بدت مدينة مارسيليا الساحلية، وكأنها المكان الأمثل لعقد قمة فرنسية ألمانية لم تخف قلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من قضية اللجوء والهجرة وتنامي التيار القومي في أوروبا بشكل عام، وفي بلديهما بشكل خاص، وخصوصًا أن الانتخابات الأوروبية على الأبواب، وأيضًا مع اقتراب انعقاد قمة أوروبية ترأسها النمسا.
ووسط تراجع واضح في شعبية ماكرون وميركل وتحديات داخلية وأوروبية متفاقمة، تبدو الأسئلة المتسارعة جلية: كيف يريد الطرفان تعزيز دعائم التحالف بينهما؟ وهل ينجحان دون الاصطدام بمعارضة داخلية وتحفظات أوروبية؟ وهل اقتراح خطة مارشال لدول المنشأ تكفي لوقف الأزمات في الاتحاد الأوروبي؟
تحديات بالجملة
في محاولة لتعزيز تحالفهما التقى الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية، يوم الجمعة، في قمة تتمحور حول اللجوء والهجرة، وهما ملفان يريد ماكرون وميركل تحقيق تقدم بشأنهما على المستوى الأوروبي.
لقاء يأتي في ظل مشاكل داخلية وأوروبية بالجملة، يواجهها الطرفان، فميركل التي تحكم منذ 2005 تواجه مزيدًا من الضعف في تحالفها على إثر مواجهة بخصوص الهجرة مع بعض الأحزاب المعارضة، لا سيما الحزب البافاري المحافظ الذي يرأسه سيهوفر، الذي صب الزيت على نار الجدل الدائم بشأن اللاجئين.
شهدت مدينة مارسيليا الفرنسية تظاهر عدد من المحتجين على سياسة أوروبا في مجال الهجرة واللجوء
ولعل أبرز هذه التحديات أيضًا، تنامي نفوذ الشعبويين قبل الانتخابات الأوروبية المزمع إجراؤها في شهر مايو القادم، فألمانيا منشغلة حاليًّا بمظاهرات معادية للأجانب، نظمها اليمين الشعبوي، كان أكبرها في مدينة كيمنتس شرق البلاد، وهي مظاهرات استفاد منها حزب البديل من أجل ألمانيا الذي أضحى يحتل المركز الثاني بعد حزب المحافظين بزعامة ميركل.
كما أن المستشارة الألمانية لم تكد تهدأ من مشاكل وزير داخليتها هورست سيهوفر رئيس الحزب البافاري المحافظ بشأن الهجرة، حتى عاد وانتقد سياستها معتبرًا أن “الهجرة أم المشاكل في ألمانيا”، مؤكدًا أنه يتفهم التظاهرات ضد المهاجرين في كيمنتس التي تخللتها مواجهات وسقوط عدد من الجرحى.
باريس هي الآخرى تسعى لمقاومة محاولات الانكفاء الشعبوي الأوروبي، خصوصًا أن وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان المصممان على إغلاق حدود بلديهما بإحكام، قد حددا الرئيس الفرنسي كخصم رئيسي لهما، وهو دور أقر به بسرعة.
يظهر الرئيس الفرنسي الشاب وهو يرزح تحت أوضاع ضاغطة، لعل أحدثها استقالة وزيري الرياضة والبيئة في حكومته
وقد ناشد طاقم السفينة “إكواريوس” الراسية في مارسيليا ماركون وميركل إيجاد حل ملزم لقضية اللاجئين، وكان السفينة قد تنقلت دون جدوى بين الموانئ الأوروبية، بعد أن رفضت إيطاليا استقبال أي لاجئين جدد عبر موانيها.
وداخليًا، يظهر الرئيس الفرنسي الشاب وهو يرزح تحت أوضاع ضاغطة، لعل أحدثها استقالة وزيري الرياضة والبيئة في حكومته، وهما الأكثر شعبية، في وقت وصلت فيه شعبية ماكرون لمستوى متدنٍ بعد نتائج اقتصادية مخيبة وتراجع مستوى النمو الاقتصادي.
وتجدر الإشارة إلى رمزية مارسيليا التي تحتضن هذه القمة، إذ استوعبت هذه المدينة الفرنسية موجات من الهجرة عبر المتوسط، وتُعرف بطابعها الاجتماعي المتعدد الأعراق، بينما تشهد أوروبا صعودًا غير مسبوق لليمين المتطرف.
وبالنسبة للذاكرة الفرنسية، فإن مارسيليا هي المدينة التي حقق فيها رمزا الشعبوية والتطرف السياسي اليميني واليساري في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الماضية أعلى مستوياتهما، وهما مارين لوبان عن الجبهة الوطنية، وجان لوك ميلونشون عن “فرنسا المتمردة”.
لهذه الأسباب، شهدت مدينة مارسيليا الفرنسية تظاهر عدد من المحتجين على سياسة أوروبا في مجال الهجرة واللجوء، بناء على دعوة من حزب فرنسا المتمردة الذي يرأسه جون لو ميلانشون، وذلك على هامش القمة التي تجمع كل من ماكرون وميركل.
تأتي قضية اللجوء والهجرة على رأس الملفات
هروب إلى الأمام
يرمي الرئيس الفرنسي من وراء هذه القمة إلى تعزيز ما يسميه “الهلال التقدمي” في مواجهة القوميين الذين يزحفون إلى أوروبا، ووصلوا إلى قلب الحكومة الألمانية، ليجتمع الطرفان على رغبة في نزع فتيل التوتر داخل الأسرة الأوروبية، فيما يتعلق بمراقبة مراكز اللجوء وتسريع البت في طلبات اللجوء والالتزام بتوزيع اللاجئين، وفرض عقوبات مالية إن لزم الأمر.
الثنائي الألماني الفرنسي بحثا الخطة التي ستُعرض على القمة الأوروبية المقبلة في النمسا، حيث ستتضمن الخطة المقترحة لتدفق اللاجئين الحد من وصولهم ومنح مساعدات غير مسبوقة للدول الإفريقية التي ينطلقون منها ودول عبورهم.
والفكرة الرئيسية لهؤلاء القادة هي تقديم مساعدات مالية مهمة إلى دول المنشأ أو العبور الإفريقية التي ستقوم في المقابل، كما حدث مع تركيا وليبيا، بالحد من مرور المهاجرين إلى أوروبا، ووصل الأمر برئيس وزراء بلجيكا شارل ميشال إلى الحديث عن “خطة مارشال لإفريقيا”.
ورغم أنه ليس اللقاء الأول بينهما، فإن التعويل على هذا اللقاء أكبر بكثير من اللقاءات السابقة، بغية الخروج بوسائل ناجعة بالإمكان استخدامها للخروج إلى هدف مشترك، ألا وهو ملف الهجرة وتمهيد الطريق نحو أوروبا موحدة.
رأت وسائل إعلام مختلفة أن اللقاء يبدو وكأنه هروب إلى الأمام، في وقت يعاني فيه الزعيمان من انخفاض واضح في شعبيتهما داخل بلديهما
في المقابل، رأت وسائل إعلام مختلفة أن اللقاء يبدو وكأنه هروب إلى الأمام، في وقت يعاني فيه الزعيمان من انخفاض واضح في شعبيتهما داخل بلديهما، وذلك يتعلق بملف الهجرة وإصلاح منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.
ويريد ماكرون أن يبعث برسالة مفادها أن باريس وبرلين مجندتان من أجل المعركة الأوروبية، وأنه يُجري هذه القمة بتفاهمات قابلة للتنفيذ عمليًا، فهو يعمل على دعم المستشارة الألمانية لمقترحاته الطموحة من أجل إصلاح منطقة اليورو، وهي المقترحات التي عارضتها دول أعضاء وساسة ألمان.
ويسعى ماكرون أيضًا إلى إخراج حركة سياسية تقدمية في أوروبا قبل نهاية العام تتمحور حول حزبه إلى الأمام، وكما فعل في فرنسا، يريد إعادة تشكيل المشهد السياسي الأوروبي، ويعول في ذلك على انقسام في الحزب الشعبي الأوروبي (أكبر أحزاب البرلمان الأوروبي ويضم الأحزاب المحافظة من المسيحيين الديموقراطيين بقيادة أنجيلا ميركل إلى الحزب القومي الذي يقوده رئيس الوزراء المجري).
وبشكل عام، يريد ماكرون وحلفاؤه إدارة منسقة للمهاجرين تترك الباب مفتوحًا للاجئين باسم واجب استقبالهم، لكن أكثر فاعلية لطرد المهاجرين الذين باتوا مرفوضين في كل مكان لأسباب اقتصادية، لكن خصومه يرون إغلاق حدود البلاد بإحكام.
منافسة أم تعاون؟
اعتادت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على تولي القيادة في أوروبا طوال سنوات، فلا أحد كان ينازعها في ذلك، وعقب الفوز الانتخابي لدونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرتها بعض الصحف الناطقة بالإنجليزية “قائدة العالم الحر”، لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدأ ينافسها في هذا الدور، علمًا أن الاثنين يحتاجان إلى بعضهما البعض.
يبدو أن ماكرون بدأ ينافس ميركل على قيادة أوروبا
كان دور ميركل ساريًا قبل بضعة أشهر، لكن منذ الانتخابات التشريعية في أيلول/سبتمبر الماضي وجب على ميركل مع حزبها تقبل الخسارة الكبيرة في الأصوات، فالمستشارة التي تدير شؤون الدولة مؤقتًا لم تنجح في تشكيل حكومة جديدة، ولم تعد ميركل الشخصية الأولى في أوروبا موجودة للوهلة الأولى، ليظهر في الجانب الآخر إيمانويل ماكرون كنجم جديد في الأفق السياسي، فمجلة “تايم” الأمريكية التي وصفت ميركل قبل فترة وجيزة “بسيدة أوروبا”، تصف الآن ماكرون “القائد المستقبلي لأوروبا”.
ومثلما يتمتع بالقوة على صعيد السياسة الداخلية، يسيطر ماكرون أيضًا بكفاءة على الساحة الدولية، فبعد مأدبة عشاء لامعة مع ترامب فوق برج إيفيل وبعد استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فيرساي، جاء تنظيم مؤتمر المناخ الدولي في باريس، ومبادرات بشأن سياسة إفريقيا والآن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
رغم اعتبار فوز ماكرون العام الماضي بانتخابات الرئاسة الفرنسية على منافسته مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية انتصار للإنسانية ضد كراهية الأجانب، فإن الرئيس الفرنسي يظهر الآن أكثر صرامة مما كان يتوقعه الكثيرون فيما يتعلق بمسألة الهجرة
“إنه يؤدي مجددًا بقوة الدور التقليدي للدبلوماسية الفرنسية التي تلتزم على مستوى العالم وتنطلق من مبدأ أن كل القضايا في العالم تهم فرنسا التي يجب عليها المشاركة في ذلك”، هكذا يصف شتيفان زايدندورف نائب مدير المعهد الألماني الفرنسي في لودفيغسبورغ التوجه الجديد للسياسة الخارجية لماكرون، ويضيف أن ماكرون لا ينسى أبدًا في ذلك أنه “يتمتع بثقل عندما يظهر كأوروبي”.
ورغم اعتبار فوز إيمانويل ماكرون العام الماضي بانتخابات الرئاسة الفرنسية على منافسته مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية انتصار للإنسانية ضد كراهية الأجانب، فإن الرئيس الفرنسي يظهر الآن أكثر صرامة مما كان يتوقعه الكثيرون فيما يتعلق بمسألة الهجرة، فهو يخطط لسن قوانين جديدة للهجرة واللجوء في البلاد، تهدف أساسًا إلى تشديد شروط الهجرة والتسريع من وتيرة ترحيل طالبي اللجوء المرفوضة طلباتهم.
ومنذ أيام قليلة، اختتم الرئيس الفرنسي في لوكسمبورغ جولة أوروبية سمحت له بلقاء سبعة من القادة الأوروبيين خلال سبعة أسابيع خلال “مشاورات أوروبية” أقرب إلى اجتماعات موسعة كما حدث الخميس الماضي في لوكسمبورغ.
ففي هذا البلد المؤمن بأوروبا، تناول ماكرون الغداء مع رؤساء حكومات بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في قصر بورغلينستر الصغير، وأكد القادة الأربع تكتلهم دفاعًا عن أوروبا “تقدمية” ضد “الانكفاء القومي”، وهو فارق تريد باريس التركيز عليه قبل الانتخابات الأوروبية التي ستجري في مايو/أيار المقبل.
وأيًا كان من يقود أوروبا في هذه الفترة، فإن النتائج قد لا تختلف كثيرًا طالما أن السياسات مشتركة، ففي نهاية السبعينيات كان الأوروبيون يرحبون بقوارب اللاجئين، أما اليوم وبسبب اشتداد موجات اللجوء وتنامي تيارات أقصى اليمين تغيرت العقليات وأصبح بعض الناس لا يمانعون في ترك اللاجئين بعرض البحر.