ينظر الفيلسوف الفرنسيّ “ميشيل فوكو” إلى المدرسة بوصفها “ثكنة عسكرية” تعمل بكونها وسيلةَ مراقبةٍ تهدف إلى ترويض الأفراد وجعلهم ذواتًا تخضع للسلطة وتخدمها بهدف إنشاء “مجتمع انضباطيّ” يسهل التحكّم به والسيطرة عليه. والمدرسة عند “فوكو” هي شكلٌ من أشكال السلطة الحديثة التي تعمل من خلال المراقبة والضبط والتطويع، أو من خلال التهميش والإقصاء عن طريق الامتحانات على سبيل المثال، إذ أنها بالنهاية ليست سوى وسيلة “انتقاء” تهدف إلى إقصاء فئة على حساب أخرى، لكن بطريقةٍ مشروعية يقبلها المجتمع ككلّ.
ومع بدء العام الدراسيّ الجديد، تلحّ رؤية “فوكو” للمدارس وسلطويتها بطريقةٍ واضحة وصريحة، فالكثيرون ما يزالون يتساءلون عن المدى الذي تعمل فيه المدارس على إخضاع الطلاب وقولبتهم واستنساخهم ونزع حريّاتهم وتقييد رغباتهم. وقد صنعت السينما عدة أمثلة رائعة تتعامل مع تحدّيات المدارس والتعليم في عالمنا المعاصر، وأثر ذلك على الأفراد والمجتمع. لعلّ أبرزهما بالنسبة لي: فيلم “مجتمع الشعراء الموتى”، وفيلم “لا تدعني أذهب أبدًا”.
المدرسة عند “فوكو” هي شكلٌ من أشكال السلطة الحديثة التي تعمل من خلال المراقبة والضبط والتطويع، أو من خلال التهميش والإقصاء
مجتمع الشعراء الموتى: التعليم كوسيلة لإيجاد “صوتك الخاص”
قد يذكر الكثيرون الممثّل الراحل “روبن ويليامز” من خلال عدّة أعمالٍ وأدوارٍ له، لكنّه بالنسبة لي كان دائمًا وسيظلّ “السيد جون كيتنغ”، معلّم الأدب الإنجليزي الذي تمرّد على التعليم النمطيّ والتقليديّ محاولًا إحداث فرقٍ في حياة طلّابه ومساعدتهم للوصول إلى التنوير الحقيقيّ من خلال العِلم والتعلّم ومدّهم بمهارات الحياة الحقيقية التي يحتاجونها لا تلك المزيّفة التي يُمليها عليهم المجتمع والكِبار.
إذ ينظر الفيلم للتعليم على أنه طريقةً أساسية لتنوير الأفراد حول الحياة والواقع لا طريقة لضبطهم والتحكّم فيهم والسيطرة على حياتهم ومستقبلهم، كما ويصوّره بكونه وسيلةً مهمّة للربط ما بين يتعلّمه الطلاب في المدرسة وما يحدث في حياتهم الشخصية، لا سيّما وأنه يركّز على نقطةِ النظر إلى الأشياء من عدة مناظير وزوايا لا من منظورٍ واحدٍ فقط. وهو بذلك يتعارض مع الأوساط الأكاديمية التي تسيطر عليها الأساليب التقليدية الرديئة منذ مئات السنين.
تريلر فيلم “Dead Poets Society”- 1989
ففي اليوم الأول له في المدرسة، يطلب “كيتنغ” من طلّابه أنْ يقول كلٌّ منهم بتمزيق الفصل الأول من كتابه المدرسيّ، نظرًا لأنّ المؤلف كان قد حصر دراسة الشِعر في نموذج عالميٍّ موحّد يمكن الرجوع إليه لقياس عظمة أو رداءة أيّ قصيدة في العالم. وبذلك، أراد “كيتنغ” أنْ يوصل لطلّابه أنّ هذا الكتاب، مثل غيره، لا يُفترض أن يُنظر إليه على أنه كتاب مقدّس، بل هو أداة تعلّم يمكن دراستها بالتفصيل إمّا للاستفادة منها أو التخلّص منها ونقدها دون أيّ تردّدّ أو خوفٍ يُذكر.
ينظر الفيلم للتعليم على أنه طريقةً أساسية لتنوير الأفراد حول الحياة والواقع لا طريقة لضبطهم والتحكّم فيهم والسيطرة على مستقبلهم
المعلّم في الفيلم، أي “كيتنغ”، لا يوجّه طلّاب إلى ما يجدر بهم التفكير فيه، أو إلى ما يجب عليهم أنْ يحفظوه من أجل الامتحانات والعلامات والتقييم، وإنّما يقوم بدورٍ توجيهيّ وتوعيٍّ بحيث يمكن للطلاب استخدام أيٍّ ممّا يتعلّمونه في المدرسة وتطبيقه في الحياة الواقعية، خاصة فيما يتعلّق بمرحلة ما بعد انتهاء المدرسة واختيار المسار الوظيفيّ.
روبن ويليامز في دور “جون كيتنغ” في فيلم “مجتمع الشعراء الأموات”- 1989
يحاول “كيتنغ” طوال دقائق الفيلم تعليم طلابه لكي يجد كلٌّ منهم “صوته الخاص” وأنْ يستكشفوا أنفسهم وذواتهم وأحلامهم وشغفهم من خلال الغوص في الذات والتعبير عنها بعيدًا عن ما تفرضه عليهم سلطة المجتمع أو العائلة أو المدرسة. أمّا الدرس الأكثر فائدةً من ذلك المعلّم فكانت “Carpe Diem“، الجملة اللاتينية التي تعني “انتهز الفرصة”، وهي مقطع من قصيدة لاتينية لهوراس، الشاعر اليوناني القديم.
فيلم “لا تدعني أذهب أبدًا“: حين تسيّرنا المدرسة لتجعلنا نُسخًا
يحكي الفيلم قصة مجموعة من الأطفال الذين ينشؤون في مدرسة داخلية إنجليزية تقليدية تُدعى “هايلشام”. وكغيرها من المدارس التي توصف بكونها “عريقة”، تحتوي المدرسة على الكثير من المرفقات التي تسهّل حياة الطلاب وتخدمهم، خاصة تلك التي تركّز على الجانب الإبداعيّ والذكائيّ لديهم. ومثلها مثل العديد من المدارس أيضًا، فلديها لغتها وتقاليدها الصارمة الخاصة سواء من قبل المسؤولين أو المعلّمين أو حتى أولياء الأمور.
يدرس الفيلم تداعيات تحوّل المدارس إلى شكلٍ آخر من أشكال العبودية التي تهدف للسيطرة على الطلاب وبالتالي على المجتمع
أما فكرة الفيلم باختصار فهي كالآتي: جميع الطلاب في مدرسة “هايلشام” ليس لديهم أيّ مستقبلٍ حر، حيث إنّ حياتهم محددة سلفًا تمامًا، وليس هناك ما يمكنهم “اختياره” و”تجربته”، سواء فيما يتعلّق بالحياة الشخصية أو المهنة الوظيفية، فالمدرسة قد تكفّلت بالأمر منذ زمنٍ طويل، بمساعدة المجتمع والسُلطة المتحكّمة.
تريلر فيلم “NEVER LET ME GO”- 2010
وبالتالي، فقد اختارت المدرسة بناءً على رؤى يجهلها الطلاب أنفسهم، مستقبلًا واضحًا ومحدّدًا لهم. فجميع طلّاب المدرسة تسير حياتهم نحو نقطةٍ واحدة، سيصبحون بعد التخرّج من المرحلة الثانوية مقدّمي رعاية لبعضِ الأفراد في المجتمع الذين يعانون من نوعٍ من السرطان لا يمكن شفاؤه، ثمّ سينتقلون إلى المرحلة التالية، وهي التبرّع بأعضائهم ومنحها لهم حتى لا يعود لديهم ما يستطيعون التبرّع فيه فيموتون.
يكشف أبطال الفيلم في نهايته أنّ “مدرسة هايلشام” كانت مجرّد تجربة اجتماعية تهدف إلى توفير ظروفٍ إنسانية لاستنساخ البشر، في إشارة واضحة للجهد الذي تبذله المدارس التقليدية في تحويل الأفراد إلى نسخٍ مسيّرة لا تملك الحرية في تحديد خياراتها ورغباتها وأهدافها في الحياة، وإنما تسير وفقًا لنصٍ كُتب لها مسبقًا.
يدرس الفيلم تداعيات تحوّل المدارس إلى شكلٍ آخر من أشكال العبودية التي تهدف للسيطرة على الطلاب وبالتالي على المجتمع، من خلال عدة أساليب وطرق مدروسة ومكتوبة بعناية فائقة تمنع الفرد من التفكير أو الغوص في أعماق نفسه لاتخاذ قراراته الشخصية واتّباع صوته الداخليّ، ما يُنتج أفرادًا مستنسخين متشابهين يسهل التحكّم بهم والسيطرة عليهم.
وبكلماتٍ أخرى، يمكننا التفكير بمدرسة “هايلشام” كممثل للثقافة السلطوية التي تخضع لها مؤسسات التعليم الحداثية، حيث يكون التركيز الأول على عددٍ من الطلاب المحظوظين دون غيرهم في المجتمع وتنشئتهم بكونهم “نخبةً” تبعًا لتقاليد المدرسة وأساليبها لا تبعًا لرغبتهم الفردية أو رؤيتهم الشخصية.
أمّا قائمة الأفلام السينمائية والإنتاجات التلفزيونية التي تناولت المدرسة كنوعٍ من “السُلطة” كما وصفها ميشيل فوكو فتمتدُّ وتطول، وجميعها استطاعت بطرقٍ مختلفة الحديث عن “ضحايا” المؤسسات التعليمية مثلهم مثل ضحايا السجون والثكنات العسكرية، وضحايا المجتمع المختلفين الذين يمكننا القول أنهم جميعًا يشتركون في ماضيهم المدرسيّ وتلقينهم الأيديولوجي وجميعهم حوّلتهم تلك المؤسسات، بشكلٍ أو بآخر، إلى كائنات متشابهة تمّ ضبطها ورسم مسار حياتها تبعًا لسلطة الفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية.