منذ أن صعدت الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة في دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى سدة الحكم وهي تحاول أن تنتهز الفرصة لفرض أيدولوجيتها على مختلف المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية ومحاولة التحكم فيها.
ولطالما عدّ المستوطنون الإسرائيليون الجيش “البقرة المقدسة” التي لا يجوز المساس بها، وسط مساعي الأحزاب للهيمنة عليها والتحكم في قيادتها وطريقة إدارتها.
وشكلت عملية “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر 2023 أحد الدوافع لهذه الأحزاب للمساس بالجيش، عبر الدعوة لعزل قياداته بما في ذلك رئيس الأركان إلى جانب قيادات السلطات الأمنية متمثلة في الشاباك والموساد.
في الوقت ذاته فإن “الصهيونية الدينية” تتمتع بحضور لا يُستهان به بين المجنّدين في جيش الاحتلال، حيث يذهب 85% من خريجي المدارس التحضيرية إلى الوحدات القتالية، و30% منهم يصبحون ضباطًا في جيش الاحتلال.
ووفقًا لمعطى سبق أن نُشر عام 2007، فقد شكّل المنتمون للتيار الصهيوني الديني، ما نسبته 40% من خريجي دورة الضباط في تلك السنة، حيث يدفع منظرو الصهيونية الدينية باتجاه أن ضلوعهم في قيادة الجيش سيوفر لموقفهم الأيديولوجي المبررات والمسوغات الأمنية، التي عندما تنطلق من فم جنرال ستبدو ذات مصداقية، حيث تكمن مخاطر هيمنة هذا التيار في كونه سيحوّل الصراع إلى صراع ديني.
ويبلغ تعداد الجيش الإسرائيلي نحو 170 ألف جندي نظامي من إجمالي عدد السكان البالغ 10 ملايين نسمة، وذلك يجعله جيشًا كبيرًا إذا ما قورن بعدد السكان، ويبدو أن شعار جيش “صغير وذكي” الذي كان يباهي به جيش الاحتلال في يوم ما بسبب تفضيله التكنولوجيا العالية على القوة البشرية، بات شعارًا مشكوكًا فيه.
ورغم الهوية العلمانية للجيش، فإنه أحد أكثر الجيوش وحشية في التاريخ، نظرًا لحجم المجازر التي ارتكبها بحق الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين على مدار عقود الصراع العربي الإسرائيلي.
وتعد مجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين وبحر البقر من أبرز المجازر التي ارتكبها الاحتلال في السابق، فيما تعتبر مجازر حروب غزة من 2006 إلى 2024 شاهدة على وحشية هذا الجيش وأسلوب العصابات الذي يستخدمه.
تغيير في النظرة الاستراتيجية.. بروز الدور اليميني
شكلت عملية السابع من أكتوبر تغيرًا كبيرًا في أفكار القادة العسكريين بسبب إدراكهم للوضع الهش الذي أصبحت “إسرائيل” تعيشه ومعرفتهم أن المؤسسة العسكرية لن تكون قادرة على التعامل مع كل هذه التحديات التي خلقتها الحرب.
ورغم فشل الجيش في منع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول ثم الفشل في كسر المقاومة، بدأ الآن التفكير بشكل إستراتيجي في ظل محاولات اليمين المساس بمؤسسة الجيش، بالتزامن مع تنصل بنيامين نتنياهو من لجم وزراء حكومته المتطرفين.
ويتصدر الوزيران إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش المشهد للتحكم في مؤسسة الجيش عبر الدعوة المستمرة لتغيير قائد الجيش، هرتسي هاليفي، وغيره من القيادات واستبدالهم بقيادات أكثر تطرفًا في إشارة لليمينيين.
وتعكس هذه الرغبة في استبدال قادة الجيش مساعي الأحزاب اليمينية المساس بالطابع والهوية التي ظلت لعقود تسيطر على الجيش الإسرائيلي منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 وحتى 2023.
وجاءت الاستقالات الأخيرة التي عصفت بعدد من قادة الجيش والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لتدفع المتطرفين للمطالبة بالسيطرة على الجيش وتعزيز الحضور اليميني داخل أكبر مؤسسة عسكرية إسرائيلية.
وكان التعليق على إخفاقات الاستخبارات وجيش الاحتلال الإسرائيلي من كل من إيتمار بن غفير وسموتريتش بمنزلة اللازمة التي تتكرر مع كل تطور ميداني، أما الغاية، فكانت الدفع باتجاه تقديم الاستقالات ليبني على الشيء مقتضاه.
من هنا، رأينا الاستقالات تتوالى، فبعد استقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا، الأنظار تتجه إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي، لقطع الطريق عليه ومنعه من الإشراف على أي تعيينات جديدة في “الجيش”.
وعليه، يأتي في السياق تساؤل المحلل العسكري آيال عليما: “من يحل مكان الضباط الذين يستقيلون أو ينهون مهامهم؟ وما الجهة التي ستتولى مهمة الإشراف على التعيينات العسكرية الجديدة؟“.
الجواب عن هذا التساؤل أصبح أوضح من ذي قبل، فاليمين المتطرف يتطلع إلى الإشراف عبر وزرائه على التعيينات الجديدة، وبالتالي تغيير “هوية الجيش” بشكل جوهري، فبعد الوصول إلى السلطة أتت التعديلات القضائية لتلتحق بها المؤسسة العسكرية، وهكذا يكتمل فلك الصهيونية الدينية.
وبالتالي فإن هناك صورة جديدة لـ”إسرائيل” آخذة في التشكّل أكثر مع مسار الحرب، فـ”إسرائيل” التي قدّمت نفسها “علمانية” في بدايات التشكل تلفظ أنفاسها، واليوم الكلمة لـ”إسرائيل” الدينية المتشددة بصورتها الفاقعة.
أزمة الحريديم.. التجنيد أزمة جديدة
يبدو أن الزيادة الديموغرافية السريعة للحريديم غيَّرت نظرة أطراف في الدولة الصهيونية للمسألة، فقد بات هؤلاء يُشكِّلون نحو 13.3% من السكان ويتميزون بمعدلات خصوبة مرتفعة بمتوسط 6 أطفال لكل امرأة، لذلك سعى اليمين الإسرائيلي إلى تشجيع الحريديم على الانخراط في الحياة العامة والانضمام إلى صفوف الجيش، من أجل الاستفادة منهم بوصفهم قوة سياسية صاعدة.
وفي سبيل تسهيل دخول شباب الحريديم للجيش، أنشأ جيش الاحتلال عدة برامج لجعل الحياة الدينية متكيفة مع أداء الخدمة العسكرية، مثل تشكيل الكتيبة العسكرية “نيتسح يهودا” (ناحال حريدي) عام 1999، التي تضم اليهود الحريديم من دون النساء، وتعتمد على “الكوشر” (الطعام الحلال)، وتعمل في الضفة الغربية المحتلة، ويتطوع فيها سنويًا نحو 500 منهم، وكذلك برنامج “شاحار”، الذي اعتُمِد عام 2007، وخُصِّص لليهود الحريديم المتزوجين، الذين يعملون في الوحدات التكنولوجية واللوجستية، ويصل عددهم إلى نحو 2000 ويتقاضون رواتب أعلى من غيرهم.
لكن سرعان ما ظهرت مخاطر هذا “التسلل الحريدي” إلى جيش الاحتلال في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، حين رأى التيار الحردلي أن ما قام به الجيش “معصية دينية” شارك بها في نفي “شعب يهودي”.
لذلك، قرر التيار الحردلي في السنوات التالية “احتلال الجيش من الداخل” عبر التدفق إلى فرق النخبة العسكرية، والتدرج إلى الرتب العسكرية الرفيعة، والسيطرة على بعض مراكز مؤسسة الحاخامية العسكرية التابعة للجيش.
وتزايد نشاط ما بات يُعرَف بـ”تيار الصهيونية الدينية” في الجيش الإسرائيلي، الذي يلعب دورًا رئيسيًا في دفع جنود الجيش إلى تصرفات الوحشية والإبادة.
وخلال حرب 2008-2009 على غزة، انتشرت داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي خطابات تقول إن الفلسطينيين “شعب يجب تدميره”، وعثرت جمعية “كسر الصمت” آنذاك على عشرات المنشورات التي وُزِّعَت على الجنود في أثناء الحرب يحمل معظمها الشعار الرسمي للحاخامية العسكرية، كما دعا الحاخام الرئيسي السابق في الجيش العميد احتياط، أفيحاي رونتسكي، عام 2009 إلى عدم اعتقال فلسطينيين مشتبهين بأنشطة ضد “إسرائيل”، وإنما “إطلاق النار عليهم وهم في أسِرَّتهم”.
لاحقًا، بعد سنوات في 9 يوليو/تموز 2014، أي في اليوم الثاني من الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في ذلك العام، وُزِّعَت رسالة على جنود لواء غفعاتي، وهو أشهر ألوية المشاة في الجيش، حملت توقيع العقيد، عوفر وينتر، قائد اللواء، وورد فيها: “لقد اختارنا التاريخ لنقود الحرب على العدو الغزاوي الإرهابي الذي يلعن ويذم ويكره رب إسرائيل”.
واختُتمت الرسالة بنص توراتي “يُبشِّر محاربي إسرائيل في ساحات القتال بالحماية الإلهية”، وسرعان ما جرى تداول تلك الرسالة على وسائل التواصل الاجتماعي ومنها انتقلت إلى الصحافة، وانتقدها الإسرائيليون العلمانيون الذين رأوا أنها “تخرق عُرفًا متبعًا منذ عقود يتمثَّل في إبعاد الدين عن المهام العسكرية”.
ماذا لو سيطرت الصهيونية الدينية على جيش الاحتلال؟
تقوم استراتيجية الصهيونية الدينية على التغلغل منذ سنوات في كل مؤسسات مجتمع “المستوطنين” الإسرائيليين سواء كان ذلك في مؤسسة الجيش أم القضاء، ما يجعل ذلك محط تخوف ممن يسمون أنفسهم بـ”العلمانيين”.
في الوقت ذاته يرى العلمانيون في “إسرائيل” الجيش والقضاء هم صماما الأمان الأساسي لضمان الحفاظ على هوية “إسرائيل” العلمانية، وكان هذا واضحًا في حجم التحشيد في مواجهة تشريعات الإصلاح القضائي التي قادها الائتلاف الحكومي لنتنياهو.
وكان واضحًا حجم التأثير الذي لعبه الجيش في إيقاف الخطة، وهذا ما أشعل المزيد من صافرات الإنذار لدى قادة الصهيونية حول أهمية تعزيز حضورهم داخل الجيش وقطع الطريق أمام تحول الجيش إلى حائط صد محتمل أمام مخططاتهم.
ومع ذلك فإن الصهيونية الدينية تحث أنصارها وأفرادها للالتحاق بالجيش وأن يكونوا جزءًا من النظام القتالي للاحتلال وأن يتقدموا في صفوف ورتب مؤسسة الجيش في إطار تفكيك الهيمنة العلمانية على هذه المؤسسة وتحويلها لأداة في صالح خدمة أهداف ومخططات الصهيونية الدينية.
ويأتي ذلك باعتبار أن الهوية العلمانية للجيش تعد بمثابة حجر عثرة أمام مخططات الصهيونية الدينية، حيث يرى أنصار وأتباع هذه الحركات أن الجيش لعب دورًا بارزًا في تنفيذ خطة فك الارتباط والانسحاب من قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية عام 2005.
ويرى كل من بتسئليل سموتريتش وإيتمار بن غفير أن السيطرة على المؤسسة يمكن أن تحبط أي محاولة للتمرد على القرارات الحكومية، وهو ما انعكس بشكل واضح على تقدم الضباط المحسوبين على الصهيونية الدينية ليكونوا في مواقع أكثر تأثيرًا على صناعة القرار.
وكان هذا الأمر واضحًا في قرار تعيين آفي بلوط مسؤولًا عن منطقة الضفة الغربية في جيش الاحتلال، وهو نوع من أنواع الرضوخ لما يريده سموتريتش في الضفة، وبالتالي هو رضوخ للصهيونية الدينية.
وهذا الشيء كان له العديد من التجليات، حينما اعتدى ضباط وجنود محسوبون على الصهيونية الدينية على مجموعة من المتظاهرين اليسارين الإسرائيليين في مدينة الخليل جنوب الضفة ووجهوا عبارات واضحة أن الحكومة الحالية هي “يمينية” ولن تسمح بأن تبقى هذه المنظمات التي تحمل أفكارًا مناهضة للصهيونية الدينية بأن تبقى تمارس نشاطها.
وتعد هذه الحادثة من الحوادث التي أثارت قلقًا كبيرًا على هوية الجيش من قادته لا سيما مع الخشية من تمرد الضباط اليمينيين الموجودين في وسط الجيش على التوجيهات والتعليمات الصادرة لهم من هيئة الأركان، لا سيما مع التحريض الواضح من بن غفير وسموتريتش ضد رئيس هيئة الأركان.