أعلن “حزب الله” اللبناني اغتيال القيادي العسكري، إبراهيم عقيل (المعروف باسم إبراهيم تحسين)، الرجل الثاني في الحزب والذي خلف فؤاد شكر، رفقة أكثر من 15 مقاتلًا، إثر استهداف صاروخي نفذته طائرة مسيّرة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، الجمعة 20 سبتمبر/أيلول 2024، وسط تصعيد إسرائيلي متواصل وتوقعات باتساع رقعة الصراع على الجبهة الشمالية.
ونعى الحزب عقيل في بيان رسمي قال فيه: “التحق اليوم القائد الجهادي الكبير الحاج إبراهيم عقيل بموكب إخوانه من القادة الشهداء الكبار بعد عمر مبارك حافل بالجهاد والعمل والجراح والتضحيات والمخاطر والتحديات والإنجازات والانتصارات”، وذلك قبل دقائق معدودة من نعيه القيادي أحمد محمود وهبي (الحاج أبو حسين سمير) الذي كان رفقة عقيل في اجتماع فرقة الرضوان المستهدفة.
وبحسب بيان مفصل للحزب نشره على تليغرام فإن وهبي “شغل العديد من المسؤوليات القيادية في وحدة التدريب المركزي بالحزب حتى العام 2007، وتولى مسؤولية التدريب في قوة الرضوان حتى العام 2012، ثم تولى مسؤولية وحدة التدريب المركزي حتى العام 2014″، كما قاد “العمليات العسكرية لقوة الرضوان على جبهة الإسناد اللبنانية منذ بداية معركة طوفان الأقصى وحتى مطلع العام 2024″.
ويعد هذا هو الهجوم الثالث الذي تشنه قوات الاحتلال على الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الرئيسي لـ”حزب الله” في لبنان، خلال أقل من عام، لتسقط به كل الخطوط الحمراء مع الحزب، الأول كان في 2 يناير/كانون الثاني الماضي، وأسفر عن اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، والثاني في 30 يوليو/تموز الماضي، واستهدف القيادي البارز في الحزب فؤاد شكر.
وتشهد الجبهة اللبنانية الإسرائيلية تصعيدًا خطيرًا خلال الأيام الماضية، في أعقاب سلسلة التفجيرات التي تعرضت لها أجهزة الاتصالات في أنحاء بيروت خلال يومي الثلاثاء والأربعاء 17 و18 سبتمبر/أيلول الجاري وأسفرت عن سقوط 37 لبنانيًا وأكثر من 3250 مصابًا، وسط مخاوف من نشوب موجة أشد ضراوة من التصعيد في ظل ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بأن الحرب مع “حزب الله” دخلت مرحلة جديدة.
عقيل.. قائد قوة الرضوان
يعد عقيل أحد أبرز أركان “حزب الله”، والعقل المدبر للكثير من عملياته في الداخل والخارج، فهو بمثابة الرجل الثاني في الحزب، وقائد وحدة الرضوان ذات المهام العملياتية الخاصة، والمدرج على قوائم الإرهاب العالمي في الولايات المتحدة التي رصدت مكافأة بقيمة 7 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
وانضم عقيل المولود في بلدة بدنايل بقضاء بعلبك في الـ24 ديسمبر/كانون الأول 1962 إلى حزب الله ثمانينيات القرن الماضي، وكان أحد عناصر الخلية التي تبنت تفجير السفارة الأمريكية في بيروت في أبريل/نيسان 1983، كما شارك في الهجوم على ثكنات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) في أكتوبر/تشرين الأول 1983، والذي قتل فيه 241 عسكريًا أمريكيًا، كما تتهمه الاستخبارات الأمريكية بالمشاركة في عملية احتجاز رهائن أمريكيين وألمان في بيروت، يناير/كانون الثاني 1987.
كان لعقيل دور الواضح في قمع الثورة السورية، كما أشار لذلك بيان النعي الذي نشره “حزب الله” (كان من القادة الجهاديين الكبار الذين خططوا وأداروا العمليات ضد الجماعات التكفيرية على حدود لبنان الشرقية وفي القصير والقلمون وبقية المناطق السورية)، حيث مثلت قوة الرضوان التي كان يتولي قيادتها جبهة إسناد ودعم قوية لجيش النظام الذي ارتكب جرائم وانتهاكات ضد الإنسانية بحق الشعب السوري على مدار أكثر من عقد كامل.
صنفته وزارة الخزانة الأمريكية في يوليو/تموز 2015، ضمن القائمة الأمريكية للمتهمين بالإرهاب، وفي سبتمبر/أيلول 2019 صنفته “إرهابيًا عالميًا”، ورصدت مكافأة كبيرة لمن يدلي بمعلومات عنه، كما جمدت كل الممتلكات والأموال الخاصة به في المناطق الخاضعة للولاية القضائية الأمريكية، فيما أصدرت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “إنتربول” مذكرات اعتقال بحقه للاشتباه بتورطه في عملية خطف رهينتين ألمانيتين وتفجير في العاصمة الفرنسية باريس أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
وباغتيال عقيل تكون قوة الرضوان، رأس الحربة القتالية لحزب الله، قد تعرضت لضربة مؤلمة، لا سيما بعد استهداف اثنين من قادة مناطقها العسكرية الثلاثة في جنوب لبنان، هما محمّد نعمة ناصر الذي قتل بغارة استهدفت سيارته في منطقة صور في 3 يوليو/تموز الماضي، وطالب عبد الله، إثر استهداف منزل كان بداخله في بلدة جويا في 11 يونيو/حزيران الماضي، هذا بخلاف سقوط العديد من كبار القادة الميدانيين أبرزهم وسام الطويل الذي قتل مطلع العام باستهداف سيارته في جنوب لبنان.
كيف تمت العملية؟
حسبما نشر الإعلام العبري فإن خطة الاغتيال تم تحديدها صباح يوم العملية، أمس الجمعة، خلال لقاء جمع بين رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي وقادة لواء الشمال، بناء على معلومات نقلها مصدر استخباراتي موثوق به بشأن اجتماع قادة فرقة الرضوان داخل شقة سكنية بمنطقة الجاموس في الضاحية الجنوبية لبيروت، في الطابق الثاني تحت الأرض.
وعلى وجه السرعة صدق هاليفي على خطة الاغتيال وفق ما ذكرت القناة 14 العبرية، حيث أطلقت مقاتلة حربية إسرائيلية من طراز “F35” 4 صواريخ على الأقل، على مقر هذا الاجتماع، ما تسبب في تدمير المبنى من أعلى بالكامل، فيما استُهدف كذلك موقف السيارات (الجراج) أسفل المبنى، ما أدى إلى تدميره والطوابق الأخرى تحت الأرض ومن بينها الطابق الذي احتضن اجتماع قادة قوة الرضوان.
الغريب هنا أنه رغم الأجواء المشحونة بسحب الشكوك والارتياب جراء الاختراقات الأمنية التي يعاني منها الحزب مؤخرًا، وتفجير الاحتلال لأجهزة الاتصالات التي كانت بحوزة عناصر حزب الله، وما يفهم منه بطبيعة الحال التجسس على كل الاتصالات والمكالمات التي جرت بين أعضاء الحزب، إذ به يعقد اجتماعًا لأكثر من 20 من قادته وكبار مقاتليه في مكان واحد، ما يجعلهم صيدًا ثمينًا سهلًا للاحتلال.
وبالفعل لم يرفض الاحتلال مثل تلك الهدايا المجانية، ليحقق هدفًا جديدًا في شباك حزب الله يحاول من خلاله غسل العار الذي لحق به في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويمنح نتنياهو وحكومته المتطرفة وجهاز استخباراته قبلة الحياة لتجميل صورته التي مرغتها المقاومة الفلسطينية على مدار 11 شهرًا كاملًا.
سيناريو مكرر من عملية فؤاد شكر
تتشابه إلى حد كبير عملية اغتيال عقيل مع تلك التي استهدفت القيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر في غارة طائرات الاحتلال على مبنى بحارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت في 30 يوليو/تموز 2024.
وتتشابه العمليتان حد التطابق فيما يتعلق بمبررات تنفيذهما، حيث الاستناد إلى معلومات استخباراتية، إما من مصادر خاصة وإما من خلال آليات التجسس عبر تكنولوجيات الاتصالات والعمليات السيبرانية، وذلك باعتراف الجيش الإسرائيلي نفسه، الأمر الذي يعكس حجم الاختراق الأمني الذي يعاني منه الحزب خلال الآونة الأخيرة، وهو الاختراق الذي ما عاد ينكره الحزب.
اللافت هنا أيضًا مدى الدقة في بيانات جيش الاحتلال والتأكيد على استهداف القيادين، رغم نفي الحزب أو الصمت ابتداء إزاء العمليتين، ما يعني أن الوصول إليهما تم بشكل مدروس وممنهج وعبر معلومات استخباراتية دقيقة للغاية، وتلك نقطة أخرى لا شك أنها ستكون على قائمة أولويات قادة حزب الله في مناقشتهم لما حدث بعد أن تهدأ الأمور نسبيًا.
معادلات الردع في مهب الريح
منذ عملية طوفان الأقصى حاول حزب الله قدر الإمكان الحفاظ على الثنائية الصعبة: إبقاء معادلات الردع بينه وبين الاحتلال لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتدشين جبهة إسناد للغزة بهدف إرباك حسابات جيش الاحتلال وتشتيت قواه.
لكن يبدو أن الأمور لم تجر كما خُطط لها، في ظل الإصرار الإسرائيلي على تحييد الحزب أو جرجرته للانتقال من محطة الإسناد إلى الدخول في حرب مباشرة أو على الأقل تسخين الأجواء بما يستنزف الحزب عسكريًا وسياسيًا ونفسيًا ويضعه دومًا تحت ضغوط لا يحتملها.
وبات من الواضح أن الاختراق الأمني للحزب ليس وليد اليوم، ولا حتى منذ بداية حرب غزة الحالية، لكنه منذ سنوات، وهو ما كشفته القراءات المتباينة حول سلسلة التفجيرات التي طالت أجهزة اللاسلكي، إذ أماطت اللثام عن تعرض الحزب لعمليات اختراق واسعة النطاق منذ فترات طويلة، لكن الاحتلال كان ينتظر الوقت المناسب لتوظيف هذا الاختراق من أجل تحقيق مكاسب وانتصارات أكبر تحسب له، وهو ما يتطلب من الحزب – إذ أراد ترميم تلك الشروخات – إعادة النظر في منظومته الأمنية وسد ثغراتها عمليًا وبسرعة، فليس مقبولًا على الإطلاق لكيان يواجه خصمًا بحجم “إسرائيل” المدعومة من أعتى دول العالم، ومعرض على طول الوقت لأي استهدافات أن يعاني جداره الأمني من كل تلك الخروقات.
بشكل موضوعي، ورغم مشاركة “حزب الله” كجبهة إسناد للمقاومة في غزة، حتى إن وظفها نتنياهو فيما بعد للحصول على الدعم الداخلي والخارجي بزعم تعرض الكيان لحرب إقليمية من كل الجبهات، فإن الإخفاقات الأمنية التي مُني بها والأهداف المجانية التي أحرزها جيش الاحتلال في شباكه، كان لها أثرها القوي على معادلة الردع الإقليمي في المنطقة والذي بات في مهب الريح وتميل كفته بشكل كبير لصالح الكيان الإسرائيلي.
قد يكون الوقت ليس في صالح “حزب الله”، لكن من المبكر تقييم الأحداث في ضوء سرعة الضربات التي يوجهها الاحتلال للحزب وعدم إعطائه الوقت الكاف لالتقاط أنفاسه والاستفاقة مما حدث، وهو ما يجعل من أي رد فعل غير مدروس مغامرة قد يدفع ثمنها أضعاف ما يدفعه الآن.
وبالتوازي مع حاجة الحزب للوقت الكافي لتقييم المشهد، فهو أمام منعطف حساس سيحدد بشكل أو بآخر نجاح “إسرائيل” في تحقيق أهدافها من تلك الضربات وهذا الاختراق الأمني غير المسبوق، يتعلق بإبقائه كجبهة إسناد فاعلة للمقاومة في غزة، وهو المنعطف الذي قد يرسم ملامح خريطة الصراع بينه وبين الكيان الإسرائيلي خلال المرحلة المقبلة، الأمر الذي يعيه قادة الحزب جيدًا وعليه كان استهداف شمال “إسرائيل” برشقات صاروخية اعتبرها البعض ردًا أوليًا على حكومة وجيش الاحتلال يفيد بإفشال أهداف سلسلة الانفجارات والاغتيالات الأخيرة.
في الأخير فإن “حزب الله” اليوم أمام اختبار حقيقي، اختبار يعادل ذلك الذي خاضه في 2006 وقد يكون أكثر خطورة وحساسية، لما قد يترتب عليه من تدشين قواعد اشتباك جديدة بمعادلات ردع مختلفة، اختبار يحتاج فيه أن يحصن كل معادلات الردع السابقة التي اخترقتها “إسرائيل” بعملياتها النوعية المتتالية التي أسقطت العشرات من قادة الحزب.. فهل ينجح في الاختبار؟