ترجمة وتحرير: نون بوست
في تل أبيب، تحزم بيورت كراجستين وشريكها الإسرائيلي جميع ممتلكاتهما في صناديق في تل أبيب، وسيغادران الأسبوع المقبل إلى ستوكهولم حيث ستتولى هي منصب أستاذ مساعد. وتقول كراجستين: “لا أريد أن أعيش هنا مرة أخرى. هذا شيء غيرته الحرب بالنسبة لي”.
في هذه الأيام؛ تنام الباحثة في علم الوراثة الجزيئية البالغة من العمر 37 عامًا كل ليلة بملابسها ومفاتيحها دائمًا في نفس المكان بجوار الباب؛ حيث إذا انطلق جرس إنذار القذائف، سيكون أمامها وشريكها 90 ثانية لاصطحاب ابنتهما البالغة من العمر عامين والركض لمسافة 150 مترًا إلى ملجأ بجوار الملعب، وتقول: “لقد ركضتُ كثيراً مع روث إلى ذلك الملجأ من القنابل. أنا في حالة تأهب دائم؛ إنه أمر مرهق للغاية”.
وعلى مدار شهور؛ كانت تتناوب هي وآباء آخرون خلال الأسبوع على الحراسة في الحضانة، استعدادًا للمساعدة في نقل جميع الأطفال إلى تحت الأرض في حالة سقوط صواريخ، وتقول إن هذا الخوف الناجم عن الحرب كان حافزًا للعديد من الأصدقاء للمغادرة أيضًا.
وتوضح قائلة: “لديهم جميعًا أطفال صغار ويريدون بناء مستقبل أكثر إشراقًا في أوروبا. بعض الأصدقاء لا يملكون جوازات سفر أوروبية ويشعرون بالضياع ويبحثون عن طرق أخرى للمغادرة”.
بعد مرور عام على واحد من أكثر الصراعات دموية في تاريخ إسرائيل، بدأت العواقب الاقتصادية تظهر، على الرغم من أن البيانات تبدو مستقرة.
مستويات الدين أقل بكثير مما هي عليه في العديد من البلدان الغنية الأخرى، والتضخم مرتفع ولكن تحت السيطرة، والبطالة لا تزال منخفضة؛ ومع ذلك، فإن نظرة فاحصة تكشف عن ضغوط متزايدة، فأحد المخاوف هو أن العديد من العمال ذوي التعليم العالي والمهارات، بما في ذلك كراجستين وشريكها، يغادرون ويقررون تربية أطفالهم بعيداً عن إنذارات الصواريخ، ومما يضاعف من هذه المشكلة حقيقة أن جذب مواهب جديدة إلى بلد في حالة حرب أمر صعب.
وحذر العالم الحائز على جائزة نوبل آرون تشيشانوفر الشهر الماضي في خطاب ألقاه من أن ”هناك موجة كبيرة من المغادرين من البلاد“، وقال: “معظم كبار الأطباء يغادرون المستشفيات، وتجد الجامعات صعوبات في توظيف أعضاء هيئة التدريس في المجالات الحرجة”، محذرًا من أن هذا المجتمع “ضيق جدًّا”، وقال: “بمجرد مغادرة 30,000 من هؤلاء الأشخاص، لن يكون لدينا بلد هنا”.
ويقول ألون إيزنبرغ، أستاذ الاقتصاد المشارك في الجامعة العبرية في القدس ومستشار بنك إسرائيل، إن خروج العمال الموهوبين يثير القلق بشكل خاص بالنسبة لقطاع التكنولوجيا المربح في إسرائيل. فهذه الصناعة؛ التي تشكل حصة غير متناسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مهمة جداً للاقتصاد.
ويضيف: ”لا مفر من بعض هجرة الأدمغة وفقدان رأس المال البشري. حدث ذلك أيضًا بعد حرب يوم الغفران في السبعينيات لأنها كانت تجربة مدمرة للكثيرين وكان لها تأثير مزعزع للاستقرار على الناس. ليس هناك شك في أنه عندما يمر بلد ما بشيء مثل 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب فإن بعض الناس سيغادرونه، ربما بشكل مؤقت، وربما للأبد”.
ومع ذلك، فإن إيزنبرغ غير مقتنع بالتنبؤات المتشائمة؛ حيث يقول: ”سنحتاج إلى مزيد من الوقت قبل أن نتمكن من معرفة ما يحدث بالفعل من خلال البيانات. وموقفي الخاص هو أنني لا أعتقد أن الأمر سيكون بهذه الشدة“.
ويشير إيزنبرغ أيضًا إلى أن اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل قد يختارون الهجرة إذا كانوا قلقين من خطر معاداة السامية في مناطق أخرى من العالم.
من منظور مالي؛ انكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 5.7 بالمئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023، مما يعكس تأثير هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب التي تلتها، وتعافى الاقتصاد الإسرائيلي إلى حد ما منذ ذلك الحين؛ حيث نما بنسبة 3.4 بالمئة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، تلاه نمو أكثر تباطؤًا بنسبة 0.2 في المائة في الربع التالي.
بالنسبة لمعظم الناس؛ هذا يعني أنه على الرغم من أن الحياة قد تغيرت بلا شك، إلا أن ذلك لا يظهر دائمًا على الفور؛ حيث تقول كراجستين إنه في تل أبيب “أغلقت بعض الأماكن، لكننا لا نلاحظ ذلك كثيرًا”، وتضيف: “يستمر الناس في الذهاب إلى المطاعم والحفلات وممارسة اليوغا وشرب القهوة كما كان الحال من قبل”.
ومع ذلك؛ فقد أصبح الذهاب لقضاء العطلات أكثر تكلفة مع انسحاب شركات الطيران الأجنبية ورفع شركات الطيران التي لا تزال تعمل في إسرائيل الأسعار. وفي الوقت نفسه؛ ضعُف الشيكل الإسرائيلي أيضًا مقابل اليورو، مما زاد من الانخفاض المستمر منذ فترة طويلة.
وعلى نحو منفصل؛ أدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر إلى تعطيل الشحنات، مما يعني أن تأمين المواد من الخارج أصبح أكثر تكلفة وصعوبة.
ومما لا يثير الدهشة أن قطاع السياحة قد عانى أيضًا.
فوفقًا لشركة “كوفاس بي دي آي Coface BDI”، وهي شركة أبحاث إسرائيلية، فإن ما يصل إلى 60,000 شركة قد تغلق أبوابها في عام 2024، حيث يدعي إيزنبرغ أن العديد من الشركات الصغيرة الحجم تعاني، موضحًا: “لقد تم استدعاء جزء كبير من القوى العاملة للخدمة الاحتياطية، وأحيانًا لعدة أشهر. وقد يحدث هذا مع صاحب العمل أو أغلب القوى العاملة التي لديك”.
ويتابع: ”يؤدي ذلك إلى الكثير من الاحتكاك. فأنت تواجه في الأساس نقصًا في العمال الذين هم بالفعل ماهرون ومدربون على القيام بأشياء معينة“.
لقد عانت الصناعة الزراعية؛ حيث تم إجلاء الناس في كل من الشمال والجنوب ولم يتمكنوا من العمل. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار المواد الغذائية. كما توقفت أعمال البناء وسط غياب 80,000 عامل بناء فلسطيني، معظمهم من الضفة الغربية. وفشلت الجهود المبذولة لاستبدالهم بعمال أجانب آخرين حتى الآن، مما زاد من القلق بشأن ارتفاع أسعار المنازل.
وبالنسبة للأشخاص العاديين، أصبح ارتفاع تكاليف الغذاء والسكن على وجه الخصوص واضحًا بشكل متزايد؛ حيث يقول عمر، وهو إسرائيلي يبلغ من العمر 38 عامًا يعيش في كيبوتس يبعد 20 دقيقة عن تل أبيب ويعمل في مجال التسويق الرقمي، إن هذا الأمر يمثل تحديًا للكثيرين، موضحًا: ”إن ارتفاع تكاليف الغذاء والسكن هو ما يجد الناس صعوبة في التعامل معه. فالغذاء ضروري للعيش، والمسكن هو المأوى. وعندما تكون التكاليف باهظة الثمن، [فهذا يجعل] الأمر صعبًا للغاية من الناحية النفسية“.
أما بالنسبة للمالية العامة، بدأت تكاليف الحرب تتصاعد؛ فقد حذر محافظ بنك إسرائيل في أواخر أيار/مايو من أن البلاد ستنفق حوالي 67 مليار دولار (50 مليار جنيه إسترليني) على الدفاع والتكاليف المدنية بين عامي 2023 و2025.
“مرحلة جديدة من الحرب”
لا توجد نهاية في الأفق؛ حيث حذّر وزير الدفاع الإسرائيلي هذا الأسبوع من أن البلاد في ”مرحلة جديدة من الحرب“، فلا تزال هناك العديد من الأهداف التي لم تتحقق بعد.
وتتزايد المخاوف من تصعيد أوسع نطاقاً بعد أن فجرت إسرائيل أجهزة يستخدمها عناصر حزب الله في لبنان؛ حيث يقول إيزنبرغ إنه إذا اشتدت الحرب في الأشهر المقبلة، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة التكاليف بشكل أكبر، مما يزيد من حالة عدم اليقين بالنسبة للاقتصاد.
ويضيف: ”لديك هذا النوع من الحروب غير المتكافئة مع المنظمات الإرهابية حيث لا يتعلق الأمر بمجرد اقتحام جيش ما والدخول في معركة مع جيش آخر، ثم في غضون أيام أو أسابيع قليلة يتم حسم الأمر. هذه الحرب تستغرق وقتًا طويلًا”.
ويتابع: ”ليس من الواضح كم من الوقت سيستغرق الأمر قبل أن تتمكن من إزالة كل هذه القيود المفروضة على الاقتصاد، ويمكن للناس في الشمال العودة إلى ديارهم“.
يقول إيتاي عتر، من جامعة تل أبيب، والذي يرأس منتدى لكبار الاقتصاديين الإسرائيليين، إنه يشعر بقلق عميق بشأن الوضع المالي وما يمكن أن يعنيه المزيد من التصعيد.
وقد خفضت وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية الثلاث – فيتش وموديز وستاندرد آند بورز – بالفعل تصنيف إسرائيل منذ بداية الحرب.
وفي الوقت نفسه؛ تحولت البلاد من تحقيق فوائض في الميزانية إلى عجز بنسبة 8.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال 12 شهرًا حتى آب/أغسطس، وهو ما قد يتفاقم.
وأنفقت إسرائيل بالفعل 19 مليار جنيه إسترليني على الحرب منذ بدايتها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ويقول عتر إن الحكومة ”مختلة تمامًا“، محذرًا من أنها ”لا تستطيع الاستمرار في زيادة الإنفاق بهذا القدر دون اتخاذ خطوات جادة“، مضيفًا: ”الحكومة لا ترتقي إلى مستوى التحدي. لا نراهم يتخذون القرارات الصعبة المطلوبة. إذا كان هناك تصعيد في الشمال أيضًا، فستكون ضربة كبيرة للاقتصاد“.
لقد اعتادت إسرائيل أن تحصل على واحدة من أعلى الدرجات في العالم في مؤشرات قياس السعادة. ومع ذلك؛ يضيف أن الجميع في هذه الأيام غارقون في سيل مستمر من الأخبار السيئة.
وبالعودة إلى تل أبيب، تنشغل كراجستين بحزم أمتعتها. وتقول: ”الناس منهكون بشكل عام. حتى الجيل الأكبر سنًا يشعرون بعدم اليقين بشأن مستقبلهم هنا؛ فلقد جاءت والدة شريكي إلى هنا من طرابلس عام 1967 وعايشت جميع الانتفاضات. وهذه هي المرة الأولى التي تريد فيها المغادرة أيضًا”؛ مضيفة: ”يبدو المستقبل غير مؤكد هنا”.
المصدر: التليغراف