إذا كان الأصل في وصف أحداث ما غير معتادة بأنها صارت “ظاهرة”، هو توثيق حدوثها بشكل منظم وملحوظ ونوعي، خلال مدة زمنية معينة، ومقارنتها بفترات سابقة شهدت ظروفًا مشابهة، فإن هذا الأصل قد ينتفي في هذه “الظاهرة” تحديدًا.
فمن جهة، معلومٌ قطعًا أن الأصل في الكائنات الحية، لا سيما الإنسان، هو الصراع الدؤوب من أجل البقاء، سمة غريزية بيولوجية نوعية في تركيب الكائنات، ومن جهة أخرى، فالدين الإسلامي الذي يدين به المنتحرون، به من القيود ما يمنع اعتبار الانتحار خيارًا مطروحًا أصلًا.
ومن ناحية أخرى، فإن الطبيعة المركزية للدولة المصرية، لا سيما الآن، تحول، قطعًا، دون إتاحة بيانات وإحصاءات نزيهة ودقيقة لأعداد المنتحرين، لكن وسائل التواصل الاجتماعي سمحت بتوثيق عدد كبير من حالات الانتحار في مدة زمنية قصيرة جدًا وبالطريقة نفسها تقريبًا، بشكل يطرح تساؤلات كثيرة عن هذه الظاهرة، نحاول الإجابة عن بعضها في هذا التقرير.
سيكولوجية الانتحار: لماذا ننتحر أصلاً؟
لا تخلو حياة البشر من الضغوط، ولا تتوقف أدمغتنا عن ابتداع آليات وعزاءات للتكيف معها، ويحدث “الاكتئاب” حينما تزداد الضغوط وتضعف قدرتنا على التكيف، في آن واحد.
التفتيش عن بواعث الأمل ومصادره وسيلةٌ نوعية ناجعةٌ لكسر الاكتئاب
والمكتئب يعاني أو بالأحرى يدفع إلى “تشوه معرفي” يسميه علماء النفس “الاستدلال الانفعالي”، فعلاوة على تفسيره كل الخبرات والمواقف السابقة سلبًا، وطرحه تأويلات تفضي في النهاية إلى نتيجة مفادها أن هذه الذات مذنبة لا تستحق، وأن العالم لا يعبأ بها، فإنها تقرر أن هذا الوضع السيء سيستمر هكذا دومًا إلى ما لا نهاية، هذا هو الاستدلال الانفعالي! أن نعتبر حالاتنا السيئة أصلاً وليست استثناءً.
لذا، فإن التفتيش عن بواعث الأمل ومصادره وسيلةٌ نوعية ناجعةٌ لكسر الاكتئاب، “ثمة ضغوط تحاصرنا ولكننا سنستطيع تجاوزها”، “لقد فعلها غيرنا من قبل”، بهذه العبارات والاعتقادات وغيرها، يصبح الخروج من الاكتئاب ممكنًا.
وإذا كان علماء النفس يعرفون الانتحار – في معرض إثنائهم المكتئبين عن اعتباره خيارًا مطروحًا أنه:”حلٌ نهائي، لا رجعة فيه لمشكلة مؤقتة”، فماذا لو أن هذه المشكلة ليست مؤقتة؟ وأن الضغوط غير المعتادة والآخذة في الزيادة، لا يبدو أن لها حلًا؟ حينها، يمسي الانتحار حلًا!
خصوصية الحالة المصرية وموت الأمل
مرت مصر في السبعة أعوام الأخيرة بتحولات درامية، فمن اشتعال جذوة الأمل ببزوغ فجر الثورة، إلى سوء الإدارة السياسية للإخوان والمعارضة، إلى انقلاب عسكري أطاح بكل المكتسبات، وحول البلاد إلى نسخةٍ طبق الأصل من “كوريا الشمالية” – بتعبير إحدى رموز المعارضة – حيث لا صوت إلا صوت “الرئيس”.
“أنا مش سياسي” و”اللي عاوز يلعب في مصر يخلص مني الأول”.. تصريحات علنية من رأس السلطة في مصر، تعبر بما لا يدع مجالاً للشك أننا في عصر الانتحار والحلول الحدية
ويبدو أيضًا أنه ليس ثمة أملٌ لتحلحل هذا الوضع الصفري، فالنظام قد تعلم الدرس جيدًا، والأحزاب – الضعيفة أصلاً – قضت على مذبح الإخوان، والرموز الممكنة وغير الممكنة في السجون، والدعم السياسي الخارجي متدفق خاصة من تجار “الرز”، والإصلاح الاقتصادي ماضٍ رغم أنوف الجميع؛ لذا، لم يعد غياب الأمل والخوف من استمرار الضغوط تشوهًا معرفيًا أو استدلالاً انفعاليًا، إنه الحقيقة، حيث لا حقيقية إلا ذلك.
نهاية السياسة وبداية الانتحار
“أنا مش سياسي” و”اللي عاوز يلعب في مصر يخلص مني الأول”.. تصريحات علنية من رأس السلطة في مصر، تعبر بما لا يدع مجالاً للشك أننا في عصر الانتحار والحلول الحدية.
لا أحزاب، لا انتخابات، لا نقابات، لا احتجاجات، لا تفاوضات، لا محاكمات، لا صحافة، لا إعلام، لا برلمان، لا مواقع تواصل، ونعم للاعتقالات، نعم للإعدامات، نعم لحل نهائي للقضية الفلسطينية، نعم لبيع الوطن، نعم لتدمير المدن “للقضاء على الإرهاب”، نعم لإلغاء الدعم.
رغم تراجع الأحوال الاقتصادية منذ سريان خطة رفع الدعم 2014، فإن الانتحار الجماعي العلني، لم يكن خيارًا مطروحًا مجتمعيًا إلا في الآونة الأخيرة
المعجم الدلالي التداولي في المجال العام، إن كان هناك مجالٌ عامٌ، لا يعرف إلا الحلول النهائية، الجذرية، الحدية، حيث وصاية الأب الصارم الذي قرر أنه لا حديث في مسألة بيع جزيرتي تيران وصنافير مجددًا.. وقد كان.
لماذا الآن؟ ولماذا هكذا؟
رغم تراجع الأحوال الاقتصادية منذ سريان خطة رفع الدعم 2014، فإن الانتحار الجماعي العلني لم يكن خيارًا مطروحًا مجتمعيًا إلا في الآونة الأخيرة، ولعل أحد أهم أسباب ذلك هو ارتفاع وتيرة “الصب” في مصلحة المواطن، إيذانًا باقتراب إعلان انسلاخ الحكومة تمامًا من دورها تجاه المواطن، إذ تنتهي خطة رفع الدعم، العام القادم في أقصى تقدير، وفقًا لاتفاق صندوق النقد الدولي مع الحكومة المصرية، فارتفعت أسعار الوقود والسلع الأساسية والخدمات والضرائب، ولم يقابل ذلك أي زيادات نوعية في رواتب الموظفين التي تخطط الحكومة لتقليص أعدادهم، ضمن خطة إصلاح الجهاز الإداري.
أيضًا، وبالإضافة إلى ما سبق، فإن النصف الثاني من العام موسمٌ مكتظٌ بالأعباء المالية الاستثنائية والضغوط النفسية والعصبية، فتظهر نتيجة الثانوية العامة ويحل عيد الأضحى ويبدأ العام الدراسي الجديد.
وقد تراجع، مع ذلك، دور الجمعيات الأهلية – مجتمعيًا – منذ الانقلاب العسكري، فصودرت الأموال ودوهمت المقرات وسرح العمال، بدعوى تورط هذه الجمعيات في أنشطة مع الإخوان المسلمين.
بينما آثرت بعض الأبواق التجويد والعزف منفردًا، فطالب مسئوول بوزارة النقل المواطنين بأن ينتحروا بعيدًا عن المترو، حتى لا يعطلوا مصالح المواطنين، وأفتى أحد شيوخ النظام بجواز انتحار المضطر
أما عن الكيفية، فمن ناحيةٍ تقنية، بوسع أي شخصٍ إنهاء حياته في صمتٍ تام وطرائق متنوعة، ولكن ذلك تأباه فطرته، فالإنسان مجبولٌ على الاهتمام والمواجدة والأنس بجوار أخيه الإنسان، وفي اختيار الضحايا وسيلةً صاخبةً وقاسيةً، كمحطات المترو، دلالةٌ على الفراغ الداخلي والحاجة إلى الصراخ وتمكن الألم من ذواتهم، هناك، تتماهى الذوات المقهورة، لتشاهد استسلام روح اختارت الراحة بارتطام آلامها بعجلات القطار، وهكذا، الواحد تلو الآخر.
النظام: أذن من طين وأخرى من عجين
مؤسسات النظام الإدارية والإعلامية والدينية والأمنية لا تجد حرفيًا ما تقدمه في هذا الموضوع، وشعارها شعار زعيمها “أنا مش قادر أديك”!
بينما آثرت بعض الأبواق التجويد والعزف منفردًا، فطالب مسئوول بوزارة النقل المواطنين بأن ينتحروا بعيدًا عن المترو، حتى لا يعطلوا مصالح المواطنين، وأفتى أحد شيوخ النظام بجواز انتحار المضطر، أما الزعيم الملهم، فيبدو أنه لا يتابع على الشبكة إلا تريند “كيكي”، أما المنتحرين فلا بواكي لهم.