نشرت صحيفة هارتس قبل أيام وثيقة ادعت أنها تضمنت أهداف وزارة الخارجية الإسرائيلية لعام 2019، وكان الموضوع الإيراني أكثر ما تم تناوله في الوثيقة التي عرضتها الصحيفة سواء فيما يتعلق بعملية الوصول إلى اتفاق نووي جديد يتلافى عيوب الاتفاق السابق أم العمل على التصدي إلى إيران ووكلائها في سوريا.
وبشكل عام فقد شملت الخطة مواضيع أخرى منها استكمال جهود الإدارة الأمريكية لتنشيط العملية الدبلوماسية مع الفلسطينيين بمشاركة ما أطلقت عليهم “الدول البراغماتية في الشرق الأوسط”، وكذلك مواضيع متعلقة بزيادة صادرات السلاح وتعزيز الروابط مع مختلف التيارات وإقامة حوار مع العناصر الليبرالية الرئيسية سواء داخل المجتمعات اليهودية أم خارجها والتركيز على الإنجيليين في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وكذلك مع الكنيسة الكاثوليكية والديانات الشرقية وتيارات الإسلام المعتدل.
لاحظت الصحيفة أنه كان واضحًا في الوثيقة بشكل متواصل الحديث عن السعي إلى تعزيز علاقات “إسرائيل” مع مصر والأردن، لكن تركيا غائبة كليًا عن الغايات الدبلوماسية المركزية لـ”إسرائيل”، فلماذا يا ترى تغيب أنقرة عن وثيقة الخارجية الإسرائيلية لعام 2019؟ ألا تحظى تركيا مع حضورها القوي والمتزايد في المنطقة بالاهتمام الإسرائيلي؟ هل ستستمر “إسرائيل” بتطبيق سياستها الحاليّة مع تركيا؟ ولماذا لم تشر إلى ذلك خاصة أنها كررت بنودًا من خطة العام الماضي؟
وهنا لسائل أن يسأل، هل الاستمرار في ذات السياسة منطقي في ظل حدوث تطورات منها مغادرة السفير ومناوءة تركيا للسياسات الإسرائيلية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية خلال العام الحاليّ وأهمها نقل السفارة الأمريكية وقانون القومية العنصري واستهداف المدنيين في مظاهرات العودة في غزة، أم أن هناك وثيقة خاصة بتركيا وحدها لدى الخارجية الاسرائيلية؟
بالتأكيد “إسرائيل” لديها تصور شامل لإدارة العلاقة مع تركيا، ولكنها أضعف من أن تقوم بمواجهة تركيا مواجهة مباشرة؛ لذا فهي تحرّض عليها وتعمل على إضعافها بطرق غير مباشرة
للإجابة عن هذه الأسئلة من المهم الاطلاع على بعض الحوارات والوثائق والتصريحات ومن بينها ما قالته نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية تسيبي حوتوبيلي (وزيرة الخارجية الفعلية في ظل أن رئيس الوزراء ووزير الخارجية بنيامين نتنياهو أعطاها صلاحيات كبيرة) في مقابلة مع إذاعة هيئة البث الإسرائيلي، مايو الماضي، إن “إسرائيل” ليست معنية بإنهاء العلاقات مع أنقرة، وإنما الهدف الإستراتيجي هو الحفاظ على هذه العلاقات نظرًا لأهمية تركيا في المنطقة”.
وكان الكنسيت الاسرائيلي قد بدأ نقاشًا علنيًا للرد على تركيا بإثارة قضية الاعتراف بإبادة الأرمن، لكن حوتوبيلي وفقًا لموقع المصدر أشارت أن الخارجية الاسرائيلية كانت تطلب في مثل هذه القضايا من البرلمان وقف النقاش أو إحالته إلى لجنة خاصة وليس معالجته في نقاش مفتوح.
وبيت القصيد هنا أن حوتوبيلي قالت إن الأزمة مع تركيا دفعتهم إلى دراسة سلسلة خطوات للرد على الخطوات التركية، ويتوافق مع هذا الأمر ما نشرته صحف إسرائيلية وما ذكرته وكشفته القناة الإسرائيلية العاشرة عن خطة أعدتها حكومة بنيامين نتنياهو لحظر أنشطة تركيا في القدس المحتلة، تشمل منع أنشطة وفعاليات منظمات وجمعيات مقربة من الحكومة التركية.
وما ذكر في الإعلام قبل ذلك من تقارير عن استياء دول عربية من عدم قيام “إسرائيل” بإجراءات حاسمة ضد النشاط التركي في القدس وأن السلبية يمكن أن تجعل تركيا طرفًا مؤثرًا بالأحياء الفلسطينية في القدس.
ولا يقتصر هذا على الإجراءات الداخلية التي كان منها التضييق على مؤسسة تيكا وجاء في سياقها اعتقال المواطنة التركية أبرو أوزكان، بل إن الأمر الأكبر هو التأثير على السياسات الدولية والإقليمية لتقييد تركيا، وأشار لهذا الأمر بشكل واضح في العام الماضي الجنرال الإسرائيلي أرييه الداد الذي دعا إلى أن تبادر “إسرائيل” بشن حرب دبلوماسية وسياسية ضد تركيا بهدف المس بمصالحها الإستراتيجية الكبرى، ومن ذلك دعم استقلال إقليم شمال العراق ومحاولات لتشكيل محور في المنطقة تختلف معه أنقرة يتكون من “إسرائيل” واليونان وقبرص وبعض الدول العربية وتحريك قضية الأرمن.
لعل أكثر ما يفسر الغياب المقصود لتركيا في وثيقة الخارجية هو ما أشارت إلى بعضه صحيفة يديعوت أحرنوت وهو أن المستويات الرسمية قررت أن يكون الرد العلني باعتدال واقتضاب وحذر على تركيا وعلى أردوغان خشية مزيد من تدهور العلاقات
ووصولاً إلى العقوبات الأمريكية على تركيا التي أعتقد أنها كانت بتحريض إسرائيلي مباشر، مستغلة الخلافات المتزايدة ومحتجة باعتقال القس أو الجاسوس أندرو برانسون، حيث صدرت توصيات إسرائيلية قبل فرض واشنطن عقوبات على تركيا دعت دوائر الحكم في تل أبيب بالعمل على إقناع ممثلي الحزبين الجمهوري والديموقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي بفرض عقوبات مؤلمة على تركيا.
ولا ينسجم غياب تركيا عن خطة 2019 مع توصيات مجلس الأمن القومي بإحداث تحول في أنماط التعاطي الرسمي مع تركيا والعمل على عزلها عالميًا، وقد ذكرت توصيات من قبيل رفع دعاوى ضد أردوغان أمام محكمة الجنايات الدولية بسبب مواقفه من “إسرائيل” واستخدام طرائق إبداعية لمواجهة السياحة الدينية التركية إلى القدس التي يحث عليها أردوغان.
ولعل أكثر ما يفسر الغياب المقصود لتركيا في وثيقة الخارجية هو ما أشارت إلى بعضه صحيفة يديعوت أحرنوت وهو أن المستويات الرسمية قررت أن يكون الرد العلني باعتدال واقتضاب وحذر على تركيا وعلى أردوغان خشية مزيد من تدهور العلاقات مع أنقرة ومنع القيادة التركية من الاستفادة من الرأي العام الحانق على “إسرائيل”، أما من حيث السياسات فبالتأكيد “إسرائيل” لديها تصور شامل لإدارة العلاقة مع تركيا ولكنها أضعف من أن تواجه تركيا مواجهة مباشرة؛ لذا فهي تحرض عليها وتعمل على إضعافها بطرق غير مباشرة.