تعد الباراغواي من أول الدول التي حذت حذو الولايات المتحدة في نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس في مايو/أيار الماضي، في اعتراف من أولى دول أمريكا اللاتينية بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني تبعًا لما خطته الإدارة الأمريكية، كما كان لرئيس الباراغواي السابق هوراسيو كارتيس حضورًا بارزًا يوم الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعدما أعلنت وزارة خارجية باراغواي أنها اتخذت خطوة نقل سفارتها هي الأخرى بشكل مستقل دون التأثر بموقف أي دولة أخرى.
تبعت الباراغواي دولة جواتيمالا في نقل السفارة الأمريكية من الشهر نفسه، إلا أنه أعادت الباراغواي أمر الدول اللاتينية لسفاراتها من تل أبيب إلى القدس إلى الأنظار من جديد بعد مرور أكثر من 3 شهور على الأمر، إذ جاء رئيس جديد للبلاد من أصل لبناني يُدعى ماريو عبده، وقرر الأخير اتخاذ خطوة وُصفت بـ”المبالغ فيها”، بعدما تراجعه عن نقل سفارة بلاده إلى القدس وعودتها من جديد إلى تل أبيب واستمراره على موقف وسياسة بلاده بعدم الاعتراف بالسيادة الكاملة لـ”إسرائيل”، متجاهلًا بذلك ضغوطات الولايات المتحدة على استمرار عمل سفارة بلاده من القدس.
ذكرت وكالة رويترز أن مكتب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس استمر في حث رئيس الباراغواي الجديد على الاستمرار في عمل سفارتهم من القدس بدلًا من تل أبيب، إلا أن الرئيس الجديد قرر عرقلة مسار الولايات المتحدة في الدفع بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني دوليًا، وجعل أولى قراراته كرئيس منتخب للبلاد عودة سفارته إلى تل أبيب متحديًا بذلك الضغط الأمريكي ضد هذا القرار.
بعد يوم واحد من قرار رئيس الباراغواي، أعلنت تركيا افتتاح سفارة لها لأول مرة في الباراغواي، دعمًا منها لموقف بلاده من عدم تأييدها لسيادة الكيان الصهيوني على مدينة القدس المحتلة، وتراجعها عن كونها البلد الأولى التي اتبعت الولايات المتحدة في نقل سفارتها.
عمل السفير التركي لدى الباراغواي من مدينة بوينس أيريس في الأرجنتين، ولم يكن له ولا لدولته مقرهم الخاص بهم في الباراغواي كسفارة للجمهورية التركية، حيث كان لتركيا قنصليتان فقط إحداهما في مدينة أسونسيون والأخرى في سيوداد ديل إستي، إلا أن قدوم رئيس الباراغواي الجديد ماريو عبده أعلن دعمًا جديدًا من نوعه على البلاد من الإدارة التركية، بدأ بفتح سفارة للجمهورية التركية هناك، معلنًا بداية علاقات جديدة من نوعها تمتد مع القارة اللاتينية.
زيادة ملحوظة في تطور العلاقات الاقتصادية والسياحية
في زيارة الرئيس التركي للمكسيك، إلى اليمين بينا نيتو رئيس المكسيك بعد توقيع اتفاقيات تجارية مع تركيا عام 2013
في بدايات العام الماضي أعلنت الإدارة التركية مساعيٍ حثيثة لتطوير علاقاتها الدبلوماسية مع دول أمريكا اللاتينية على مختلف الأصعدة أهمها العلاقات الاقتصادية، حيث ارتفع حجم التجارة الخارجية لتركيا مع 33 دولة لاتينية إلى 9 مليارات دولار في العام الماضي بعد كونه لم يتجاوز المليار دولار قبل عقد من الآن، لتصبح المكسيك أكثر الدوg أهمية إستراتيجية لتركيا من دول أمريكا اللاتينية منذ عام 2013، حتى إنه صار للمكسيك قنصليات تمثلها ليس فقط في إسطنبول وإنما في بضع مدن تركية أخرى مثل إزمير ومرسين.
كان ذلك تبعًا لأول زيارة رسمية على مستوى رئاسي من المكسيك إلى تركيا عام 2013، نتج عنها توقيع 13 اتفاقية بين البلدين من بينها مذكرة تفاهم رفعت العلاقات الثنائية إلى الشراكة الإستراتيجية وبروتوكول أنشئ بناءً على لجنة وطنية ثنائية القومية بين البلدين، بدأت بعدها سلسلة من الزيارات الرسمية بين البلدين كان أهمها زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمكسيك عام 2015 بعد إعلان بلاده اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين أواخر عام 2014، لتعلن وكالة التعاون والتنسيق التركية افتتاح أول مكتب إقليمي لها في القارة اللاتينية بالعاصمة المكسيكية مدينة مكسيكو سيتي.
زاد حجم التبادل التجاري بين المكسيك وتركيا من 270 مليون دولار قبل 10 سنوات من الآن إلى أكثر من مليار ونصف دولار بحلول عام 2015
ذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه من المتوقع أن يصل حجم التجارة بين البلدين إلى 5 مليارات دولار بحلول عام 2030 بعد توقيع مذكرات تفاهم بخصوص السياحة والحفاظ على الآثار والتجارة الحرة في عام 2016، مما يجعل المكسيك بحسب ما ورد على موقع الرئاسة التركية أكبر شريك اقتصادي لتركيا في أمريكا اللاتينية، بعدما قرر الرئيس التركي تسهيل السفر من وإلى تركيا بالنسبة للمكسيك والمكسيكيين بتصميمه على وجود رحلات طيران مباشرة على الخطوط التركية ورفعه عن تأشيرات الدخول لتركيا بالنسبة للمكسيكيين.
على الرغم من كون المكسيك شريك تركيا الأقوى من بين الدول اللاتينية، فإنها ليست الشريك الوحيد، إذ كانت تركيا قد أعلنت عام 2006 أنها سنة “أمريكا اللاتينية”، ومنذ ذلك الحين تعمل الأخيرة على عقد مذكرات تفاهم بين دول مثل كوبا وكولومبيا والبرازيل، حيث منحت تركيا الأولوية في إطار سياسة الانفتاح التركية على أمريكا اللاتينية والكاريبي لتنظيم الزيارات والاجتماعات رفيعة المستوى من أجل تعزيز علاقاتها السياسية مع دول هذه المنطقة، وتوقيع اتفاقيات التعاون في المجالات التجارية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وتشجيع التجارة، وزيادة التمثيل الدبلوماسي والتفاعل الثقافي.
كانت زيارة رجب طيب أردوغان عام 2015 للمكسيك بمثابة أول ظهور دبلوماسي رسمي لدول أمريكا اللاتينية بعد انقطاع أكثر من 20 عامًا، أعقبها الرئيس التركي بزيارة ثانية في العام الذي يليه لمجموعة من الدول كان من بينها تشيلي وبيرو والإكوادور، كما تلاه وزير الخارجية التركي في بدايات عام 2017 في زيارة رسمية للأرجنتين والباراغواي وجمهورية الدومينيك.
سوق مشتركة بين الأتراك ودول الكاريبي
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا في عام 2017 لعقد 5 اتفاقيات تجارية مستمرة مفاوضاتها
يبدو أن لكل قرار سياسي مرجعية اقتصادية، إذ كان لتركيا السبق في توقيع اتفاقات اقتصادية شملت 18 دولة لاتينية من بينها البرازيل والباراغواي وفنزويلا وبيرو، وتم في إطار هذه الاتفاقيات إعداد الأرضية القانونية من أجل اللجان الاقتصادية المشتركة، كما دخلت اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين تركيا وتشيلي حيز التنفيذ عام 2011، وما زالت المباحثات مستمرة من أجل توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع كل من الإكوادور وكولومبيا والمكسيك والبيرو، من أجل إنشاء سوق مشتركة بين تركيا ودول الكاريبي.
نظمت الخطوط الجوية التركية رحلات مباشرة لمدن في أمريكا اللاتينية لأول مرة مثل بوغوتا في كولومبيا وسان باولو في البرازيل
تهدف تركيا إلى زيادة حضورها من خلال تحقيق التضامن مع دول المنطقة الكاريبية عبر التعاون التنموي والمساعدات الإنسانية التي تنفذها وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) التي افتتحت مكتبها الأول في المنطقة في المكسيك عام 2015، ومكتبها الثاني في بوغوتا عام 2016، وأنجزت في الفترة ما بين 2012 و2017، 127 مشروعًا وصلت قيمتهم نحو 11 مليون دولار أمريكي في مجال التعليم والصحة والمياه وعلوم الرعاية الصحية والمساعدات الطارئة والإنسانية وتطوير الوحدات الإدارية وتلبية الاحتياجات الاجتماعية والإسهام في الحياة الثقافية.
كما تُنظّم الخطوط الجوية التركية رحلات مباشرة من وإلى بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين رغم المسافة البعيدة التي تصل مدتها إلى 18 ساعة تقريبًا، ضمنها ساعة استراحة في العاصمة البرازيلية ساو باولو، كما تعفي السلطات الأرجنتينية المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول، حيث يتمكن أصحاب الجوازات العادية والخاصة والخدمية والدبلوماسية من الإقامة في الأراضي الأرجنتينية مدة 90 يومًا.
تم فتح أقسام فريدة من نوعها متخصصة في دراسة اللغة التركية والتاريخ التركي وآدابه في جامعات لاتينية مثل الجامعة الوطنية في بوغوتا عاصمة كولومبيا
كانت قد أقامت تركيا علاقات مؤسساتية مع أغلب المنظمات الإقليمية التي تقدم منابر مهمة لإجراء الاتصالات مع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، وخلال الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أمريكا اللاتينية في شهر يناير/كانون الثاني 2017، تمت الموافقة على الطلب الذي تقدمت به تركيا من أجل نيل عضوية لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية والكاريبي (ECLAC) التي تقع في تشيلي، واكتسب قرار عضوية تركيا الصفة الرسمية بعد المصادقة عليه خلال الاجتماع الذي عقده المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتاريخ 25 من يوليو/تموز 2017.
إلى يمين الصورة رئيسة اللجنة الاقتصادية لمنطقة الكاريبي والدول اللاتينية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
ارتفع عدد السائحين القادمين من دول لاتينية أخرى فوصل إلى 18 ألف سائح من المكسيك ونحو 8 آلاف سائح من شيلي و أكثر من 4 آلاف سائح من فنزويلا
انعكس ذلك على العلاقات الثقافية والاجتماعية بين البلدين، إذ جاء إلى تركيا في شهور الصيف الماضية فقط نحو 139 ألف سائح من أمريكا الجنوبية كان أغلبهم من البرازيل والأرجنتين، ما يمثل ارتفاعًا في عدد السائحين القادمين من القارة اللاتينية بنسبة 25% عما كان عليه في شهر يناير/كانون الثاني من العام الحاليّ وأكثر من 50% عن أعدادهم في العام الماضي بحسب ما صرحت به وزارة السياحة التركية، حيث ساعدت الرحلات المباشرة للخطوط الجوية التركية من الدول اللاتينية إلى تركيا ورفع تأشيرة الدخول على زيادة عدد السائحين القادمين لها لهذا العام.
يبدو أن السياسة الخارجية التركية تعطي للقارة اللاتينية اهتمامًا فريدًا من نوعه بعد انقطاع دام 20 عامًا منذ آخر زيارة رسمية على مستوى رئاسي من الحكومة التركية، كسرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معلنًا بداية عهد جديد مع رؤساء الدول اللاتينية ومساندًا لهم على المستوى الاقتصادي والثقافي والتنموي، فهل سنجد تحركات من دول لاتينية مختلفة غير الباراغواي في السياسة الدولية تدعم الموقف التركي من القضية الفلسطينية؟