لم يكن الحفل الأخير في جامعة الدفاع الوطني بإسطنبول، الذي أقيم برعاية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نهاية أغسطس/آب الفائت، متميزًا فقط في أنه شهد للمرة الأولى في تاريخ البلاد، تكريم ثلاث فتيات كضباط خريجين أوائل في أقسام الجامعة الثلاث: البرية والبحرية والجوية، فقد تسبب حدث صغير ولم يستمر سوى دقائق معدودات، أُقيم بعد حفل التخرج وعقب مغادرة أردوغان، بجدل سياسي وشعبي واسع في البلاد، وأعاد عجلة العلاقة بين العسكر والحزب الحاكم سنوات إلى الوراء، حين احتفل نحو 300 خريج ملازم، بشكل منفصل وغير مألوف، برفع سيوفهم وترديد هتافات “نحن جنود أتاتورك”.
وكان من الطبيعي في ردات الفعل بعد الاحتفال، أن تتباين بشكل واضح بين الحزب الحاكم وحليفه القومي من جهة، والمعارضة التركية من جهة ثانية، لكن اللافت أن تصريحات حزب العدالة والتنمية كانت مختلفة -نوعًا ما- عن تصريحات الرئيس التركي، الذي تعهد بـ”تطهير الجيش” منهم، مشيرًا إلى أن تلويحهم بالسيوف هو تلميح بـ”الانقلاب”.
قَسَم أتاتورك: أردوغان وحليفه يتوعدان
وبعد أيام من الحدث أكد أردوغان خلال كلمة في فعالية خاصة بمدارس “الأئمة والخطباء”، بأنه سيتم إجراء “جميع التحقيقات اللازمة” بخصوص احتفال الخريجين، لا سيما أن الفتيات الثلاثة الأوائل شاركن في الاحتفال، مضيفًا: “نحن لن نسمح باستنزاف جيشنا مرة أخرى، ستتم محاسبة المتورطين في الحادث، الذين يمكن أن يكونوا 30 أو 50 شخصًا”.
وفي حين اعتبر الرئيس التركي هذا الحادث بمثابة تحدٍ للسلطات، بعد عامين من حظر “قَسَم أتاتورك” في جامعة الدفاع الوطني، كان للمتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، عمر جيليك، رأي مختلف، حيث حاول التقليل من أهمية هذا الحادث، معتبرًا أنه من الطبيعي أن يهتف الضباط الجدد باسم أتاتورك “القائد الأعلى الأبدي” للجيش التركي، رافضًا الإساءة للطلاب الخريجين، مضيفًا أنهم تدربوا في الجامعة ليشكلوا مستقبل البلاد.
وفتحت تصريحات الرئيس التركي باب جدل كبيرًا حول ملف “علمانية الدولة” والجيش التركي، بعد سنوات من سعي أردوغان لإبعاد مؤسسة الجيش عن الحياة السياسية، وإبعاد شبح الانقلابات العسكرية التي عصفت بالبلاد بعد عام 1960، وتكررت خلال عهده في عدة مناسبات، أكبرها وآخرها في يوليو/تموز 2016، والتي دبر لها تنظيم “فتح الله غولن”.
وكانت تصريحات رئيس حزب الحركة القومية، دولت باهتشلي، حليف أردوغان، متوازية مع تفسيرات أردوغان للحادثة، إذ اعتبر هتاف “نحن جنود مصطفى كمال”، سياسيًا بامتياز، “يرفعه حزب الشعب الجمهوري، والانقلابيون، بالإضافة إلى كل من يريد أن يهرب من المساءلة القانونية وأن يتمتع بنوع من الحصانة”، لافتًا إلى أن ما فعله الخريجون الجدد يعزز أمنيات خصوم تركيا، في إشارة إلى إحداثهم شرخًا سياسيًا واستقطابًا حادًا في البلاد.
ويلمح باهتشلي في تصريحاته إلى أن الحدث لم يكن بناءً على تصرف من الطلاب الخريجين، باتهام مبطن للمعارضة بأنها تقف وراء تدبيره، وهو ما يؤكده الكاتب التركي يوسف كاتب أوغلو، لموقع “نون بوست”، إذ يشير إلى أنه “لا أحد يستطيع أن يقنع الشارع التركي بأن تأدية قَسَم أتاتورك هو حدث فردي أو غير مرتب له مسبقًا”.
“أتاتورك فوق السياسة”
أما المعارضة التركية، فوجدت في تصريحات الرئيس التركي مادة دسمة لانتقاده، ودعا رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، أردوغان للتراجع عن تهديداته بفصل الخريجين المعنيين بقسم أتاتورك، وعدم استخدام القضية “لأغراض سياسية”.
كما هاجم أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، المنتمي للحزب نفسه، تصريحات الرئيس التركي حول الحادثة، مستنكرًا تفسيرها بأنها “محاولة انقلاب”، وقال في حسابه الشخصي بمنصة “إكس”: “ولاء قواتنا المسلحة وخريجينا الجدد للقائد الأعلى مصطفى كمال أتاتورك هو فوق السياسة، أراد الملازمون الشباب التعبير عن احترامهم لمؤسس البلاد بحماس كبير في أسعد وأشرف يوم لهم، هذا كل ما في الأمر”.
ورغم إعلان وزارة الدفاع التركية إجراء تحقيقات بخصوص الحدث، فإن المعارضة التركية، لا سيما حزب الشعب الجمهوري، حاولت مبكرًا إثارة الجدل حول تصريحات الرئيس التركي، مُستثمِرةً ما يُعرف بـ”إرث أتاتورك”، وفقًا للكاتب والباحث في الشؤون التركية محمود علوش.
يقول علوش لموقع “نون بوست”، إن المعارضة تحاول تأليب الشارع من خلال مزاعم تقويض “علمانية تركيا الأتاتوركية” خلال حقبة العدالة والتنمية، في مسعى منها لتعويم الاستقطاب السياسي والمجتمعي، ولزيادة الضغط على أردوغان في هذه الفترة.
وقريب من هذا الرأي، يعتقد كاتب أوغلو أن ما حدث في جامعة الدفاع الوطني، “يُعتبر في حد ذاته خرقًا للقوانين المعمول بها في هكذا مناسبات رسمية”، وبالتالي “فمن الطبيعي أن يكون هناك انفعال وردة فعل من الرئيس أردوغان”.
ويوضح كاتب أوغلو، أن موقف حزب العدالة والتنمية لا يختلف عن موقف الرئيس التركي، حيث “كان هناك امتعاض واضح من الحدث”، لكن في الوقت نفسه حاول الحزب إظهار “موقف متوازن”، لقطع الطريق أمام المعارضة من استغلال الرد الرسمي في صنع بلبلة في الشارع و”شيطنة” الحزب الحاكم.
ويبدو أن سقف تصريحات المعارضة المرتفع أوجب ردًا جديدًا من المتحدث باسم العدالة والتنمية، الذي اعتبر حديث الرئيس التركي باعتباره ” القائد الأعلى لجيوشنا وفقًا للدستور”، هو نوع من “آليات الرقابة الديمقراطية الناجحة”، التي تنطبق أيضًا على القوات المسلحة التركية.
وتابع المتحدث عمر جيليك: “سواء كانت القضية انقلابًا أو محاولة، أو عدم انضباط، أو نية أو إهمال، فهذه أمور مختلفة، سيتم تقييمها جميعًا، ومن الواضح أن مسألة قراءة القسم بطريقة مختلفة تحتاج إلى تنظيم”.
وفي محاولة من جيليك سحب ورقة استغلال المعارضة لاسم أتاتورك، فإنه اعتبر النقاش حول أتاتورك فيما أسماها حادثة “عدم انضباط”، تُخرج القضية من سياقها الأصلي.
رسائل مبطنة
وفيما لم يفسر جيليك أبعاد وغايات إثارة النقاش حول القضية، يربط كاتب أوغلو بين ما حصل وملف الانتخابات المبكرة التي تطالب بها المعارضة التركية، مدفوعةً بالنصر الانتخابي الذي حققته في انتخابات البلدية التي أُجريت في نهاية مارس/آذار الماضي، ويستبعد أن يأخذ الجدل الذي أثير حول الحادثة أبعادًا أوسع مما خرج خلال الأسابيع الفائتة.
وخلال سنوات حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية، اتسمت العلاقة بين الحكومة والجيش التركي بالحساسية والحذر، باعتبار أن مؤسسة الجيش تُعد “الحامي الأول لعلمانية الدولة”، فيما سارعت المعارضة باكرًا لاتهام الحزب الحاكم بمحاولة “تقويض” هذه العلمانية.
وفي أبريل/نيسان 2003، شدد مجلس الأمن القومي التركي على ضرورة “حماية مبادئ العلمانية”، خلال فترة توترات بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية، بينما أقر البرلمان التركي في يوليو/تموز من العام نفسه، قانونًا لإجراء “إصلاحات تاريخية” تحد من نفوذ وتدخلات الجيش بالحياة السياسية، وتبع ذلك سلسلة من الإجراءات اتخذها الرئيس التركي ضد الجيش، ردًا على محاولات دوائر داخله قلب نظام الحكم.
ورغم أن علوش يعتقد أن المؤسسة العسكرية في تركيا لم تعد تفكر بالطريقة التي كانت تفكر بها في السابق من حيث “الوصاية على السلطة السياسية”، فإن حادثة الضباط الخريجين “تشير أيضًا إلى أن عقلية الوصاية لا تزال تحظى بمكان لها داخل المؤسسة العسكرية”، وفق تعبيره.
اللافت أن الجدل الذي أحدثه “قسم أتاتورك” في جامعة الدفاع الوطني، يتزامن مع تحضيرات الحزب الحاكم لتغيير دستور البلاد، ونقاشات تدور حول بنود “علمانية الدولة” في الدستور الجديد.
ويذهب كاتب أوغلو للقول إن تصعيد المعارضة التركية في الرد على الرئيس أردوغان، ما هو إلا “رسالة غير مباشرة”، حول ضرورة عدم المساس بملف العلمانية.
ويشير إلى أن تركيا أصبحت اليوم “دولة قانون”، وبالتالي فإن الحصانة السابقة التي كانت تتمتع بها مؤسسة الجيش في السابق لم تعد موجودة في ظل سيادة القانون فوق الجميع، “ومن يحاول أن يعيد تركيا إلى عهدها السابق، فسيصطدم بالإرادة الوطنية والديمقراطية التي أسسها أردوغان والقوانين المعمول بها”، وفق قوله.