حرب شوارع، قذائف تتساقط على الأحياء السكنية مثل الحمم البركانية، بين من ومن؟ كتائب أبي العباس القائد السلفي قائد الجبهة الشرقية من جهة، وحزب الإصلاح صوت جماعة الإخوان المسلمين في اليمن من جهة أخرى، انتهى الحال بينهما إلى نقطة اللاعودة، والسلاح يحكم الآن في الميدان بعد ملاسنات واتهامات قاسية ظلت مشتعلة بين الجانبين طوال الأسابيع الماضية.
صراع بلا حل
تبدو الصراعات في اليمن بلا حل، الاشتباكات التي تنشأ خلال فترات قصيرة وخاصة بين دوائر حلف الشرعية المعارض للحوثيين، لها صدى مخيف على القضية التي يدفع الشعب اليمني وحده ثمنها، تقف مدينة تعز في قلب الأحداث، شاهدة على رغبة كل طرف في الاحتفاظ بما تحت يده من مكتسبات، وإن لزم الأمر تفصل القوة في ذلك عبر الفصائل المسلحة، وهو الصراع الذي يشير في دلالاته الخلفية، إلى ضرورة رفض كل عاقل لدولة الميليشيات البغيضة، أيًا كانت الشعارات التي يروجها هذا أو ذلك، فالتاريخ يثبت أن حمل السلاح بواسطة أي طائفة غير الدولة ـ مهما كان استبدادها ـ خطر لن يكون يأتي من خلفه خيرًا.
كما هو معروف، تدعم الإمارات القيادي السلفي أبو العباس، وهو سبب كافٍ لمعرفة لماذا تنشأ هذه الحرب الوجودية بين الإخوان والسلفيين؛ فالفرع الإخواني في اليمن لا ينسى ما يفعله أبناء زايد بالجماعة الأم في مصر وأذرعها في العالم، ورغم تظاهر “الإصلاح” بالاحتفاظ بشعرة معاوية لرأب الصدع بين الجهات الممثلة في التحالف المساند للرئيس عبد ربه منصور هادي، فإن قاعدة “ما في القلب في القلب”، جعلت الكراهية تقفز على مائدة المفاوضات، وسيطرت على التعامل الرسمي لكلا الطرفين، وبات إخوان اليمن على رأس المستهدفين بشكل واضح من الإمارات، ويتم مساواتهم بالحوثيين، الهدف الأساسي من الحرب المشتعلة منذ عام 2015.
وتشير الأحداث إلى أن أبو العباس أقحم نفسه في الصراع الدائر بين الإخوان والإمارات، وبات شريكًا في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، أو هي مقتضيات التمويل بملايين الدولارات لرجاله ولوائه العسكري الذي يستفحل يومًا بعد الآخر، حتى أصبح جيشًا موازيًا صاحب كلمة لا ترد ولا يستهان بها عند الجميع، فلا شيء يأتي بالمجان في التمويل العابر للحدود، ولا يستثى أحد من ذلك، فمتى طلب الراعي تنفذ الرعية!
قرار العودة المفاجئ وفتح النار على “رفقاء السلاح” كما وصفهم القطب السلفي سابقًا، إثر محاولة تسلم المقرات التي كانت تسيطر عليها عناصر تابعة له قبل انسحاب أبي العباس، يؤكد بجلاء أن الصراع في اليمن، أعنف وأكثر دموية مما يتصوره أحد
تجسدت الأزمة وتوابعها منذ 25 من أغسطس الماضي، عندما اتخذ أبو العباس قرارًا فرديًا على ما يبدو، وأعطى أمرًا بانسحاب أفراده وأسرهم من مدينة تعز بشكل نهائي، بعد وساطة من أقطاب السلطة الشرعية في البلاد، وطالب آنذاك ما أسماها الحكومة الشرعية، بتأمين خروجه من المدينة، على أن تتولى أيضًا توفير وسائل نقل آمنة لرجاله وأسرهم، وقبل أن يتم تنفيذ طلباته، عاد الرجل بشكل مفاجئ وأعلن تراجعه عن قرار المغادرة.
بحسب بيان أصدره أبو العباس، أكد الرجل أن من أسماهم رفقاء السلاح، بجانب السلطة الشرعية هم الذين رفضوا مغادرته قبل استكمال عملية تحرير المحافظة وإعادة سلطة الدولة عليها تحت قيادة عبد ربه هادي، وكأن القرار الذي أصدره قبل أيام، كان على سبيل المزاح، ولم يكن ذا حيثية من المفترض أن سبقه تنسيقات تعرفها أقل الأدبيات العسكرية احترافًا، حتى في دول المليشيات، عندما ترغب إحدى الكتائب مغادرة الميدان وترك مواقعها.
قرار العودة المفاجئ وفتح النار على “رفقاء السلاح” كما وصفهم القطب السلفي سابقًا، إثر محاولة تسلم المقرات التي كانت تسيطر عليها عناصر تابعة له قبل انسحاب أبي العباس، وتسليمها رسميًا لقوات الجيش الموالية لحزب التجمع اليمني للإصلاح، ذراع الإخوان في اليمن، وإن كان له خلفيات وعقد سنوردها لاحقًا، إلا أنه يؤكد بجلاء أن الصراع في اليمن، أعنف وأكثر دموية مما يتصوره أحد، حتى بين أبناء الحركة الإسلامية السنية نفسها.
كتائب أبي العباس تتهم الإخوان بتفجير الأوضاع في تعز
وفق تسلسل الأحداث، وقبل العودة المفاجئة لأبي العباس، كانت الأطراف المعنية بحل الأزمة المكتومة بين الإخوان والسلفيين وصلت إلى ضرورة تنفيذ عدة قرارت على رأسها تسليم العناصر المسلحة التي اقتحمت بعض منازل كتائب أبو العباس في الجحملية والمجلية في وقت سابق مهما كانت تبريرات الإخوان في ذلك، بجانب ضم الكتائب السلفية إلى الجيش، ومنحها تصنيف لواء عسكري، يعمل ضمن المنطقة العسكرية الرابعة، تحت مسمى لواء الإسناد، ويتخذ من المطار القديم، غرب تعز، معسكرًا إستراتيجيًا له، على أن يصدر الرئيس هادي قرارًا جمهوريًا بتشكيله.
حتى هذه النقطة من المفاوضات، كان يبدو أن الجميع يحاول إنقاذ معسكر الشرعية، ولكن التفسرات السياسية لصمت الرئيس عبد ربه هادي، على الأزمة التي اندلعت فجأة من جديد، دون أدنى تدخل منه لحل الأزمة، يؤكد أن صمته على ما يحدث بين الإصلاح وأبي العباس، إشارة منه بضرورة إنهاء كتائب أبو العباس وتدميرها وعدم إعادة مواقعها، وهو الفخ الذي اكتشفه القيادي السلفي الذي عاد بشكل سريع عن قراره، وقرر استرداد ما سلمه بالحيلة بالقوة المسلحة، بما أثر على اشتعال الحرب بين قواته ومسلحي اللواء 22 ميكا، المدعوم من قوات النجدة، وجميعها أذرع مسلحة تتبع الدولة ولكنها مشكلة من أبناء الإصلاح في مدينة تعز.
الحرب الإعلامية التي كان يتسيد دفتها حتى وقت قريب كتائب القطب السلفي، لم يتركها حزب الإصلاح الذي احتل الساحة الإعلامية عبر النقل المباشر للأحداث
ووصلت ذروة الصراع السبت الماضي، بعدما أغلقت العديد من الشوارع الرئيسية والفرعية، وتوسعت المواجهات بشكل كبير للغاية، لتشمل محيط الأمن السياسي والبحث الجنائي، بما أوقع حتى الآن الكثير من القتلى والجرحى من الجانبين، بينهم القيادي في كتائب أبو العباس، أيمن جمال شرهان، في مقابل تصفية أفراد من الشرطة.
أصل الأزمة كما تحكيها كتائب أبو العباس، على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يكمن في الهجوم بثمانية أطقم عسكرية من اللواء 22 ميكا التابع للإصلاح، والاعتداء والضرب العشوائي على عناصر الكتائب التي اتخذت من منطقة بجانب فندق تاج شمسان معسكرًا لها، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، بجانب عمليات قنص على نطاق واسع.
من يكسب الحرب الإعلامية الدائرة بين الإصلاح والسلفيين؟
الحرب الإعلامية التي كان يتسيد دفتها حتى وقت قريب كتائب القطب السلفي، لم يتركها حزب الإصلاح الذي احتل الساحة الإعلامية عبر النقل المباشر للأحداث، وقال في أحد تحليلاته للأزمة، إن عصابات خارجة عن القانون، هي التي بدأت الهجوم المسلح على المواقع التي تم تسليمها لشرطة الدوريات وأمن الطرق في مناطق باب موسى والباب الكبير وفندق تاج شمسان.
وكشف الإصلاح عن مقتل جندي من شرطة الدوريات وجرح أربعة آخرين، ورغم وصف الإصلاح المهاجمين بالعصابات الخارجة على القانون، عاد في نفس البيان واتهم نائب قائد كتائب أبو العباس، عادل العزي بمحاولة اغتيال قائد شرطة النجدة الإخواني محمد مهيوب، عندما أطلق مسلحوه النار على الرجل في محيط فندق شمسان، ما أدى إلى مقتل مرافقه الشخصي وإصابة أربعة، كما تم إحراق إحدى سيارات النجدة وتدمير أخرى.
بيان الإصلاح لم يكشف فقط عن لجوء جميع الأطراف في معسكر الشرعية المزعوم في اليمن، إلى اغتصاب عقل المواطن اليمني والعربي، وترويج ادعاءات غير منطقية عن الصراعات التي تندلع بين الحين والآخر، بين أبناء هذه الحلف المتداعي، ولكنها توضح حجم الهوة الخطيرة بين أفكار الإخوان والسلفيين، وهوية كل منهما المناقضة والمعادية، بل وكيف ينظر كل منهما للآخر، عندما تشتعل المنافسات وترتقي السلفية وتصبح ندًا للجماعة بأي شكل.
لم تقف فاتورة الصراعات بين الإخوان والسلفيين، على عدد القتلى من كل جبهة، بل تسببت ـ دون تدخل من الحوثيين ـ في تقسيم ما تبقى من الجيش اليمني
عندها تبدأ سلسلة من التطورات والمستجدات المتسارعة والتحولات الخطيرة في العلاقة بينهما، قد يحكم فيها الغدر والمكيدة والحقد، كما حدث بين الإخوان والسلفيين في مصر، منذ بداية صعود الجماعة للحكم، مرورًا بعملية التنافس السياسي غير النزيه مع حزب النور السلفي الذي حل في المرتبة الثانية بالمكتسبات السياسية والبرلمانية، بما سبب حربًا بينهما على جثة الوطن، أو قد يحكم السلاح كما يحدث الآن بين الإخوان والسلفيين في اليمن.
ولم تقف فاتورة الصراعات بين الإخوان والسلفيين، على عدد القتلى من كل جبهة، بل تسببت ـ دون تدخل من الحوثيين ـ في تقسيم ما تبقى من الجيش اليمني الذي تم تسيسه بشكل فج، وبات مخترقًا من الجميع، وأعيد تشكيله وفق أسس حزبية ضيقه، وأصبح عصا سياسية تستخدم في إزاحة الخصوم، والسيطرة على مواقع عسكرية ومدنية في المدينة، لفرض شروط طرف على الأطراف الأخرى، بما في ذلك السلطة الشرعية.
“الإصلاح” عزز قوته العسكرية في مدينة تعز، وأحكم قبضته على مختلف أجهزة المؤسسة الأمنية وأقسام الشرطة، ومعظم ألوية الجيش في المدينة، بينما كان لافتًا تخندق بعض الأحزاب اليسارية والقومية حول اللواء 35 مدرع، بما أثر سلبًا على جماعة الإخوان التي تسعى بكل قوة لفرض كلمتها على الأرض، عبر إجبار كتائب أبو العباس على تسليم المواقع العسكرية التي تسيطر عليها للجيش، وعلى رأس هذه المواقع قلعة القاهرة ومبنى الأمن السياسي.
لن تحل الأزمة في اليمن وبشكل خاص بين معسكر الشرعية، بعيدًا عن الجذور التاريخية والفكرية والدينية للصراع، إلا بإعادة الجيش لمهامه الطبيعية، وإبقائه بعيدًا عن الصراعات السياسية التي تسببت في تنفيذ جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي بين أبناء التيار الواحد، وجر المجتمع بأكمله إلى حرب وجودية ستنهي على اليمن طال الوقت أم قصر!