حطت قدماي على دير “القديس هيلاريون” الواقع على ساحل بحر منطقة النصيرات وسط قطاع غزة، بدأت أتفقد المكان وأرى موقع التنقيب داخل الدير والمتوقف عن العمل منذ الحصار على قطاع غزة 2007، ما تبقى فيه أعمدة رخامية لعصور مختلفة ولوحات بلاط من الفسيفساء لعصور إسلامية ومكان التعميد وبعض القطع من العصور الأموية والعباسية والعثمانية وبعض الآثار الكنعانية في المكان الذي يشبه “الخرابة”.
تاريخيًا دير “هيلاريون” أول دير أُنشأ في منطقة الشرق الأوسط، كان على خطى سيدنا المسيح وكان هيلاريون مسيحيًا موحدًا غادر لمصر وتعلم على يد القديس “أنطونيوس” بعدها عاد لغزة في العام 329 ميلاديًا وبنى صومعته على بحر المنطقة الوسطى في قطاع غزة، وأصبح يحيط به أربعمئة شماس بنوا الدير والكنسية، وتوفي هيلاريون في قبرص وعاد جثمانه إلى غزة.
بعد احتلال قطاع غزة عام 1967 أقام الجنود الصهاينة غالبية مواقعهم العسكرية على المناطق الأثرية المهمة، وقد أخذ الاحتلال ما أخذ من القطع الأثرية ما يكفي لطمس الهوية أو انفكاك علاقة الفلسطيني بالمكان وعلاقة الأرض بالإنسان
غادرت الموقع باتجاه رجل عجوز يستظل بدالية عنب مترامية الأطراف، قدم لي كأسًا من الشاي، وسألته: هل تحب هذا المكان؟ تنهد تنهيدة طويلة وقال: أكثر من يعرف عن هذا المكان هنا أنا، لقد ارتبطنا به تاريخيًا، لكن الجيل الجديد لا يعرف شيئًا، لا أرى الرحلات المدرسية تأتي هنا باستمرار في الوقت الذي كان يأتي فيه طلبة العلم وأبناء اليهود باستمرار.
سألته: أين باقي الآثار في هذا الدير؟ أجاب كان يأتي موشيه ديان وزير الدفاع الأسبق في الاحتلال الإسرائيلي بشكل مستمر قبل النكبة وبعدها، بشاحنات كبيرة يحمل الأعمدة الرخامية والأواني النحاسية والفخارية في ساعات الليل والصباح ويغادر، لم نكن نعرف ماذا يريد أن يفعل بهذه الآثار التي يسرقها.
لم يكتف موشي ديان بسرقة آثار دير القديس هيلاريون، لقد سرق آثارًا كبيرة من سيناء، كان مهووسًا بصفة شخصية بالآثار واقتنائها، ونظرًا لمستواه السياسي كان الإسرائيليون يغضون الطرف عن عمليات السرقة التي يقوم بها، آلاف القطع الأثرية ما سرق منها من سيناء سبب أزمة سياسية مع مصر، ولم يستطع أحد الحديث عنها حتى نشر عالم الآثار الموظف لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي “راز كليتر” بعض الحقائق عن سرقات موشيه ديان، عاد 500 صندوق من القطع عام 1995 إلى مصر، لكن آلاف القطع النادرة لم ترجع.
زوجة موشيه التي انتمت مبكرًا “للهاجاناة” المنظمة المسؤولة عن قتل آلاف الفلسطينيين، باعت جزءًا من الآثار المسروقة لمتحف “إسرائيل” بما يقارب مليون وربع دولار، ووهبت الجزء الآخر مجانًا.
موشيه ديان وزير الدفاع الأسبق في الاحتلال الإسرائيلي
بعد احتلال قطاع غزة عام 1967 أقام الجنود الصهاينة غالبية مواقعهم العسكرية على المناطق الأثرية المهمة، وأحاط بـ”غزة التلية”، موقع على جبل المنطار شرق مدينة غزة، وموقع على “تل السكن” الأثري وآخر على “تل العجول” الأثري جنوب مدينة غزة، إضافة لموقع “تبة 86” الأثري شمال شرق محافظة خانيونس في منطقة القرارة من أقدم مدن قطاع غزة التاريخية، وموقع تل زعرب الأثري جنوب غرب مدينة رفح وظلوا عليها حتى الانسحاب من غزة عام 2005، وقد أخذ الاحتلال ما أخذ من القطع الأثرية ما يكفي لطمس الهوية أو انفكاك علاقة الفلسطيني بالمكان وعلاقة الأرض بالإنسان.
موقع تل العجول المقام عليه أحد المواقع العسكرية للمقاومة الفلسطينية جنوب مدينة غزة الذي تجري بعض “المزاريب” الصغيرة لمياه الشتاء المليئة بقطع فخارية متناثرة فيه، نسب قديمًا للحضارة الفرعونية، باطنه مليء بالعجول الذهبية الصغيرة والقطع النحاسية، إضافة لخواتم تشبه “الجعارين” مغلّفة بالعقيق والزمرد، عليه كان أحد أهم حصون صلاح الدين الأيوبي خلال مواجهة الحملات الصليبية.
نزلنا منه باتجاه شارع صلاح الدين إلى “جميزة صالحة” قرب مخيم جباليا التي قطعها الفلسطينيون في السبعينيات نتيجة جهلهم بالمكان، حيث هربت العذراء “مريم” بسيدنا المسيح عليه السلام من بيت لحم إلى مصر، أقامت تحت هذه الجميزة، قبل أن يعبر سيدنا المسيح من شارع صلاح الدين إلى مصر.
قطعت شمال قطاع غزة إلى جنوبه عبر شارع “صلاح الدين” أو ما يعرف بشارع “الملوك” وفق ما أسماه الفراعنة أو طريق “شارع الفتوحات” وفق ما أسماه اليونانيون، باعتباره من أهم الشوارع عبر التاريخ نظرًا لكثرة الجيوش التي مرت عليه وكثرة المعارك التي دارت على جانبيه، حتى وصلت إلى السيد مروان شهوان أحد أهم هواة جمع الآثار في غزة، نزلنا لقبو بيته الذي لا تتجاوز مساحته 140 مترًا وفتح باب القبو على كنز مليء بالآثار، أكثر من عشرة آلاف قطعة لعصور كثيرة جمعها داخل متحفه، يقول: “جميعها مرقمة لدى وزارة السياحة والآثار”، فسألته: هل هناك إقبال من الناس عليها؟
– في البداية فكرت كثيرًا بافتتاح متحف لتعريف الناس بما تحمله هذه الأرض في باطنها من آثار عصور غابرة، تثبت تمامًا علاقتنا بالأرض، لكني اكتشفت قطيعة بين الناس والآثار، لعل الاحتلال سببًا أساسيًا لدفن وطمس هذه الآثار أو لأنها مواقع عسكرية سابقة لم يستطع أحد الدخول لها، ولعل المسؤولون غائبين عن المشهد.
وفق بيانات الانتداب البريطاني بلغ عدد المواقع الأثرية في فلسطين 35 ألف موقع، تتنوع من مدن وقرى وكهوف ومساجد وكنائس وأبراج ومواقع عسكرية
وأنا أنظر لقطعة من سكة الحديد التي كانت تربط دمشق بالحجاز، قاطعني السيد شهوان بخاتم من العصر البرونزي عقيق خالص وصحن نحاسي مفلطح صغير عبارة عن “دعوة زفاف” منحوت به كلمات يونانية قديمة، ثم أشار لأباريق رمانية وثانية كنعانية وثالثة فرعونية.
وفق بيانات الانتداب البريطاني بلغ عدد المواقع الأثرية في فلسطين 35 ألف موقع، تتنوع من مدن وقرى وكهوف ومساجد وكنائس وأبراج ومواقع عسكرية، ضمت الضفة الغربية منها ما يقارب 12.032 موقع ومعلم، وقطاع غزة 184 موقعًا ومعلمًا، وبعد احتلال 1967 انخفض عدد المواقع والمعالم إلى 7 آلاف، وقد بلغ عدد الحفريات التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967 حتى عام 1998 لهذه المواقع تقريبًا 171 عملية حفر في مواقع الضفة الغربية في حين بلغت 90 عملية حفر في مدينة القدس وحدها.
تركت السيد شهوان والغمة في قلبي، فما يحدث في الضفة الغربية بسبب الاستيطان والحفريات من الاحتلال الإسرائيلي مشابه تمامًا لما حدث في غزة، لقد قضمت المستوطنات مئات المواقع الأثرية هناك، ومنعت ترميم المساجد القديمة والأديرة والمقامات التي على حدودها، وكمثال في القدس وحدها تعرض موقع القصور الأموية في الجزء الجنوبي للمسجد الأقصى لعمليات حفر من خبراء الاحتلال الإسرائيلي طمست معالمها، وعلى مدار عمليات الحفر لم يجد حفّارو الاحتلال سوى 6 قصور تعود لبداية العصر الأموي الإسلامي.
كذلك حارة المغاربة التي تعرضت للهدم في البلدة القديمة وهي أقرب الحارات للمسجد الأقصى وكانت تضم 135 منزلًا أثريًا قديمًا بنيت في العهد الأيوبي، واستمر المشروع الاستيطاني في المدينة إلى أن وصل لمصادرة 700 مبنى في حارة الشرف بالبلدة القديمة من القدس، وتسميتها بـ”حارة اليهود”، إضافة لمقبرة مأمن الله التاريخية التي أُزيلت بالكامل، وهي مقبرة إسلامية تعود للعصور الإسلامية الأولى يقدر عمرها بنحو 1300 عام، وقد أقام عليها الاحتلال حديقة الاستقلال، وحول جزءًا منها إلى مكب لأنقاض الأبنية وموقف كبير للسيارات، وأخيرًا إقامة متحف التسامح على جزء آخر منها.
بداية العام 2016 بدأ يتشكل أول فريق كشفي في قطاع غزة تحت اسم “جوالة فلسطين” امتدادًا لفريق الضفة الغربية، رفعت هاتفي على صديقي الطبيب والخبير في التاريخ الفلسطيني ومؤسس فريق “جوالة فلسطين” إسماعيل أبو شميس الذي رافقته عدة مرات لمواقع أثرية في قطاع غزة قد طمست معالمها أو لا يعرف الناس حقيقة ما جرى فيها وحقيقة ما يربطهم بها.
أخبرني أنه سيذهب في اليوم التالي الساعة الخامسة مساءً لمنطقة تل السكن لتعيين المكان قبل انطلاق أولى الرحلات الشبابية نحوه للحديث عن علاقته بالأرض وعلاقتنا به، كان المشهد البانورامي لغزة التلية واضحًا، يوضح شرقها وغربها، حيث كان البحر نقطة ضعفها من الغرب أمام الغزاة، فهي مسلحة بثلاثة تلال شرقية وجنوبية.
نعيد صيغة الحوار اليوم بعد عامين على انتهاء المشروع الذي لم يكتمل، رفعت الهاتف مرة ثانية على أبو شميس:
– لماذا لم يكتمل مشروع جوالة فلسطين من داخل قطاع غزة؟
– معوقات التنقل في الضفة الغربية وتغيير طبيعة الأرض واقتراب المواقع الأثرية من الحدود شرق غزة، إضافة للتوسع العمراني دون وعي وانضباط؛ كلها عوامل أثرت على عمل الفريق.
– هل من الضروري طرح المشروع مرة ثانية؟
– نعم يجب إيجاد وعي بداية لأهمية كثير من المسائل التاريخية الفلسطينية المجهولة، كيف كانت تعمل شبكة الطرق العالمية في هذه البلاد؟ ماذا عن شبكات الري وأهم المدن التاريخية؟ أهم المقامات والمشاهد والمعالم، مثلًا في غزة صنعت أهم مساكب الحديد لتطوير السيوف وكانت الأولى على مستوى التاريخ، وكانت غزة ممرًا تجاريًا كبيرًا للعابرين والغابرين، علاقتنا بالأرض مهمة كثيرًا لفهم طبيعة صراعنا مع الاحتلال.
قام جيل الصهاينة الأوائل بداية من ديفيد بنفنستي (أهم الشخصيات في الاحتلال الإسرائيلي في علم الجغرافيا) بالبحث الدقيق عن الآثار المقامة على أرض فلسطين
عدت للشبكة العنكبوتية أتصفح أكثر لمعرفة الخلل، وجدت موقعين مهمين هما “بلادنا فلسطين”، و”الموسوعة الفلسطينية”، هما في الحقيقة جهد شخصي غير مدعوم وليسا جهدًا مؤسسيًا يراكم عملية المعرفة بالتاريخ الفلسطيني أو حتى الأرشفة والتأريخ، حتى الأخطاء التاريخية ينقلها الباحثون من الموقعين السابقين كما هي.
“علينا اليوم البحث عن تاريخ محترف وليس خطابيًا، فالصراع أشمل بكثير” يقول أبو شميس.
في الوقت الذي نطالب فيه بعودة “الجنيه الفلسطيني” الذي يعتبر أول وثيقة اعتراف “بأرض إسرائيل”، فبحكم القانون الدولي اعتبرت فلسطين الانتدابية، ووفق صك الانتداب لا يجوز تغيير الطابع الإنساني أو الثقافي، وقتها صمم الانتداب البريطاني الجنيه الفلسطيني، في حين كانت عملة الكنعانيين هي “الشيقل” ونتيجة فهم الاحتلال لطبيعة الصراع أطلق على عملته الحاليّة اسم “الشيقل الجديد”، فيما نحن متمسكون بالجنيه الفلسطيني.
قام جيل الصهاينة الأوائل بداية من ديفيد بنفنستي (أهم الشخصيات في الاحتلال الإسرائيلي في علم الجغرافيا) بالبحث الدقيق عن الآثار المقامة على أرض فلسطين، ثم أكمل الطريق بعده ابنه الذي عمل سابقًا رئيسًا لبلدية القدس ميرون بنفنستي من خلال مشروع “جوالة في أرض (إسرائيل)” لبناء الشخصية الإسرائيلية الجديدة ابتداءً من الأطفال في المدارس، وكان هدف المشروع التناغم بين عضلات الاحتلال الإسرائيلي ووعي الجيل الجديد فيه، من خلال تجوالهم في الأرض وتعرفهم على آثارها.
في حين بقيت القطيعة بين الأرض وآثارها والجيل الفلسطيني الجديد، ابتداءً من المدارس التعليمية الفلسطينية إلى رحلات الكشافة المقطوعة، إلى عدم توافر المتاحف الفلسطينية التي تحافظ على الآثار أو منع الناس من سرقتها، آخرها سعي سلطة الأراضي في غزة لهدم أهم المعالم الأثرية في فلسطين “تل السكن”، دون وعي أو تخطيط، والسماح ببناء أبراج مدينة الزهراء السكنية إبان مجيء السلطة 1998 على جزء من التل، ولو حفر الناس لبضعة أمتار لوجدوا كنوزًا أثرية كبيرة.
كل ذلك أحدث قطيعة للجيل الحاليّ بالأرض، وساهم مع سعي الاحتلال المستمر لطمس المعالم الأثرية أو تهويديها أو إقامة مواقع عسكرية ومستوطنات تقع في حيزها، في فقدان الآثار مكانيًا ووجدانيًا، والسؤال هنا هل نعود خطوة للوراء ونعزز البرامج الوطنية لتعريف الجيل الجديد بالآثار الفلسطينية التي نهبت أم نترك البقية للاحتلال والجهلة حتى يتم طمسها بالكامل فيفرغ الصراع من مضمونه؟