قبل سنوات قليلة، كان التعليم الابتدائي والأساسي الخاص في تونس حكرًا على طبقات اجتماعية معينة، لا يلتحق به إلا أبناءهم، لكنه اليوم أصبح ملاذ فئة كبيرة من الشعب التونسي باختلاف طبقاتهم الاجتماعية، رغم ارتفاع تكاليفه لتراجع جودة التعليم العمومي وارتفاع نسبة الإضرابات التي أصبحت السمة البارزة في المدارس التونسية.
المدرسة العمومية التونسية.. مشاكل عدة
تعاني المدرسة العمومية التونسية منذ فترة طويلة من مشاكل عدة، وفقًا للعديد من المربين والأولياء وباعتراف سلطات الإشراف، حيث سبق أن أكد مختلف الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية تعرض المدرسة العمومية للتهميش؛ ما أفقدها بريقها وإشعاعها الإقليمي والعالمي.
ذكرى العمامي أستاذة تونسية قالت في تصريح لنون بوست: “معاناة المدرسة العمومية تظهر خاصة في مدارس المناطق الداخلية والأرياف، ذلك أننا نلاحظ بنية تحتية مهترئة لم تحظ باهتمام أي وزير من الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية، إذ نجد قاعات آيلة للسقوط ودورات مياه غير صالحة للاستعمال البشري ومدارس ابتدائية أغلبها بغير أسوار خارجية وبالتالي بغير حماية”.
تؤثر التجاذبات القائمة بين نقابات التعليم ووزارة التربية وما صاحبها من إضرابات متكررة من المدرسين، سلبًا على تكوين التلميذ
تؤكد العمامي في حديثها أن “التهميش لم يقتصر على البنية التحتية للمؤسسات التربوية فقط، بل تجاوز ذلك إلى الإطار التربوي، حيث تتجلى لنا معضلتين: أولهما غياب الاختصاص في التدريس الابتدائي حيث نجد مثلاً أستاذ تاريخ أو جغرافيا أو علم اجتماع يُنتدب كمعلم لغة فرنسية أو إنجليزية ونعلم ما قد ينجر عن ذلك من ضعف في تكوين الأطفال وأخطاء جسيمة قد يرتكبها هذا الذي يعلم في غير اختصاصه في البيداغوجيا والمعلومات”.
وتضيف الأستاذة التونسية “المعضلة الثانية تتمثل في ضعف الانتدابات للمعلمين واعتماد الدولة بشكل كبير على المعوضين غير المؤهلين للتدريس وما يترتب عليه من بقاء نسبة كبيرة من التلاميذ خاصة في الجهات الداخلية والأرياف دون تعليم في بعض المواد أو تلقيهم تعليمًا ضعيفًا”.
وبلغ العدد الإجمالي للتلاميذ بجميع المراحل التعليمية في مستهل السنة الدراسية الماضية، 2.088 مليون تلميذ مقابل 2.047 مليون تلميذ خلال السنة الدراسية 2017/2016، أي بزيادة تناهز 41 ألف تلميذ، يدرسون في 6093 مؤسسة تربوية، ويدرسهم 156 ألف مدرس.
الإضرابات تؤرق الأولياء والتلاميذ
فضلاً عن هذه المشاكل المختلفة التي تعاني منها المدرسة العمومية في تونس، توجد أسباب أخرى جعلت التونسيين يفضلون التعليم الخاص على التعليم العمومي، من بينها خوفهم على مصير أبنائهم وخشيتهم من ضياع مستقبلهم نتيجة الإضرابات المتواصلة في المدارس العمومية، فلا يكاد يمر شهر دون أن تسجل مدارس تونس احتجاجات وإضرابات من الأساتذة.
وفي نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، بدأ كاتب عام جامعة التعليم الثانوي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) لسعد اليعقوبي تهديداته، بأن هذه السنة لن تختلف عن السابقة ولن تكون عادية، من حيث التحركات الاحتجاجية للأساتذة، في ظل غياب المفاوضات الجدية مع الطرف الحكومي، وفق قوله.
وأوضح اليعقوبي أن السنة الدراسية المقبلة ستكون ساخنة وجامعة التعليم الثانوي لن تفرط في مطالب المربين، ودعا الحكومة ووزارة التربية للدخول في مفاوضات جدية، على أن تبدأ التحركات الاحتجاجية للأساتذة بعد أيام من تاريخ العودة المدرسية المقرر يوم 15 من سبتمبر/أيلول الحاليّ.
ويؤكد العديد من التونسيين، أن كثرة الإضرابات في صفوف معلمي الابتدائي والأساسي وأستاذة التعليم الثانوي، أبرز أسباب نفور أولياء التلاميذ من القطاع العام والتوجه صوب التعليم الخاص، رغم صعوبة المهمة التي تنتظرهم في المدارس الخاصة.
خشية كبيرة من تواصل الإضرابات في المدارس التونسية
نتيجة هذه الإضرابات، أصدر وزير التربية السابق ناجي جلول، نهاية السنة الدراسية 2016/2015 قرارًا يقضي بنجاح كل التلاميذ إلى السنة الموالية بعد أن أضربت النقابات خلال فترة الامتحانات وامتنعت عن إجراء الامتحانات نتيجة تعذر مفاوضاتها مع الحكومة.
وتؤثر التجاذبات القائمة بين نقابات التعليم ووزارة التربية، التي بلغت مستويات قياسية خلال السنتين الماضيتين والسنة الحاليّة، وما صاحبها من إضرابات متكررة من المدرسين بهدف الضغط على الوزارة والحكومة لتلبية مطالبهم المشروعة، سلبًا على تكوين التلميذ، ذلك أنه يفقد التركيز والثقة في الإطار التربوي.
بداية التعليم الخاص في تونس بصفة رسمية، كانت سنة 1992، وكانت البداية ضعيفة حيث لم يتجاوز عدد المسجلين في هذه المدارس الجديدة بضع المئات من أبناء الطبقات الغنية ومسؤولي الدولة
وترى الأستاذة ذكرى العمامي، أن سلطة الإشراف ممثلة في وزارة التربية تفتعل المشاكل مع الإطار التربوي لعرقلة السير الطبيعي للتعليم وفرض التصعيد، وبالتالي إرباك المتعلم والولي ودفعه لاختيار التعليم الخاص.
بدورها، تقول الأستاذة بإحدى المدارس الخاصة بالعاصمة تونس أماني قلنزة لنون بوست، إن الأولياء هربوا من التعليم العمومي لأسباب عدة من بينها سوء الخدمات وضعف التجهيزات والغيابات المتكررة للأساتذة والإضرابات.
وتضيف أماني “الولي عندما يسجل ابنه في المدرسة الخاصة لن يخاف عليه، فالتلميذ سيجد الأكل الصحي والأقسام النظيفة والمركبات الصحية النظيفة، وهو ما يوفر له وللولي الراحة النفسية ما يشجعه على الدراسة والمثابرة وتحقيق نتائج متميزة”.
المدرسة الخاصة تستقطب الجميع
تؤكد قلنزة أن المدارس الخاصة لم تعد حكرًا على الأغنياء فقط، فاليوم نجد أبناء الطبقة الوسطى أيضًا يدرسون في هذه المدارس، رغم ارتفاع تكاليفها التي تصل في بعض المدارس إلى 8 آلاف دينار (2880 دولارًا) في السنة.
وتوفر المدارس الخاصة للعائلة التونسية، فضاءً مدرسيًا يبقى فيه التلميذ خلال الفترتين الصباحية والمسائية، أي طوال فترة دوام والديه، وهو ما لا توفره المدرسة العامة حاليًّا، ويحرص عديد من الأولياء على إيجاد مكان يضعون فيه أبناءهم طيلة وجودهم في العمل، خوفًا من توجه أبنائهم بعد انتهاء الدراسة اليومية في المدارس العامة إلى ممارسات قد تجعلهم منحرفين فيما بعد.
من بضع مئات إلى عشرات الآلاف
بداية التعليم الخاص في تونس بصفة رسمية، كانت سنة 1992، عقب صدور الأمر عدد 1187 لسنة 1992 المؤرخ في 22 من يونيو/حزيران 1992 المتعلق بضبط شروط الترخيص في إحداث مؤسسات تربوية خاصة وتنظيمها وتسييرها.
البداية كانت ضعيفة، حيث لم يتجاوز عدد المسجلين في هذه المدارس الجديدة بضع المئات من أبناء الطبقات الغنية ومسؤولي الدولة، لكن وبمرور السنوات، بدأ التعليم الخاص في جذب أعداد متزايدة من المنتسبين.
شهدت رسوم التسجيل ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، خاصة مع فرض الحكومة لضرائب في حدود 6% على أصحاب المدارس الخاصة سنة 2016
عرفت منظومة التعليم في تونس أوجها طيلة السنوات التي تلت الاستقلال عن فرنسا عام 1956، لكن سرعان ما أخذ مستوى التعليم يتراجع ويأخذ منحى سلبيًا، لا سيما منذ تسعينيات القرن الماضي؛ ما جعل تونس تحتل المرتبة الـ59 في المؤشر العالمي لجودة التعليم الابتدائي، الصادر عن تقرير التنافسية العالمية لعام 2017/2016، ويقيس المؤشر جودة التعليم الأساسي، في 138 دولة حول العالم، بينهم 13 دولة عربية، وتصدرت المؤشر عالميًا دولة فنلندا التي اعتادت أن تتقدم في مؤشرات التعليم العالمية، فيما تصدرت قطر الدول العربية التي تضمنها المؤشر.
وتوجد في تونس اليوم قرابة 400 مدرسة ابتدائية خاصة، وفقًا لرئيسة الغرفة الجهوية للتعليم الخاص بتونس رملة الشمنقي، تتوزع أغلبها على الولايات التونسية الكبرى: العاصمة وصفاقس وسوسة ونابل، فيما تتناثر البقية في الولايات الأخرى.
وخلال سنة 2000، كان عدد المدارس الخاصة لا يتجاوز الـ40 مدرسة، وعدد التلاميذ المسجلين فيها كان لا يتجاوز الـ10 آلاف، أما الآن فعدد التلاميذ المسجلين في هذه المدارس تجاوز الـ50 ألف تلميذ.
تحول التعليم إلى نشاط اقتصادي
يرى العديد من التونسيين أن التعليم في بلادهم تحول إلى نشاط اقتصادي، فالمدارس الخاص لا يهمها التلميذ بقدر ما يهمها النقود التي تقدمها العائلات مقابل هذه الخدمات، وهو ما يفسر ارتفاع تكاليف التعليم في المدارس الابتدائية والأساسية الخاصة.
ويشهد عدد مدارس التعليم الخاصة لمختلف المراحل التعليمية في تونس، ارتفاعًا كبيرًا نتيجة التسهيلات التي تقدمها الدولة لمثل هذه الاستثمارات، حتى إننا أصبحنا نشاهد المدرسة بجانب المدرسة في أحياء عديدة وهو ما أربك الأولياء وأثقل عليهم الأمر.
وقديمًا كان هذا النوع من المدارس عنوان ترف وحكرًا على العاصمة وبعض المحافظات الكبرى على غرار صفاقس (الجنوب)، وسوسة والمنستير (وسط) ونابل (شمال)، إلا أنه اليوم ما فتئ يكتسح المدن والقرى الداخلية بأعداد كبيرة.
ارتفاع تكاليف التعليم في المدارس الخاصة لم يمنع التونسيين من الالتحاق بها
شهدت رسوم التسجيل ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، خاصة مع فرض الحكومة لضرائب في حدود 6% على أصحاب المدارس الخاصة سنة 2016، حيث سارع المشرفون على المدارس إلى تعديل رسوم التسجيل تجنبًا للخسارة التي قد تلحق بهم جراء دفع ضرائب جديدة للدولة.
ويؤكد العديد من المربين أن المستثمرين يقدمون على هذه المشاريع لغاية ربحية فقط، عكس ما يروجون له بأن هدفهم تحسين التعليم في تونس والدفع به نحو الأمام من خلال مواكبة التطور التكنولوجي وتعلم اللغات وغيرها من الامتيازات غير المتوفرة في القطاع الحكومي، فالمستثمرون حسب هؤلاء المربين لا هم لهم سوى مصلحتهم المادية، وهو ما يتم اكتشافه عند بداية كل سنة دراسية.
ويخشى تونسيون من أن إضفاء الطابع التجاري على التعليم بجميع مستوياته، سيؤدي إلى إفراغه من أهم المضامين التربوية والمعرفية الأصيلة والهادفة، والتركيز على الكم أكثر من الكيف والجودة، وهو ما سينعكس سلبًا على النشء وعلى البلاد ككل.
الإصلاح سبيل تطور التعليم العمومي
السبيل لعودة التعليم العمومي لسالف عهده، يتطلب حتمًا وفق المعلّمة ذكرى العمامي “مراجعة البرامج الرسمية وتكوين المعلمين الممارسين للمهنة حاليًّا والعودة لانتداب خريجي دار المعلمين العليا لضمان جودة التعليم الابتدائي الذي هو ركيزة ما يتبعه من تعليم ثانوي وجامعي”.
وأضافت العمامي: “علينا الاهتمام بالمؤسسات التربوية من حيث البنية التحتية والقانون المنظم للحياة المدرسية للنهوض بتعليم ينجرف نحو الهاوية في سياسة ممنهجة لخصخصته بدليل كثرة المدارس الخاصة وتفاقم إقبال المواطن عليها نظرًا لفقدانه الثقة في تكوين ابنه تكوينًا جيدًا في المدرسة العمومية المهمشة والمعرضة لكل أشكال العنف والانحراف”.
الطالبة رحمة بربوش: “من المهم أن يكون التعليم والمعارف الملقنة تتناسب مع عمر التلميذ وطاقة تفكيره”
قبل ثلاث سنوات، أطلقت وزارة التربية في 2015 حوارًا عن الإصلاح التربوي، عبر تشكيل لجنة تضم الوزارات ذات العلاقة والاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر هيئة نقابية في البلاد) إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني، بهدف تقديم مقترحات لإصلاح المنظومة التعليمية، إلا أن الأمر تعطل مرات عديدة.
بدروها أكدت الطالبة في مدرسة تكوين المعلمين رحمة بربوش، في حديثها لنون بوست ضرورة الانتصار للتعليم العمومي أمام الانتشار الكبير للمدارس الخاصة إيمانًا بالمساواة بين التلاميذ كافة وتجنب التمييز على أساس المادة التي طغت في واقعنا الحاليّ.
وأوضحت بربوش في حديثها: “لا يمكن لأي عاقل ألا يعطي للمدرسة مكانتها الحقيقة والفعلية باعتبارها أهم نواۃ في محيط التلميذ، لما تحمله علی عاتقها من أولويات تجعل التلميذ محور العملية التعلمية، ولعل من هذه الأولويات إنشاء مواطن الغد ذي شخصية متكاملة وجدانيًا ومعرفيًا وإدراكيًا يكسب خلالها مبادئ ومهارات السلوك الاجتماعي والمعرفي المرغوب سواء في البيت أم المدرسة أم الشارع أم الأماكن العامة”.
يشدد التونسيون على ضرورة إصلاح قطاع التربية
اعتبرت رحمة في معرض حديثها أن مشكلة التعليم العام يتمثل في “طبيعة التكوين ونوعية الطرق والمناهج التربوية، ولمعالجة هذه الوضعية صار لا بد من أن نعجل بالإصلاح، وأن ننتقل من مجرد الحديث إلى الفعل وننفذ برامج الإصلاح لا أن تبقى مجرد حبر على ورق”.
وأكدت رحمة، ضرورة أن تتمتع المدرسة العمومية بمثل ما تتمتع به المدرسة الخاصة، من أدوات وتجهيزات تجعل الفرع النظري والتطبيقي متوفرين ومتكاملين من ناحية التكوين وفاعليته وتقويم التلميذ وفق كل حالة.
وأضافت “من المهم أن يكون التعليم والمعارف الملقنة تتناسب مع عمر التلميذ وطاقة تفكيره، وهو ما لا نراه أحيانًا في بعض المدارس الخاصة، إذ نلاحظ تدريس الحساب الذهني لتلميذ المرحلة التحضيرية، والفرنسية لتلاميذ السنة أولى ابتدائي والإنجليزية لتلاميذ السنة الثالثة”.
وختمت رحمة بقولها “انتصارًا للمدرسة العمومية التي افتخر أنني خريجتها وإيمانًا مني كمستقبل مربية أن مستقبل التلميذ أمانة لا سبيل للمتاجرة به أقول وأردد ما قاله أحمد شوقي “واطلبوا العلمَ لذاتِ العلمِ لا.. لشهاداتٍ وآرا بٍ أخرْ”.