“ولي الأمر لا يُنازع في مقامه ولا في منصبه ولا يُنافس عليه، وإن رأيته يرتكب المعاصي على التلفاز فلا يجوز الخروج عليه، وإن رأى الولي أن يقتل ثلث الشعب من أجل أن يسلم الثلث الآخر لأذن له الشرع الإسلامي”، هذا ما يقوله “علماء السلاطين”، وينسبونه إلى الشرع الحكيم، ويبررونه بحفظ دماء المسلمين الخاضعين لولي الأمر أيًا كانت عيوبه، أما المسلمون المنتفضون المعارضون فهم “كفرة” يجوز اعتقالهم، بل واغتيالهم، إن كانوا أئمة أو علماء دين.
لكن دورهم لا ينتهي هنا، فالتحريض بأوامر ملكية مستمر، وتزامنًا مع حزمة المحاكمات السرية التي تعقدها السلطات السعودية، ومطالبة المحكمة الجزائية المتخصصة بإعدامهم، تعمد إمام وخطيب المسجد الحرام عبد الرحمن السديس، مهاجمة المعتقلين السياسيين في خطبة الجمعة، ووصفهم بـ”الخائنين الخارجين على ولي الأمر” تنفيذًا لأوامر الديوان الملكي.
حملة لتشويه “معتقلي الرأي” بقيادة رجال الدين
كعادته استغل السديس خطبة الجمعة، لكن هذه المرة في شن هجوم ضارٍ على “معتقلي الرأي” في بلده، ففي إشارة للداعية سلمان العودة ورفاقه، ودون أن يسمِّي أحدًا، صعد السديس – الذي وصف ترامب قبل ذلك بأنه “قطب سلام”، منبر الحرم، في يوم الجمعة الماضية، وبعد أن جدد بيعته لولي العهد محمد بن سلمان وأبيه، مستحضرًا ثقة الناس فيهم، شرع في الهجوم على هؤلاء الدعاة ووصفهم بـ”المتنكرين لدينهم وهويتهم، الخائنين لأوطانهم وبلادهم، الخارجين على ولاة أمرهم وأئمتهم”.
خطبة السديس في المسجد الحرام يوم أمس، كانت خطبة سياسية بامتياز، واتهام للآخرين وتخوينهم بغير حق، خصوصاً أنها جاءت بالتزامن مع تحريض النيابة على دعاة الوسطية والاعتدال، ومطالبتها بقتلهم!
— معالي الربراري (@Mrbrary) September 8, 2018
وفي محاولة للتماشي مع سياسة السلطات السعودية في تشويه صورة هؤلاء العلماء، تابع السديس في خطبته قائلاً: “إن مما يثير الأسى أن نرى أقوامًا من أبناء الأمة قذفوا بأنفسهم في مراجل الفتن العمياء والمعامع الهوجاء في بُعد واضح عن الاعتدال والوسطية، وهذا تفريط وجفاء وتنكر واضح لسبيل الحنفاء الأتقياء”.
وتابع السديس: “أما علم هؤلاء أن أناملهم مستنطقة وأياديهم مستشهدة؟ ألا ما أحوج الأمة في ختام عامها إلى التوبة والاستغفار والإنابة وتجديد الثقة بربها أولاً ثم بأنفسها وطاقات أبنائها في منازلة الأفكار المتطرفة ومكافحة فلول الغلو والإرهاب ودعاة التحرر والكراهية والشائعات المغرضة والظلم والقهر والتسلط والعنف”.
لم يكف هؤلاء أن السلطات السعودية تمضي بالفعل في معاقبة “معتقلي الرأي” أشد العقاب، بل كان التحريض أسلوبًا ممنهجًا
هذا فيما يخص السديس في يوم الجمعة، أما في اليوم الموالي، فقد سار صالح الفوزان على النهج ذاته مفتيًا بما أسماه “حرمة الخروج عن ولي الأمر”، حيث قال في مقطع فيديو: “الخروج على ولي الأمر يُعَد كبيرة تستحق قتل صاحبها ولو كان مسلمًا، عقوبة وتعزيرًا وردعًا لأمثاله”، بحسب صحيفة “سبق” السعودية.
لم يكف هؤلاء أن السلطات السعودية تمضي بالفعل في معاقبة “معتقلي الرأي” أشد العقاب، بل كان التحريض أسلوبًا ممنهجًا، وكذلك فعل وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في السعودية عبد اللطيف آل الشيخ، فقبل يومين فقط من إعلان حسابات سعودية إيقاف الشيخ العريفي عن الخطابة، كان آل الشيخ قد حذر من أن جميع الدعاة الذين سبق لهم التحريض أو طرح أفكار “لا محمودة”، معروفون وتم رصدهم.
وفي مقابلة ببرنامج “بالمختصر” على فضائية “إم بي سي”، هدد وزير الشؤون الإسلامية الخطباء والدعاة الذين سبق لهم “الطرح اللامحمود، أو من تجاوز في السابق في الإساءة أو التحريض أو التهييج”، بالمنع التام من أي نشاط تابع للوزارة، وهي التي تشمل أيضًا خطب الجمعة، لكنه نسى أو تناسى أن السديس والفوزان صعدا المنابر وحرضا، فكانا استثناءً للقاعدة.
كما انطبقت تصريحات الوزير السعودي أيضًا على الشيخ صالح آل طالب إمام وخطيب المسجد الحرام، فقبل أسابيع اعتقلته السلطات السعودية، وأشار حساب معتقلي الرأي إلى أن سبب الاعتقال خطبة ألقاها خطيب المسجد الحرام عن المنكرات ووجوب إنكارها على فاعلها.
القمع باسم الدين
حالة من الجدل الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي أثارتها تصريحات عبد اللطيف آل الشيخ، لكنها لم تخرج – بحسب ناشطين – عن دلالات تؤكد سير وزارته على الخطة التي رسمها ولي العهد محمد بن سلمان بإبعاد كل صاحب فكر إسلامي لا يوافق السلطة بشكل تام.
لكن من يدقق في حال وأحوال “شيوخ السلطة” في السعودية هذه الأيام سيخرج بنتيجة حاسمة مفادها تلقيهم الأوامر بضرورة الهجوم على زملائهم ممن زج بهم في السجون، ومن منهم من دعت النيابة لإعدامهم.
أصبح في المملكة خطاب ديني مسعاه تحقيق إرادة الحاكم
ولأن تعاطف الناس مع هؤلاء ليس في مصلحة صورة السلطات، فإنه من الضروري تشويه سمعتهم وإلصاق التهم بهم، ولا أحد أجدر بلعب هذا الدور من رجال الدين في المملكة “المحافظة”، وما أكثر هؤلاء في السعودية اليوم من المستعدين لفعل وتحريف أي حرف أو آية أو حديث من أجل التقرب من “ولي الأمر”.
إنه نهج جديد يسير عليه “علماء السلاطين” الذين يحظون برعاية رسمية من أنظمة أرعبتها ثورات الربيع العربي، ونهج لم يعهده المسلمون، فهم منذ قرون على نهج أسلافهم، قناعتهم “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، فثمة خطاب ديني مبني على تبيان الحقيقة المجردة.
لكن بعد القمع السياسي، يبدو أن الدور جاء على القمع باسم الدين، بعد أن أصبح هناك خطاب ديني مسعاه تحقيق إرادة الحاكم، ويتحدث بصوته ويواليه بحدة ويبرر أفعاله، ويشرع له الاستبداد، فاكتسب أصحابه القوة الداعمة من العائلة الحاكمة.
مبدآن لا يمكن لهؤلاء تخطيهما، وهما الولاء الحاد للعائلة الحاكمة، وطاعة ولي الأمر واجب مطلق، لكنهما يتغيران بحسب التحالفات السعودية، ليس هذا فحسب، بل يقدم هؤلاء الحجة الدينية لمن يريدون موالاتهم من حكام الغرب بغية الحصول على مناصب عليا.
عبّدت سياسات ابن سلمان الطريق أمام تسريع الإعدامات في بلاده، وأعطت الضوء الأخضر لتنفيذ المزيد منها، تحت غطاء “محاربة الإرهاب”
وإذا نظرنا في التجربة التاريخية الإسلامية تحديدًا، فنجد أن طبقة العلماء كانت قد شكلت – كما يشير إلى ذلك المفكر الأمريكي نوح فيلدمان في كتابه “سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها” – الكابح الوحيد والمهم لسلطة الحكام، وذلك باعتبارهم حماة الشرع والمخولين بتفسيره، الأمر الذي أورثهم مكانة مميزة في منظومة الحكم الإسلامي التقليدية.
أما بالنسبة للمملكة نفسها، فهي تشجع التحريض على هؤلاء العلماء والدعاة، لأنهم – بحسب رؤية ولي العهد – يعيقون إصلاحات اجتماعية واسعة سيكون من شأنها تحويل المجتمع السعودي وجعله “طبيعيًا ومتسامحًا وطيبًا”، فبلاده عانت خلال العقود الماضية من سيطرة ما وصفها بالمذاهب الصارمة التي حكمت المجتمع”.
لهذه الأسباب عبّدت سياسات ابن سلمان الطريق أمام تسريع الإعدامات في بلاده، وأعطت الضوء الأخضر لتنفيذ المزيد منها، تحت غطاء “محاربة الإرهاب”، كما طالت رؤوس العديد من المعارضين المحتجزين سابقًا، الذين يصفهم بـ”دعاة الغلو والتطرف”، قائلاً: “قد آن الآوان لمحاربة هذه الأفكار والقضاء عليها فورًا”.
ومقارنة بسلفه، تبدو القصة التي يشهدها عصر ابن سلمان أكثر جذرية عن سابقاتها، إذ شكل الصمت لا المعارضة، بحسب المتابعين، تهمة يمكن أن يُسجن وفقًا لها رجال الدين، وهذا ما اتضح في حملة الاعتقالات التي شنها ابن سلمان بصورة واسعة تجاه أشخاص لم يبد أي منهم معارضة معلنة، وبدء النيابة العامة بتوجيه مطالباتها نحو إعدام عدد منهم، ليشكل الحدث صدمة لكثير من المراقبين والمتابعين.
صورة للمعتقلين نشرها حساب “أخبار السعودية” على تويتر
الطرق نحو “سعودية علمانية” محفوف بالإعدامات
لم يكن ابتعاد سلمان العودة – وهو أحد أبرز دعاة الوسطية في العالم الإسلامي – عن التدخل فيما يتصل بالنقاش السياسي والتفاعل فيما يرتبط بقرارات السلطة في الآونة الأخيرة رادعًا للسلطات السعودية من اعتقاله في سبتمبر 2017 وفرض حظر السفر على 17 من أفراد أسرته المباشرين، ومن ثم دعوة النيابة العامة السعودية مؤخرًا لإعدامه بعد توجيه 37 تهمة ضده.
اعتقال لم يكن فيه العودة استثناءً، فحملة الاعتقالات التي شهدتها المملكة عقب صعود الأمير الشاب محمد بن سلمان لولاية العهد، طالت أمراء من العائلة الحاكمة وعلماء وشخصيات فكرية ودعوية عدّت رموزًا مؤثرة، لا على الصعيد المحلي فقط ولكن على المستوى الإسلامي بعمومه، كان منهم سلمان العودة نفسه، الداعية الستيني الذي عبرت أفكاره حدود بلاده.
وتشهد السعودية منذ 10 من سبتمبر/أيلول من العام الماضي حملة اعتقالات طالت عشرات الشخصيات مثل الدكتور علي العمري وعوض القرني ومحمد الهبدان وعلي بادحدح ومحمد موسى الشريف وإبراهيم اليماني وغيرهم الكثير، وقبل شهرين، طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان السلطات السعودية “بالكشف فورًا” عن مكان وظروف احتجاز نواف الرشيد الذي تسلمته من السلطات الكويتية يوم 12 من مايو/أيار الماضي، وهو يحمل الجنسيتين السعودية والقطرية.
لا تعرف على وجه الدقة آلية عمل المنظومة القضائية السعودية، فلا ضمانات من قريب أو بعيد تكفل محاكمة عادلة أو علنية على الأقل
ويرى مراقبون أن السعودية نفذت عددًا من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية مؤخرًا، لكن هذه الإصلاحات صاحبتها إجراءات ضد المعارضة، إذ احتجزت السلطات عشرات المفكرين والنشطاء خلال العام الماضي بينهم نساء دافعن عن حق المرأة في قيادة السيارة بالمملكة.
الموقف السعودي جاء ليعكس تناقض السياسة الحاليّة لولي العهد محمد بن سلمان الذي رفع راية الإصلاح وتحرير المرأة سنة 2017، فيما يقبع في السجون السعودية عدد من الناشطات الحقوقيات والرائدات في مجال تمكين المرأة السعودية أمثال لجين الهذلول وإيمان النفجان وعزيزة اليوسف، فضلاً عن الناشطة المعروفة المدافعة عن حقوق المرأة هتون الفاسي التي ألقت السلطات القبض عليها في يونيو/حزيران الماضي، بعدما كانت تخطط لاصطحاب صحفيين في سيارتها للاحتفال بنهاية الحظر الذي كان مفروضًا على قيادة المرأة للسيارة.
ورغم التنديد الحقوقي، تعتقل السعودية ما يناهز مئة شخصية، وتتكتم على الاعتقالات وأسبابها، بيد أن معلومات مسربة تفيد بتعرض العديد من المعتقلين لانتهاكات خطيرة تشمل التعذيب، لحملهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها أو التخلي عن مواقفهم المنتقدة للسلطات.
تشعر كندا بقلق بالغ إزاء الاعتقالات الإضافية لنشطاء المجتمع المدني ونشطاء حقوق المرأة في #السعودية ، بما في ذلك #سمر_بدوي . نحث السلطات السعودية على الإفراج عنهم فوراً وعن جميع النشطاء السلميين الآخرين في مجال #حقوق_الانسان.
— Canada in KSA (@CanEmbSA) August 5, 2018
ولم يكن من المتوقع أن يصل التصعيد ضد الدعاة السعوديين المعتقلين في السجون السعودية لمطالبات بالإعدام بحق أحدهم، بتهم “الإرهاب والتحريض”، في خطوة رفضتها جماعات حقوق الإنسان، فقد اعتبرت “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” في بريطانيا أن تلك المحاكمات هدفها الانتقام من الصامتين عن مدح النظام أو المنتقدين له، على حد سواء.
ولا تعرف على وجه الدقة آلية عمل المنظومة القضائية السعودية، فلا ضمانات من قريب أو بعيد تكفل محاكمة عادلة أو علنية على الأقل، ووسط محاكمات غير عادلة ولا تخضع للقوانين المتعارف عليها دوليًا، ترفض السعودية أي توصيات بشأن تعاملها القضائي والأمني مع مواطنيها خاصة في مجال الحريات، لذا كان هجومها الحاد والعنيف على كندا متوقعًا في ظل انتهاج نظام ديكتاتوري لا يعتمد الإصلاح الحقيقي – حسب محللين – بل يهدف فقط لإحكام قبضة ابن سلمان على العرش والإطاحة بكل معارضيه، سواء داخليًا أم خارجيًا.
التوجهات الأخيرة التي تقودها المملكة تقود لقراءة أكثر توجهًا نحو سعودية علمانية”، يمثل المشايخ فيها خطرًا على التحولات العلمانية التي تستمر باضطراد
كما استنكرت هيئات حقوقية سعودية ودولية وشخصيات عامة هذه الاعتقالات، ودعت إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين، إلا أن السعودية أبعدت الدعاة عن الشاشة، ليبقى من الشيوخ من حصل على رضى السلطات فقط، وهم المعروفون بعدم تناول الأحداث السياسية في حياتهم الإعلامية أو الدعوية.
وفي قراءة مقاربة، فإن التوجهات الأخيرة التي تقودها المملكة، التي أعلنت النيابة العامة السعودية توجيه حزمة تهم لعدد من المشايخ، ومن ثم المطالبة بإعدامهم، تقود لقراءة أكثر توجهًا نحو سعودية علمانية”، يمثل المشايخ فيها خطرًا على التحولات العلمانية التي تستمر باضطراد، ولا يتم ذلك إلا بتجفيف منابع الصبغة الدينية التي لونت المملكة على امتداد تاريخها.
هذه التوجهات الأخيرة لا يمكن النظر إليها وفهمها إلا في سياق ما صرح به السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، الذي قال: “ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط هو حكومات علمانية”، بمعنى أنها تأتي في سياق علمنة النظام السياسي السعودي.