المشهد المتكرر الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة لم يتغير منذ سنوات، بل يتصاعد تدريجيًا نحو المجهول، في ظل الاعتداءات التي تقوم بها أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية التي تجاوزت فيها القوانين الحقوقية والإنسانية كافة.
“اعتقالات، اعتداءات، ملاحقات، استدعاءات سياسية”، كلها عناوين ثابتة تتصدر الصحف والمواقع الفلسطينية المحلية بشكل يومي، لتظهر حجم الجحيم الذي يعيشه أبناء الضفة بفعل تغول أجهزة أمن السلطة وملاحقتها الطلبة الجامعيين والأسرى المحررين وأصحاب الرأي والنشطاء الحقوقيين، رغم جهود المصالحة التي تبذل في العاصمة المصرية القاهرة.
هذه الحالة السائدة التي تُخفي خلفها غضبًا فلسطينيًا عارمًا في ظل قمع أجهزة أمن السلطة، أجبر حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، على إطلاق نداء عاجل لتشكيل “جبهة وطنية” واسعة في الضفة، لمواجهة التغول الحاصل على واقع الحريات العامة، في ظل تأييد كبير من الفصائل الأخرى لدعوة حماس.
خلال الأيام الماضية، شنت أجهزة السلطة حملة اعتقالات سياسية واسعة وغير مسبوقة ركزت على استهداف كوادر الجهاد الإسلامي وحركة حماس وطلبة الجامعات ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في أرجاء متفرقة من الضفة المحتلة
دعوة حركة حماس جاءت في ظل مواصلة أجهزة السلطة الأمنية حملات الاعتقال على الخلفية السياسية التي تستهدف فيها عموم الحركة الوطنية والإسلامية في الضفة وكل من يعارضها الرأي أو حتى ينتقد سياسة الرئيس محمود عباس داخليًا أو خارجيًا، في حين أن خطورة هذه الممارسات تستدعي من كل الأطراف السياسية والحقوقية سرعة التحرك لوقفها بشكل فوري قبل الدخول بالنفق المظلم.
ضرب النسيج الفلسطيني
خلال الأيام الماضية، شنت أجهزة السلطة حملة اعتقالات سياسية واسعة وغير مسبوقة ركزت على استهداف كوادر الجهاد الإسلامي وحركة حماس وطلبة الجامعات ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في أرجاء متفرقة من الضفة المحتلة، في خطوة يرى فيها مراقبون وسياسيون، أنها تدق ناقوس الخطر في المجتمع الفلسطيني وتحركه خطوة نحو الفلتان والاقتتال الداخلي الدامي.
القيادي في حركة حماس عبد الرحمن شديد، أكد ضرورة تشكيل جبهة وطنية واسعة لمواجهة تغول أجهزة السلطة الأمنية في الضفة المحتلة، على حرية العمل الوطني الفلسطيني، وقال شديد: “مواصلة أجهزة السلطة الأمنية حملات الاعتقال السياسي التي تستهدف فيها عموم الحركة الوطنية والإسلامية في الضفة الغربية وكل من يعارضها الرأي، دليل إضافي على عقلية التفرد والإقصاء التي تدير بها السلطة الفلسطينية سلوكها تجاه الآخرين”.
وشدد في تعقيبه على حملة الاعتقالات الواسعة التي تشنها أجهزة السلطة الأمنية، وخاصة التي تستهدف منها كوادر حركة الجهاد الإسلامي، على أن هذه الممارسات تستدعي من كل الأطراف السياسية والحقوقية سرعة التحرك لوقف الانتهاكات بحق كوادر الفصائل الفلسطينية.
ورصدت لجنة أهالي المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية المحتلة 372 اعتداءً على المواطنين خلال الشهر الماضي من أجهزة السلطة الفلسطينية، تضمنت 72 حالة اعتقال سياسي و55 استدعاءً و25 عملية مداهمة و155 حالة احتجاز على المعابر، وجميعها على خلفية انتماءاتهم السياسية.
كما أظهرت إحصائية لمؤسسة رقابية تعني بحقوق الأسرى المحررين المعتقلين في سجون الأجهزة الأمنية أن 28 معتقلاً لا يزالون في سجون أمن السلطة، من بينهم 5 معتقلين مضربين عن الطعام، فيما لا يزال 7 منهم تحت طائلة التعذيب في سجن أريحا.
النائب في المجلس التشريعي عن حركة حماس أحمد مبارك: ظاهرة الاعتقالات السياسية بدأت مع مجيء السلطة، وكانت بناءً على تفاهمات أمنية مع الاحتلال لضرورة السيطرة على الفلسطينيين
من جانبه، قال النائب في المجلس التشريعي عن حركة حماس في رام الله أحمد مبارك إن “الاعتقالات السياسية التي تمارسها السلطة في الضفة باطلة ومرفوضة ومدانة بكل الصور والأشكال، وغير مبررة على الإطلاق”، وأوضح مبارك أن هذه السلطة تريد أن تثبت للاحتلال التزامها الكامل بتعهداتها معه رغم أن الاحتلال قد تنصل من كل التعهدات معها.
كما أشار إلى أن هذه الاعتقالات لا تزال تمثل سيفًا مسلطًا على أبنائنا تمنع معظمهم من أن يؤدي دوره في مجتمعه ومحيطه، كما تفقد البعض الآخر معيلها في ظل بدء موسم المدارس وحاجة الأبناء لوجود آبائهم، مشددًا على أن هذه الاعتقالات تضرب النسيج الوطني، وتصب في تفتيت الجبهة الداخلية وانهيارها، ما يسهل الاستسلام أمام المؤامرات التي تحاك ضد شعبنا.
وأضاف مبارك أنه ومنذ بدء ظاهرة الاعتقالات السياسية مع مجيء السلطة، كانت بناءً على تفاهمات أمنية مع الاحتلال لضرورة السيطرة على الفلسطينيين، ومنع أي محاولة مواجهة حتى لو كانت سلمية أو ممارسة أنشطة طلابية كالتزام أمني وقعت عليه السلطة للسيطرة التامة على الفلسطينيين.
وطالب النائب في المجلس التشريعي قيادة السلطة “بالكف عن هذه الممارسات وعدم التغول على الشعب، مؤكدًا أن الناس لها كرامة ولن تقف مستسلمة لهذه الإجراءات وستقف لمواجهتها”، موضحًا أن “هناك أصواتًا وطنية وإسلامية وقيادات مسيحية خرجت في الآونة الأخيرة تطالب بوقف هذه الإجراءات الظالمة بحق أبناء شعبنا، وعدم التمادي فيها لأنها ستؤدي لمزيد من الاحتقان في الشارع الفلسطيني”.
القوة الضاغطة
وتأييدًا للمبادرة التي أطلقتها حركة حماس للتصدي لأجهزة أمن السلطة، فقد أبدى خضر حبيب القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، تأييد حركته لأي مبادرة أو خطوة تؤدي إلى إنجاز ملف المصالحة وإنهاء الانقسام الضار بالقضية الفلسطينية وترتيب البيت الفلسطيني على أسس تخدم مصالح الشعب وتحقق آماله وطموحاته.
“غياب الإرادة السياسية لإنهاء الاعتقالات والتوقف عن انتهاك ملف الحريات، يجعل الأجهزة الأمنية في الضفة تعيش واقعًا بأنها محصنة طالما لا يوجد من يحاسبها”
وما زال حبيب يرى أن الفرصة مواتية ومهيأة تمامًا لإنجاز المصالحة لإنهاء الانقسام، معربًا عن أسفه أنه بدلًا من أن تتجه السلطة إلى هذا الاتجاه فقد صعدت من حملاتها في الضفة الغربية ورفضت التعاطي مع المصالحة وأدارت ظهرها إلى الجهود المصرية الداعية لإنهاء الانقسام.
وأكد حبيب “أن الحل الوحيد يكون في تشكيل تكتل وجبهة وطنية من أجل إجبار السلطة على السير بالاتجاه الصحيح في إنجاز المصالحة وتحقيق طموحات شعبنا”، معتبرًا أنه دون تحقيق هذه الجبهة الوطنية الضاغطة على السلطة فإنه لا يمكن إنجاز هذه المصالحة.
وشدد على ضرورة أن تكون وظيفة هذه الجبهة الوطنية هي الدفع والضغط على السلطة للتعاطي مع الخيار الوطني ومع ما يريده شعبنا الفلسطيني وبما يحقق تطلعاته، قائلاً: “نحن مع هذه الخطوة، لكن يجب أن يبقى طريق المصالحة خيارًا مفتوحًا، بحيث ندفع السلطة للمصالحة، لأن الأخيرة الحل الوحيد لكل مشاكلنا”.
وأضاف القيادي في الجهاد: “نؤيد أن تكون هناك جبهة ضاغطة بالحراك السياسي، لكن يجب أن نتجنب الصدام، لأننا لسنا في وارد الاندفاع إلى هذا الخيار وتأزيم الأمور أكثر مما هي عليه الآن، وحتى لا يكون هناك مشاكل واحتراب داخلي يزيد الطين بلة”، على حد تعبيره.
أين الإرادة السياسية؟
المستشار القانوني لمؤسسة “الحق” الدكتور عصام عابدين، وصف واقع الحريات في الضفة عقب إبرام اتفاق المصالحة في القاهرة، بـ”محلك سر”، وأنه لم يختلف. وشدد عابدين على أن هذه الاعتقالات السياسية تجري خلافًا للقانون الأساسي والاتفاقات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين مؤخرًا، مضيفًا “لغاية الآن لا توجد إرادة سياسية حقيقة لطي صفحة الانقسام في مجال الحريات والحقوق”.
وأكد المستشار القانوني أن “غياب الإرادة السياسية لإنهاء الاعتقالات والتوقف عن انتهاك ملف الحريات، يجعل الأجهزة الأمنية في الضفة تعيش واقعًا بأنها محصنة طالما لا يوجد من يحاسبها”، داعيًا لتفعيل المساءلة والمحاسبة في هذه المرحلة لوضع حد لكل الانتهاكات.
طالبت قوى وفصائل وشخصيات وطنية مؤخرًا السلطة الفلسطينية بضرورة وقف سياسة الاعتقالات والاستدعاءات السياسية في الضفة كنقطة انطلاق داعمة لاتفاق المصالحة
وأضاف عابدين “اتفاق المصالحة أغفل جانب الحريات والحقوق، رغم أن هذا الملف من أكثر الملفات سخونة وإيلامًا، فهناك الآلاف وقعوا ضحية للاعتقال والاستدعاء أو سوء المعاملة”. وأكد الحقوقي ضرورة الاهتمام بملف الحقوق والحريات، وأن يأخذ الأولوية، مع ضرورة تطبيق برنامج عدالة انتقالية يقوم على تشكيل لجنة تُسمى “لجنة الحقيقة” لفحص جميع الانتهاكات التي جرت خلال فترة الانقسام.
إلى ذلك، فقد طالبت قوى وفصائل وشخصيات وطنية مؤخرًا السلطة الفلسطينية بضرورة وقف سياسة الاعتقالات والاستدعاءات السياسية في الضفة كنقطة انطلاق داعمة لاتفاق المصالحة، ودعم عجلتها للأمام دون عرقلة، لكن على الأرض ما زالت هذه الاعتقالات مستمرة بل وتتصاعد، ويزداد معها معاناة هؤلاء المعتقلين وعائلاتهم.