.
وأدّى الفساد والإفلاس المالي الذي أقرّت به مختلف الحكومات التي تعاقبت على البلاد، بالبلاد إلى مرحلة العجز، في ظلّ عجز السلطات الحاكمة عن إيجاد حلٍ للأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، فضلًا عن العجز عن استغلال أموال النفط والغاز في تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية.
وخلال فترة حكم بوتفليقة التي قاربت 20 سنة، صرفت مبالغ طائلة تعدّت ألف مليار دولار، لا يعلم المكان الذي صرفت فيه ومن صرفها، وإذا تكلّم أحد عن هذا الأمر يتهم بمحاولة بث الفوضى والفتنة في صفوف الجزائريين ويحاكم بتهمة الخيانة العظمى. فحتى حملات مكافحة الفساد التي تشنّها السلطة من حين إلى أخر فتتنزل وفق المتابعين للشأن العام هناك في إطار تصفية حسابات بين أركان الحكم.
أي دور للمعارضة في هذا؟
نجاح النظام في ترويج هذا الخطاب، يعود أيضا إلى فشل المعارضة في إنتاج خطاب مخالف، وبلورة رؤية واضحة لواقع البلاد ومستقبله، فالمعارضة أيضا عاجزة إلى الأن عن فهم متطلبات الشارع الجزائري وعاجزة عن التعبير على إرادة المواطن الجزائري ورؤيتها المستقبلية.
فشلت المعارضة في إيجاد بديل للنظام في الجزائر
يرى العديد من الجزائريين، أن المسؤول عن تأجيل التغيير في الجزائر، ليس النظام بمفرده، فللمعارضة نصيب أيضًا، ذلك أن المشهد السياسي الجزائري يزدحم بسلسلة مبادرات ودعوات تطالب بالتغيير وإنهاء حالة الارتباك الراهن، في أبعاده المتصلة بإدارة شؤون الحكم وغموض الموقف في مؤسسة الرئاسة، وتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، إلا أنها مبادرات لا تكاد تجتمع في إطار أو تصور واحد، على الرغم من تقاطعها في تحليل الأوضاع.
ويفسّر هذا الأمر، بانقسام المعارضة أحزاب وشخصيات وطنية، وعدم اجتماعها على كلمة واحدة تمكّنهم من منافسة النظام، فدائما ما تجدهم منقسمين حتى داخل الحزب والجماعة الواحدة، هدفهم الكرسي والمصلحة الشخصية لا المصلحة العامة.
مما سبق ذكره، نستنتج أن حلم التغيير في بلد المليون شهيد ربما سيتأجّل إلى 6 سنوات أخرى على الأقل، فالأطراف الحاكمة ستبقى في السلطة لفترة أخرى يجهل الجميع موعد نهايتها، حماية للمصالح والمكاسب التي حققوها وما زالوا يأملون في تحقيق غيرها، دون إيلاء الشعب وانتظاراته ومطالبه أي اهتمام يذكر.