أعلنت الدوحة ضخ حزمة جديدة من الاستثمارات المباشرة بالسوق الألمانية تقدر بنحو 10 مليارات يورو (11.64 مليار دولار) خلال السنوات الـ5 المقبلة، حسبما أشار أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال كلمته في افتتاح منتدى قطر وألمانيا للأعمال والاستثمار الذي عقد في برلين أمس الجمعة
أمير قطر أوضح أن ضخ هذه الاستثمارات يأتي تعبيرًا عن ثقة بلاده في قوة الاقتصاد الألماني وأهمية الاستثمار فيه، ولتكون إضافة أخرى للاستثمارات القطرية الناجحة في ألمانيا، وتعزيزًا لحجم التجارة بين البلدين التي زادت الضعفين خلال الفترة الأخيرة لتصل نحو 2.8 مليار يورو.
الاستثمارات القطرية الجديدة في ألمانيا تأتي بعد أيام قليلة من حزمة استثمارات أخرى تقدر بقيمة 15 مليار دولار أمريكي، أعلنت الدوحة ضخها في السوق التركية خلال الفترة المقبلة في أعقاب محادثات جمعت بين أمير قطر ونظيره التركي، في أنقرة منتصف أغسطس/آب الماضي.
نجحت التحركات القطرية من خلال تنويع استثماراتها وتفعيل سبل التعاون مع عدد من القوى الإقليمية في مختلف دول العالم في كسر حالة الحصار المفروضة عليها منذ الـ5 من يونيو/حزيران 2017 بصورة كبيرة، كما أجهضت مخطط تركيعها الذي كان يعتمد على الضغط الشعبي جراء الفشل في مواجهة تبعات محاصرتها جوًا وبرًا وبحرًا، بخلاف إفشال السيناريو الذي كان يأمله جيرانها الخليجيون (السعودية – الإمارات – البحرين) الرامي إلى تقديم التنازلات السياسية قربانًا لرفع الحصار المفروض.
ميركل: الأزمة الخليجية الراهنة تبرز أهمية وجود مجلس تعاون خليجي قادر على العمل دون قيود، فالأمن والاستقرار أمران لا غنى عنهما من أجل الازدهار الاقتصادي
ألمانيا ترحب
خلال كلمته شدد تميم على أن تنظيم مثل هذه المنتديات يأتي في إطار اهتمام قطر “بترسيخ وتعزيز الشراكة مع ألمانيا في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها لمتابعة مسيرتنا التنموية التي تتمثل بتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030 بما فيها التنويع الاقتصادي والتحول نحو الاقتصاد المعرفي”.
وعلى صعيد آخر فإن المشاريع التنموية في قطر ستوفر فرصًا كبيرة لعشرات الشركات الألمانية الكبرى لزيادة مساهمتها في تطوير الاقتصاد القطري في عدد من المجالات على رأسها قطاع البنية التحتية والإنشاءات، بخلاف التعليم والبحوث والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، علاوة على ذلك فقد تم الاتفاق على فتح جامعة ألمانية في الدوحة تحت إشراف وإدارة جامعة ميونيخ التقنية بالتعاون مع القطاع الخاص القطري.
وفي المقابل رحبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالاستثمارات القطرية، معلقة على حزمة الاستثمارات الجديدة “يسعدنا هذا كثيرًا.. ستجدون شريكًا كفئًا وشروطًا عامة جديرة بالثقة”.
توقع الكثير من المحللين في أعقاب الحصار الذي فرضته بعض الدول الخليجية والعربية على قطر في الـ5 من يونيو/حزيران 2017 أن الاقتصاد القطري سينغلق إلى الداخل بصورة كبيرة في أعقاب حالة الهلع التي سعى البعض لتصديرها
ميركل وخلال كلمتها بالمنتدى أكدت عمق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، لافتة إلى أن العلاقات الاقتصادية ليست طريقًا في اتجاه واحد، موضحة أنها تجد أيضًا فرصًا جيدة لتوسع الاستثمارات الألمانية في البنية التحتية والقطاع الصناعي بقطر، وقالت: “أرى أن قطاع الطاقة على وجه الخصوص يتمتع بإمكانات هائلة”، ممثلة على ذلك بإنتاج الغاز المسال.
بجانب الاقتصاد.. لم تغب الأزمة الخليجية عن المحادثات المبرمة بين زعيمي البلدين، إذ عبرت ميركل عن أسفها للأزمة في منطقة الخليج، وقالت إن هذه المنطقة بحاجة إلى بنية أمنية من أجل حل النزاعات وتفاديها في المستقبل، كما شددت على أن بلادها ليست طرفًا بهذا النزاع، لكنها تدعم كل الجهود البناءة من أجل تسوية الأزمة خصوصًا جهود دولة الكويت، معتبرة “الأزمة الخليجية الراهنة تبرز أهمية وجود مجلس تعاون خليجي قادر على العمل دون قيود، فالأمن والاستقرار أمران لا غنى عنهما من أجل الازدهار الاقتصادي”.
جدير بالذكر أن موقف ألمانيا من الأزمة الخليجية انحاز منذ بدايتها إلى الحل الدبلوماسي وضرورة الجلوس على مائدة المفاوضات وتشجيع ودعم جهود الوساطة المبذولة لإنهاء الخلاف بين الأشقاء الخليجيين، وهو ما أثار حفيظة بعض دول الحصار وقتها، غير أن برلين حرصت على طول خط الأزمة على التمسك بموقفها، وهو ما عكسته التصريحات الأخيرة لميركل.
https://www.youtube.com/watch?v=aH4xD81Whno
دبلوماسية تنويع المصادر
توقع الكثير من المحللين في أعقاب الحصار الذي فرضته بعض الدول الخليجية والعربية على قطر في الـ5 من يونيو/حزيران 2017 أن الاقتصاد القطري سينغلق إلى الداخل بصورة كبيرة في أعقاب حالة الهلع التي سعى البعض لتصديرها وعكست النوايا الحقيقية وراء افتعال الأزمة منذ ساعاتها الأولى.
الإمارات والسعودية والبحرين على وجه التحديد سعوا بكل قوة مستغلين نفوذهم السياسي والاقتصادي لفرض طوق من التشديد وتضييق الخناق على القطريين، في الداخل والخارج على حد سواء، وصلت في أحايين كثيرة إلى حد ابتزاز بعض الدول للانضمام لمعسكر الحصار.
الحرب المعلنة على الشعب القطري حينها كانت محكمة للغاية – وفق تصور الكثير من المحللين – إذ بدأت بإغلاق كل المنافذ الجوية والبرية والبحرية معها، تم تعزيزها تباعًا بمعركة اقتصادية أخرى على العملة القطرية، وصولًا إلى مرحلة التخطيط لعزل قطر جغرافيًا عبر تحويل منفذ سلوى الحدودي إلى قناة مائية، كما كشفت مراسلات سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، بحسب تسريبات “ويكيليكس”.
غير أن الأمور جاءت عكس ما تشتهي سفن دول الحصار، إذ استطاعت الدوحة تجاوز هذا المخطط الذي فرضه عليها جيرانها عبر عدد من الإجراءات الديناميكية السريعة التي أظهرت قدرة كبيرة على التعاطي مع حجم التحديات الكبرى، على رأسها الخروج عن الإطار الجغرافي الضيق نحو آفاق رحبة من الانفتاح على الأسواق العالمية وتنويع الاستثمارات الخارجية مع كل القوى الدولية والإقليمية، في خطوة أثارت وقتها الكثير من التساؤلات.
فلم تكد تمضي أسابيع قليلة من بدء مخطط التركيع حتى أطلقت قطر سلسلة خطوات ومبادرات لإبطال مفعول الحصار وضمان تزود البلاد بكل احتياجاتها، سواء الاستهلاكية أو المتعلقة باستكمال المشاريع الكبرى، وفي مقدمتها مشاريع مونديال 2022، ولم تقف عند هذا الحد، بل دفعت قاطرة الشراكات مع بعض الدول إلى آفاق غير مسبوقة ولم تكن حتى قبل الحصار، على رأسها سلطنة عمان والكويت وتركيا وإيران وبلدان آسيوية أخرى بخلاف تسريع خطى الشراكة مع أوروبا والولايات المتحدة وإفريقيا.
رجل الأعمال والمدير التنفيذي لمجموعة شركات شاهين التجارية محمد المهندي كشف أن الاستثمارات القطرية الأوروبية بعد الحصار شهدت نموًا متزايدًا خاصة في بريطانيا، يتقدمها الاستثمارات العقارية التي تفوق الـ20%، كاشفًا أن الحصار تحول من نقمة إلى نعمة، حيث زادت الاستثمارات القطرية في الخارج ولم تتوقف أو تقل كما كان يتوقع أو يتمنى الآخرون، وهو ما تجسده عشرات الاتفاقيات المبرمة بين رجال أعمال قطريين وشركات أجنبية في قارات العالم المختلفة.
نجحت الدبلوماسية القطرية في تعديد مصادرها الاقتصادية والسياسية في آن واحد
الأرقام لا تكذب
لم تكن ألمانيا المحطة الأولى لقاطرة الاستثمارات القطرية الخارجية ولن تكون الأخيرة كذلك، فرغم احتلال الدوحة الصدارة في حجم الاستثمارات الشرق أوسطية بألمانيا بإجمالي يقدر بـ35 مليار يورو، معتبرة بذلك الشريك الأول لها، فإن الأرقام الخاصة بالدول الأخرى ربما تكون أكثر كشفًا لمعدلات النمو القطرية خلال العام الأخيرة خصيصًا.
الشيخ أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني وزير الاقتصاد والتجارة القطري في مقابلة له مع وكالة “الأناضول” يوليو/تموز الماضي، كشف أن بلاده واصلت تنفيذ سياساتها الاقتصادية الهادفة لدعم نمو الاقتصاد المحلي بالاعتماد على القطاعات غير النفطية، لافتًا إلى أن الاكتفاء الذاتي المدعم بخطط تنويع الاقتصاد سيكون علامة فارقة مقارنة باقتصادات المنطقة بحلول 2030، على الرغم من التحديات الإقليمية والعالمية.
ابن جاسم أضاف أن بلاده حافظت على معدلات نمو متوازنة على الرغم من العديد من التحديات، وحقق الناتج المحلي الإجمالي نموًا بنسبة 9.4% في الربع الأخير من 2017 (بالأسعار الحاليّة)، حيث ارتفع إلى 222 مليار دولار مقارنة بـ218 مليار دولار في 2016، بنسبة نمو سنوي بلغت 1.6% (بالأسعار الثابتة)، فيما بلغت مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي بالأسعار الثابتة خلال 2017 نحو 48%، فيما تجاوزت مساهمة القطاع غير النفطي 52%.
تصدر المواطن القطري قائمة الأعلى نصيبًا من الثروة عربيًا خلال العام الحاليّ والثاني عالميًا بعد النرويج بحسب البنك الدولي
ووفق الأرقام الرسمية التي كشفها الوزير القطري فقد ارتفعت التجارة الخارجية لبلاده بنسبة 16% العام الماضي إلى 103 مليارات دولار، مقارنة بـ89 مليار دولار في 2016، وسجلت الصادرات ارتفاعًا بنسبة 18% بقيمة 67 مليار دولار في 2017، مقارنة بـ57 مليار دولار في 2016، فيما شهد فائض الميزان التجاري نموًا بنسبة 49.9%، وذلك من 25.18 مليار دولار في 2016 إلى 37.75 مليار دولار في العام الماضي.
وبحسب تقرير مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2017 – 2018، فقد تصدرت قطر أكبر اقتصادات العالم محتلة المرتبة 20 عالميًا في محور البيئة الاقتصادية، والأولى عالميًا في محور استقرار التضخم، والثالثة عالميًا في المشتريات الحكومية من منتجات التكنولوجيا المتقدمة، كذلك في مؤشر القوى العاملة وكفاءة القرارات الحكومية، فيما احتلت المرتبة الرابعة عالميًا في مؤشر الشفافية.
إلى جانب ذلك فقد توقع البنك الدولي أن يحقق الاقتصاد القطري نموًا بنسبة 2.8% خلال 2018، وأن يزيد بمتوسط 3% خلال عامي 2019 و2020، بعدما غيرت وكالة موديز لخدمات المستثمرين نظرتها المستقبلية لاقتصاد قطر من سلبية إلى مستقرة إثر اعتماد تصنيفها الائتماني عند (AA3)، فيما تصدر المواطن القطري قائمة الأعلى نصيبًا من الثروة عربيا خلال العام الحاليّ والثاني عالميًا بعد النرويج بحسب البنك الدولي.
وفي المجمل فقد أثبتت قطر وعلى مدار 15 شهرًا منذ بدء الحرب الاقتصادية المعلنة ضدها قدرتها الدبلوماسية الكبيرة في تخطي تداعيات الحصار والانقلاب عليه بتحويله وفق ما أشار رجال أعمال قطريون من نقمة إلى نعمة، استطاع خلالها القطريون تنويع مصادر اقتصادهم بصورة ما كانت ستكون لولا الظرف الذي فرضه الحصار، ومن ثم تغيير خريطة مواقف الدول وتوجهاتها حيال الأزمة المفتعلة.
ولعل إعادة قوى دولية كالولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول إفريقيا النظر في مواقفها المعلنة سابقًا حيال الأزمة الخليجية، ودخول الدوحة ببعض التحالفات وتعزيز قدراتها العسكرية، آخرها تدشين قاعدة تميم الجوية أكبر دليل على نجاحها في كسر الحصار بصورة تجاوزت سقف المتوقع لدى الكثير من المقربين من دوائر صنع القرار هنا وهناك.