عقب انهيار الممالك الإسلامية الكبيرة في غرب إفريقيا (السنغاي، غانا، مالي) خلال القرن الـ18، بسبب الاقتتال الداخلي والغزوات الخارجية، أخذت القبائل المسلمة هناك المشعل لنشر الإسلام واستكمال الدور الدعوي الذي كانت تقوم به الممالك.
نتيجة ذلك برزت العديد من الشخصيات المجددة أمثال الشيخ عثمان دان فوديو الذي أخذ على عاتقه مهمة إعلاء الإيمان بالله والتمسك بالدين في تلك الربوع بأساليب جديدة، كالتركيز على موضوع المرأة في الإسلام واستخدامه الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية، فضلًا عن “الجهاد”.
بيئة عائلية محافظة
خلال سنة 1168 هجريًا/1754 ميلاديًا عرفت قرية “طقل” التابعة لمملكة “جوبير” شمال سكوتو – إحدى إمارات الهوسا شمال نيجيريا – ولادة طفل سيكون له الأثر الكبير في حياة المسلمين في تلك الربوع والعالم أجمع، وسُمي عثمان بن محمد، ليأخذ بعد ذلك لقب “فوديو” أي الفقيه.
يرجع أصل الشيخ عثمان بن فوديو إلى قبيلة “الفولاني” التي أسهمت بقوة في نشر الدعوة المحمدية وعودة النهضة الإسلامية للغرب الإفريقي، ويطلق الفولانيون على أنفسهم “فلبى” ويطلق عليهم شعب سيراليون وغامبيا “فله”، وشعب الولوف في السنغال يطلقون عليهم “بول” ويطلق عليهم قبائل الطوارق “أفولان” وشعب الماندليك في مالي “فله”، وفي موريتانيا يعرفون بـ”بولار”، وعند وصولهم بلاد الهوسا في القرن الـ14 أطلق عليهم الهوسا اسم “فولاني”، وعند وصولهم بلاد الكانوري “البرنو” أطلق عليهم اسم “فلاتا”.
البيئة العائلية المحافظة التي نشأ فيها عثمان بن محمد، قابلتها بيئة أخرى خارج أسوار البيت مليئة بالبدع والخرافات
نشأ عثمان في بيئة محافظة، فقد كان والده معلم القرآن والحديث في قريته، وهو ما سهل عليه الطريق، فدرس اللغة العربية وقرأ القرآن وحفظ متون الأحاديث، وساعده والده على تنمية ملكة التعمق في العلوم الدينية لما رأى فيه من حبه للدين وخدمته، وفق روايات عديدة.
وعرف عن “الفلان” قديمًا تمسكهم باللغة العربية بحكم الدين واعتزازهم بها إلى حد العبادة، ويعود منشأ العلاقة بين الفولانيين واللغة العربية إلى “البُعد العقدي” حيث كان الفلانيون يستخدمون العربية في كل المصطلحات ذات الأبعاد التعبدية لنقلها وإيصالها إلى الجمهور، كما كانوا يكتبون تراثهم الفقهي والتاريخي والأدبي بلغة البولارية بحرف عربي.
ونادرًا ما تجد أحد أبناء هذه المجموعة لا يتكلم اللغة العربية، رغم تمسكه بأصالته وثقافته الفُلانية لكنه يشعر بأن العربية لغته الثانية، وتحرص قومية الفولان على أن يتلقى أبناؤها العربية في الصغر، باعتبار أن للأمر علاقة بالتربية الدينية وغرس الأخلاق الحميدة، ويُغذي هذا الاهتمام انتشار خلفية محافظة في أوساط الفلان، ترى في تعلم اللغة العربية والإلمام بها شرطًا لمعرفة تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والتفقه في أحكامه.
انتشار البدع والعادات الوثنية
هذه البيئة العائلية المحافظة التي نشأ فيها عثمان بن محمد، قابلتها بيئة أخرى خارج أسوار البيت مليئة بالبدع والخرافات، امتزج فيها الإسلام بالعادات الوثنية، فقد كانت العادات القبلية تحكم حياة المسلمين في تلك الربوع من القارة الإفريقية بعد تراجع الدعوة.
الشيخ عثمان دان فوديو
فمع أفول نجم الممالك الإسلامية هناك، كان البديل الماثل هو النكوث عن الإسلام إلى الديانات التقليدية، وفي أحسن الفروض تكون المزاوجة بين الإسلام وتلك الديانات هي الطريق إلى خلط يبقي من الإسلام اسمه ويمحو معالمه وأثره، مثلما حصل في مناطق عدة من العالم.
في تلك الفترة أضحى الإسلام في المعتقد الشعبي العام مجرد طقوس وممارسات تبعد كل البعد عن صميم الدين، فانتشرت الخرافات والبدع، وانغمس كثير من المسلمين في ممارسات فاسدة وجاهلية، ولم تقتصر هذه الممارسات على المجال الخاص أي حياة الفرد والعائلة، ولكنها امتدت لتشمل المجال العام أي في إطار المعاملات والحياة العامة.
التدين والقوة.. أبرز خصاله
يقول ابنه محمد بلو في كتابه “إنفاق الميسور في بلاد التكرور“: “نشأ عفيفًا متدينًا، انتهت إليه الأمانة وضربة إليه اباط الإبل شرقًا وغربًا، وهو علم العلماء ورافع لواء الدين، أحيا السنة وأمات البدعة ونشر العلوم وكشف الغموم، بهر علمه العقول، جمع بين الحقيقة والشريعة، فسر القرآن سنين عديدة، يحضره كبار العلماء والصلحاء عالمًا بقراءته وفنونه من بيان وأحكام وناسخ ومنسوخ مع إمامته في الحديث وفقهه في غريبه ورجاله وفنونه من بيان وأحكام وناسخ ومنسوخ”.
وأضاف “صحيح النظر، متدرب في تعليم الغوامض، متعبد ناسك، تصدر للتدريس وبث العلم فملأ القطر المغربي معارفًا وتلاميذًا، يقف أهل زمانه عندما يقول، وكان حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى والفتوي، معظّمًا عند الخاصة والعامة، مجددًا على رأس هذا القرن، بليغًا خطيبًا شاعرًا فصيحًا، فاضلًا حسن الخلق جميل العشرة كريم الصحبة محققًا شديد العارضة، مقطوعًا بولايته وقطبانيته”.
انتشار الدعوة وتأسيس الدولة
عقب عودته من مكة المكرمة وأدائه مناسك الحج بدأت الدعوة “العثمانية”، فأخذ عثمان”في دعوة أهله وإخوانه إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والشرك، فاستجاب لدعوته كثير من أبناء قريته، فأسس حركة دعوية أطلق عليها اسم “الجماعة”.
ما إن تأسست الجماعة، حتى بدأت الدعوة تنتشر شيئًا فشيئًا بين القبائل في غرب القارة الإفريقية، ومختلف الفئات من “الهوسا” إلى “الطوارق” و”الزنوج”، دون أن ننسى قبيلته الأم “الفولاني” التي أصبحت عماد الدعوة وقوتها الضاربة.
لإن لقيت دعوته رواجًا بين العامة، فقد ناصبه ملوك الهاوسا العداء، ما دفعه للهجرة إلى مكان يدعى “قد” في أطراف إمارة جوبير وسار معه أنصاره، وبدأ الحرب ضد الحكام فانتصر على ملك جوبير ويدعى “ينف” في معركة “كنو”.
إلى جانب موضوع حقوق المرأة، عمل الشيخ عثمان بن فودي على استخدام الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية
هذا الانتصار مهد له الطريق للقضاء على إمارة جوبير، حيث دخل عثمان بعدها بسنوات قليلة عاصمة المملكة مدينة “القاضاوا”، ثم فتح بقية ممالك الهاوسا، كما فتح بورنو والأداماوا، واتخذ مدينة “سوكوتو” في أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا مركزًا لدعوته.
بعد إحكام السيطرة على ممالك الهاوسا، بدأ عثمان بن فودي في ضم شعوب المنطقة ككل تحت رايته، فضم إليه عدة شعوب وقبائل كانت متناثرة ومختلفة فيما بينها، وبدأ بالتوسع في ناحيتي الغرب والجنوب الغربي، حيث قبائل “اليورومبا” الكبيرة والكاميرون وبلاد الماسنيا (مالي)، حتى أصبحت مملكته أقوى مملكة إسلامية في إفريقيا وقتها.
حقوق المرأة في الإسلام
خلال دعوته ركز الشيخ عثمان بن فودي على موضوع المرأة في النموذج الإسلامي باعتبارها إحدى ركائز دعوته الإصلاحية، وبيّن الفرق بين المرأة في الإسلام وما تتمتع به في هذا الدين الحنيف، والمرأة في النموذج الجاهلي المتخلِف.
وقد كان الشيخ سابقًا لعصره حيث عمد إلى تأليف رسالة في الحث على تعليم المرأة، أسماها “كتاب تنبيه الإخوان على جواز اتخاذ المجلس لتعليم النسوان” (مطبوع في سوكوتو بطريقة التصوير، دون تاريخ)، ودافع فيه عن حق المرأة في تعلم شؤون دينها.
بعد عقود من الدعوة والجهاد في سبيل الله، انتهت حياة الشيخ عثمان بن فودي، وكان ذلك سنة 1233 هجريًا/1818 ميلاديًا
وشكلت هذه القضية تحديًا كبيرًا للأفكار السائدة في تلك المجتمعات حينها، من خلال دعوة المرأة إلى التحرير من الاستعباد الحقيقي الذي تعيشه في ظل الوضع السائد، ومنحها حقها الذي ضمنه لها الدين الإسلامي، الأمر الذي لقي رفضًا وصدًا كبيرًا.
نتيجة ذلك انضم إليه الكثير من النسوة اللاتي أسهمن في حركة النهوض التي قادها الشيخ عثمان، لا سيما ابنته أسماء التي كانت ضمن عالمات تخرجن وتتلمذن على أيدي الشيخ، وتولت وغيرها تدريس النساء في نظام مزدهر، وسميت مدارس ومنظمات نسائية إسلامية كثيرة باسمها تكريمًا لها.
وقد كتبت أسماء عددًا كبيرًا من القصائد من أجل تسهيل تعلم قواعد الفقه وأساسيات التجويد وما إلى ذلك لكي يرتقين فكريًا وماديًا، بعد فترة قليلة كثر عدد اللواتي يقصدنها إلى أعداد هائلة من النساء، فبدأت بتدريب النساء على تعليم ما تعلمن، ثم بعثت بهن إلى قرى متفرقة للقضاء على أمية النساء، وتعليم القرآن وأصول الدين والتوحيد والفقه والحديث واللغة العربية، لمحاربة البدع والشعوذة.
الشعر والموشحات الدينية.. طريق لكسب العقول والقلوب
إلى جانب موضوع حقوق المرأة، عمل الشيخ عثمان بن فودي على استخدام الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية المعروفة في تلك البلاد والمحببة إلى القلوب، لكسب ود الأهالي هناك ودفعهم لدخول الإسلام والعمل بتعاليمه الحميدة.
وتذكر كتب التاريخ أن الشيخ عثمان كان مبدعًا في تأليف العديد من القصائد والموشحات ذات المضمون الأخلاقي والعلمي والإرشادي الراقي باللغات المحلية والعربية، لرفع مستوى الوعي الاجتماعي، مستعينًا بالتربية الصوفية التي نشأ عليها.
استخدام الشعر والموشحات الدينية كان في بداية الدعوة، وكان له الأثر الكبير في انضمام الآلاف إلى جماعة “الشيخ الفقيه”، فقد اختار عثمان بن فودي في تلك الفترة الدعوة القولية دون المواجهة المباشرة مع حكام المنطقة الخارجين عن الإسلام.
بعد عقود من الدعوة والجهاد في سبيل الله انتهت حياة الشيخ عثمان بن فودي، وكان ذلك سنة 1233 هجريًا/1818 ميلاديًا، وقد أعاد المجد للإسلام في غرب إفريقيا بعد أن أفل بريقه، وترك وراءه مملكة قوية يمتد سلطانها على مساحات شاسعة من غرب إفريقيا.