بعد اندلاع الثورة في 2011 بدأت العديد من القوى التناوب بالسيطرة على شرقي سوريا، حتى أواخر عام 2017 عندما حددت خريطة النفوذ، لتصبح مناصفةً بين قوات الأسد المدعومة من روسيا وإيران من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة من جهة أخرى، يفصل بينهما نهر الفرات على امتداد المنطقة.
ورغم أن محافظة دير الزور خضعت لسيطرة النظام إلا أنها كانت في الواقع شكلية وغير محكمة، كما هو الحال في محافظات أخرى مثل درعا وحمص، حيث تحولت إلى مناطق نفوذ يدير بعضها فصائل محلية، بينما يسيطر على نصفها الآخر ميليشيات مسلحة تعمل تحت غطاء النظام، لكنها تتحكم فعليًا بالأرض، مع موارد خاصة بها ومناطق نفوذ معروفة.
في الريف الغربي من دير الزور، تبرز سيطرة قبيلة “البوسرايا”، حيث يمتد نفوذها على مساحة واسعة تبدأ من منطقة عياش غرب المحافظة، وصولًا إلى الحدود الإدارية لمحافظة الرقة، ورغم أن معظم أبناء القبيلة ينخرطون تحت مظلة ميليشيا الدفاع الوطني التابعة لنظام الأسد، إلا أن الكلمة العليا في تلك المنطقة تبقى لهم، بينما تعمل مؤسسات النظام بشكل صوري فقط دون تأثير فعلي على الأرض.
النظام آخر المسيطرين
مع اندلاع الثورة تنوعت الولاءات داخل البيت الواحد لأفراد قبيلة البوسرايا كغيرهم من أبناء القبائل في دير الزور وشرقي سوريا، لكن غالبيتهم انخرطوا في الثورة وأسهموا في طرد النظام من جميع المناطق التي تنتشر فيها القبيلة بالريفين الغربي والشرقي خلال فترة قصيرة.
ومع سيطرة الجيش الحر على المنطقة بالكامل في عام 2012 وظهور الفصائل الإسلامية والتنظيمات الجهادية لاحقًا، تفرّق أبناء قبيلة البوسرايا في انتماءاتهم العسكرية، فانضم الغالبية العظمى منهم إلى صفوف الجيش الحر، بينما التحق بعضهم بالفصائل الإسلامية مثل حركة أحرار الشام الإسلامية.
أما نصيب الجماعات الجهادية مثل “جبهة النصرة” و”داعش” فكان قليلًا جدًا، كون القبيلة تميزت بابتعاد أبنائها عن خط الجماعات الراديكالية الإسلامية وقربها أكثر نحو الفصائل الثورية، ويعود ذلك إلى الخلفية التعليمية التي يتميز بها أبناء القبيلة، حيث تشتهر المناطق التي تنتشر فيها البوسرايا بكثرة المتعلمين والأكاديميين من أبنائها، ما أسهم في فشل انتشار دعوات التنظيمات الجهادية بين أفرادها.
على مدى العقود الماضية، تفرق معظم أبناء القبيلة، الذين اشتهروا بتماسكهم القوي رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية والعسكرية، خارج مناطق سيطرة النظام، إذ توجه البعض منهم إلى مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وآخرون إلى الشمال أو خارج البلاد، أما من بقي في مناطق سيطرة النظام، والذين سنتناول الحديث عنهم بالتفصيل، فلا تتجاوز نسبتهم 40% من إجمالي سكان المنطقة التي تشكل معقل القبيلة.
في الربع الأخير من عام 2017 ومع اشتداد العمليات القتالية ضد تنظيم “داعش”، التي قادتها قوات الأسد رفقة حلفائه الروس والإيرانيين، برزت الحاجة الملحة للنظام لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين، ولم يكن أمامه إلا طرق باب عشائر المنطقة لتجنيد أبنائهم.
كانت البوسرايا أهم القبائل التي عول عليها النظام فمنح شيخ القبيلة، مهنا الفياض، صلاحيات كبيرة لحشد أبنائها، وبدأ بتوجيه نداءات للشباب الذين كان غالبيتهم خارج مناطق سيطرة النظام و”داعش”، لكن عددًا قليلًا فقط استجاب للدعوات، أما الغالبية رفضت هذا الطرح وبقيت في الشمال، وكانت شروطهم قتال التنظيم تحت راية مستقلة وليس تحت راية النظام.
ومع تمكن جيش النظام من فتح خطوط إمداد إلى دير الزور وتقهقر تنظيم “داعش”، تمكن أبناء البوسرايا رفقة وحدات من قوات الأسد من السيطرة على مناطقهم بالريف الغربي بشكل كامل خلال أسبوع واحد.
في 2019 كانت المناطق التي أحكم النظام قبضته عليها في غرب الفرات، والممتدة من مسكنة وريف الرقة الغربي والشرقي ثم أرياف دير الزور، خالية من السكان تمامًا عدا بضعة تجمعات سكنية صغيرة متناثرة.
ومع تنامي هجمات “داعش” في البادية الشامية المطلة على المناطق التي استحوذ عليها النظام، وجد الأخير نفسه أمام منطقة استنزاف متواصل لم تنته حتى يومنا هذا، فبدأ بالبحث عن حل لضبط الأمن في دير الزور، التي حولها النظام والحرس الثوري الإيراني والروس إلى ثكنة عسكرية كبيرة ومدن أشباح.
في ظل هذه التطورات تواصل حسام لوقا، رئيس جهاز المخابرات العامة التابع للنظام، مع شيوخ ووجهاء المنطقة عارضًا عليهم “التسويات” في سبيل إعادة السكان لمناطقهم وكذلك المطلوبين منهم بوساطات عشائرية.
بدأت المصالحات بشكل مقتضب في دير الزور عام 2019 كجس نبض، قبل أن تتوسع في 2021 لتشمل المنطقة كاملة، ويتمكن النظام فعليًا من إعادة أعداد لا بأس بها من السكان لمناطقهم، وعلى رأسهم مطلوبون بالعشرات جلهم كانوا مقاتلين سابقين في المعارضة وتنظيم “داعش” و”النصرة”.
وتعهد الشيخ مهنا الفياض لأبناء قبيلته بالأمان حال عودتهم مهما كان جرمهم، ما دفع الكثير من الشباب المطلوبين من النظام، للعودة إلى المنطقة، لكن وفق شروط اتفقوا عليها مع الفياض، ليرسموا الخطوط العريضة لمستقبل الريف الغربي لدير الزور، والذي يعتبر مناطق انتشار قبيلة البوسرايا.
الصفقة
أدت سيطرة النظام وميليشيات إيران على دير الزور إلى فتح الطريق الحيوي البوكمال-بغداد، الذي يعتبر مشروعًا مهمًا لطهران كون يصل بين طهران وبيروت مرورًا بالعراق وسوريا، وأشرف عليه قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس قبل أن تغتاله الولايات المتحدة الأمريكية في 2020.
عقب ذلك تمددت ميليشيا الحرس الثوري الإيراني بشكل كبير في شرقي سوريا، وحولت مدينة البوكمال إلى منطقة نفوذ لها، وبدأت عمليات التجنيد لشباب المنطقة في صفوف الميليشيا، الأمر الذي أقلق أبناء ريف دير الزور الغربي من سياسية “نشر التشيع”.
لمواجهة التمدد الشيعي وجه أبناء قبيلة “البوسرايا” رسالة إلى حسام لوقا عبر شيخ القبيلة كان عنوانها “سنحمي مناطقنا وبلداتنا من أي عدوان كان، ولكن لن نسمح لإيران بدخول الريف الغربي وإقامة مقرات لها في مناطق انتشار القبيلة غربي دير الزور”.
لم يجد النظام أمامه إلا الموافقة لهدفين اثنين: الأول بسبب تزايد هجمات “داعش” في البادية الشامية وحاجته إلى طرف يواجه هذه الهجمات، والثاني كسب المزيد من أفواج العائدين لمناطقه لإعادة الحياة فيها ورفد قواته بمزيد من الدماء الجديدة، وهو الأمر الذي حصل، حيث تكتل غالبية أبناء البوسرايا تحت راية ميليشيا الدفاع الوطني، بينما انتسب آخرون إلى ميليشيا لواء القدس والقاطرجي.
مشروع اللواء 90
رغم انتشار ميليشيا الحرس الثوري بشكل كبير في عموم دير الزور خلال الفترة الممتدة من 2019 وحتى 2023 ونشرها لمقرات ومراكز تابعة لها، بقي الريف الغربي بمنأى عن نشاط الميليشيات بسبب رفض البوسرايا لهم، ورغم ذلك حاولت الميليشيات الإيرانية التغلغل داخل مناطق القبيلة عبر ما يسمى مشروع اللواء 90.
يُعتبر الشيخ نواف البشير شيخ قبيلة البقارة الموالي للنظام، أحد ممثلي المصالح الإيرانية في محافظة دير الزور والشخصية الأبرز التي تمثل هذه المساعي بين وجهاء وشيوخ عشائر المنطقة، وكان البشير الملقب بأبو أسعد أول متزعم لميليشيا مبنية على أساس قبلي وموالية لإيران في شرقي البلاد، وهي ميليشيا “أسود العشائر” المتفرعة هيكليًا عن ميليشيا “الباقر” التابعة للحرس الثوري.
حاول البشير تشكيل ائتلاف قبلي موحد موالي لإيران يمتد من دير الزور إلى الرقة والحسكة وصولًا إلى ريف حلب، لكن مساعيه اصطدمت بموقف قبيلة البوسرايا الموحد والرافض لإيران، حيث نقل مهنا الفياض رأي أبناء قبيلته من عسكريين ومدنيين بعدم التعاون مع الميليشيات.
بعد محاولات إيرانية لجذب أي شخصيات ثقيلة من البوسرايا لجانبها، وجدت في شخصية عبد الله الشلاش، الذي يشغل منصب منسق مركز المصالحة الروسي بدير الزور غايتها، فهو اسميًا يُعتبر أحد وجهاء البوسرايا ومن عائلة المشيخة الثانية وهي عائلة الشلاش التي كانت المشيخة فيها سابقًا قبل انتقالها للفياض.
وافق الشلاش اللاهث وراء المناصب كما يعرف عنه في دير الزور، ولعب هذا الدور في تشكيل جبهة مناوئة لمهنا الفياض، فكانت البداية في تشكيل جسم عسكري عماده مقاتلين من أبناء البوسرايا، حمل اسم اللواء 90 ويعمل تحت مظلة ميليشيا الباقر.
وجاء تشكيل الميليشيا بعد التنسيق بين الشلاش والشيخ نواف البشير، إلى جانب اجتماعات مع الإيراني حاج أمير عباس، الذي يشغل منصب إدارة الموارد البشرية وقيادة القاطع الشمالي في دير الزور بالحرس الثوري.
في مارس/آذار 2024 بدأ الشلاش مساعيه في غربي دير الزور محاولًا جذب الشباب لصفوف التشكيل الجديد عبر رواتب مغرية تصل إلى مليوني ليرة سورية، إلى جانب بطاقات أمنية موقعة من مكتب ما يعرف بـ”أمن الأصدقاء” التابع للحرس الثوري، تتيح لحاملها التنقل بحرية، وبدوام جزئي في بلداتهم نفسها غربي دير الزور.
تسببت محاولة الشلاش بضجة كبيرة في أوساط أبناء القبيلة داخل سوريا وخارجها، من موالين ومعارضين للنظام، فكانت شرارة الصدام الأولى بين الحرس الثوري والبوسرايا في أبريل/نيسان 2024، حيث دخلت مجموعة مسلحين من ميليشيا “الباقر”، بلدة عياش غربي دير الزور، وهي إحدى بلدات البوسرايا وتسيطر على المعبر النهري.
واعتقلت الميليشيات شخصين من القبيلة اعترضوا على وجودها، ما أثار ردة فعل كبيرة من جانب أبناء المنطقة الذين هاجموا الميليشيا وحاصروهم وأسروا منهم 12 عنصرًا مع مصادرة آلياتهم العسكرية، وتحولت الحادثة لأشبه بحراك شعبي مناهض لإيران.
بعد احتقان الأمور عشائريًا بين قبيلة البوسرايا والبقارة، كون العناصر المأسورة منها، توسط النظام للإفراج عنهم، لكن رغم ذلك خرجت بيانات من الشخصيات في القبيلة تندد بمساعي الشلاش، انتهت بوصول تهديدات بالقتل والتصفية للرجل، ما دفعه لنفي علاقته بإيران عدة مرات، ما أدى إلى توقف مشروع الميليشيا.
انتقام إيراني صامت
في 15 يوليو/تموز الماضي جرت انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الرابع في مناطق سيطرة النظام، وترشحت في دير الزور عدة شخصيات ضالعة بجرائم حرب وفساد مالي كبير، وعلى رأسها فراس الجهام العراقية متزعم ميليشيا الدفاع الوطني، و مدلول العزيز ذراع القاطرجي، والعضو السابق في تنظيم “جبهة النصرة”، إضافة إلى خليفة المرسومي شقيق فرحان المرسومي أحد وجهاء عشيرة المراسمة بالبوكمال والشخصية المقربة من الحرس الثوري.
كما ترشح إلى الانتخابات مهنا الفياض شيخ قبيلة البوسرايا، إلا أن أذرع إيران شكلت تحالفًا خاصًا بها في الانتخابات قوامه 6 مرشحين مدعومين من جانبها للوصول للمجلس، وبالفعل تمكن 3 منهم من الوصول والفوز وهم: مدلول وفراس وخليفة.
أما مهنا الفياض الذي لم يتمكن من الوصول إلى المجلس، فاقتحم مع مسلحي قبيلته يوم إعلان نتائج الانتخابات، مبنى المحافظة في دير الزور وضرب فراس الجهام العراقية، ما تسبب بكسور في وجه الأخير، حيث اتهمه بتزوير الانتخابات.
ويرى مراقبون من أبناء دير الزور أن القضية أكبر من فراس الجهام، ويقف رجالات إيران خلف هذا السقوط للفياض كانتقام مبطن منه لمواقفه هو وأبناء قبيلته من الدور الإيراني في غربي دير الزور.
مع النظام فقط
أكد الشيخ مهنا الفياض، الذي يعرف بولائه للنظام، في أحد مجالس العزاء، موقفه وموقف قبيلته فقال: “نحن مع الدولة السورية فقط، ولن نعمل مع غيرها”.
اختصر هذا الوصف حال القبيلة اليوم في مناطق سيطرة النظام، فهي بعيدة عن المد الإيراني وتتحاشاه، وبعيدة عن المد الروسي الذي تضاءل في شرق البلاد بعيد الحرب الأوكرانية.
وتتمتع منطقة القبيلة بنوع أشبه بالحكم الذاتي تحت راية النظام، الذي يغض الطرف عن هذه الحالة، كون الظروف لا تسمح له باستخدام القوة ضد القبيلة في محيط جغرافي معادٍ له بين قوات قسد من جهة وتنظيم “داعش” من جهة أخرى.
في مايو/أيار 2023 طرد أبناء القبيلة الفرقة الرابعة التابعة لقوات النظام من مناطقهم وحرقوا مقراتها، على خلفية مقتل شابين من أبناء القبيلة، ولم تنته الأزمة إلا بتدخل من ماهر الأسد الذي توسط لإعادة الأمور إلى ما هي عليه.
ولا تزال مناطق قبيلة البوسرايا غربي دير الزور تشهد هجمات شبه متواصلة ضد قوات النظام تحمل بصمات مجهولين، كما تسعى إيران إلى خلق حاضنة شعبية لها في شرقي سوريا متواضعة بالمُجمل، ومن يعمل معها بالغالبية هم باحثون عن المال بالمرتبة الأولى وباحثون عن المناصب بالمرتبة الثانية.
وتحولت مناطق الريف الغربي إلى ملاذ لكل مطلوب لأجهزة النظام الأمنية، وحتى المقاتلين السابقين في المعارضة من أبناء البوسرايا يعيشون في مناطقهم بالريف الغربي محتمين براية القبيلة، التي تفوق رمزيتها اليوم راية الدولة التي يمثلها نظام الأسد.