شهدت الجبهة اللبنانية الساعات الماضية موجة تصعيد من نوع مختلف، إثر استهداف حزب الله مواقع حساسة في الداخل الإسرائيلي، على رأسها “مجمعات الصناعات العسكرية لشركة رفائيل المتخصصة في الوسائل والتجهيزات الإلكترونية والواقعة في منطقة زوفولون شمال مدينة حيفا وقاعدة ومطار رامات ديفيد”، وذلك “بعشرات الصواريخ من نوع فادي 1 وفادي 2 والكاتيوشا”، حسبما نشر الحزب في بيان له صباح اليوم الأحد.
الحزب أشار إلى أن تلك العملية تأتي في سياق الرد الأولي على “الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي استهدفت مختلف المناطق اللبنانية وأدت إلى سقوط العديد من الشهداء المدنيين”، في إشارة إلى تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي وما تلاها من عملية استهداف قادة فرقة الرضوان، رأس الحربة القتالية لحزب الله.
وأسفر القصف عن اندلاع الحرائق في عشرات المنازل والبنايات، المدنية والعسكرية، وإثارة حالة من الرعب لدى المستوطنين الإسرائيليين الذين هرولوا نحو الملاجئ هربًا من تلك الصواريخ التي وصل مداها إلى مدينة حيفا لأول مرة منذ بداية المعركة بين الطرفين، في تطور سيكون له ما بعده.
يتأهب الكيان المحتل على مدار الأيام الماضية في انتظار رد الحزب على نسف قواعد الاشتباك المعمول بها منذ سنوات، وذلك بعد عملية تفجير أجهزة الاتصال “البيجر” التي كانت بحوزة عناصر حزب الله، ثم الغارة التي أسقطت كبار القادة في وحدة الرضوان، وسط تصريحات لا تتوقف من حكومة بنيامين نتنياهو وجيش الاحتلال باستعداده التام للتعامل مع السيناريوهات كافة.
وفي ظل حالة فقدان التوازن التي يعاني منها حزب الله جراء الضربات التي تلقاها مؤخرًا ووضعيته الحرجة التي تتطلب ضرورة الرد حفاظًا على نفوذه وحضوره وسمعته، من جانب، وإصرار نتنياهو ويمينه المتطرف على توسيع دائرة الصراع لخدمة أهداف سياسية خاصة، من جانب آخر، تفتح عملية فجر الأحد الباب على مصراعيه أمام كل الاحتمالات بشأن اندلاع حرب شاملة، رغم التحذيرات الإقليمية والدولية.
تصعيد مختلف
يذهب البعض إلى أن الضربة الأخيرة التي وجهها الحزب للكيان المحتل مختلفة عما سبقها من ضربات، وأنها ربما تكون الأقوى منذ التوتر الأخير بين الطرفين مع بدايات حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك من حيث 3 مؤشرات رئيسية:
الأول: الأسلحة المستخدمة
استخدم حزب الله في تلك العملية صواريخ “فادي1” و “فادي2” (نسبة إلى فادي حسن الطويل الذي اغتاله الاحتلال عام 1987، وهو شقيق وسام حسن الطويل القيادي البارز في الحزب) وهي من نوع خيبر M220 بمدى 80 كيلومترًا، و M302 الذي يصل مداه إلى 105 كيلومترات، وهي المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا الصاروخ منذ بداية حرب غزة.
ويستوعب الصاروخ حمولة تصل إلى 150 كيلوغرامًا، ويبلغ طوله 6.3 متر، وقطر جسمه 0.302 متر، ووزن الإطلاق حوالي 750 كيلوغرامًا، كما يتميز قاذف الصاروخ بطبقتين تتكون كل منهما من ثلاث أنابيب إطلاق، واستخدم لأول مرة في حرب يوليو/تموز 2006.
الثاني: أهداف نوعية
استهدفت عملية الأحد قاعدة “رامات ديفيد” الجوية التي تعد أهم القواعد التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وتمتلك منظومة دفاع جوية متطورة، على رأسها منظومة الدفاع الجوي الأمريكية “باتريوت إم آي إم-104″، وهي واحدة من 3 قواعد جوية رئيسية في الشمال المحتل، هذا بجانب موقعها الاستراتيجي عسكريًا، بالقرب من خطوط المواجهة الإسرائيلية مع لبنان وسوريا والضفة الغربية (تقع في سهل مرج بن عامر أو ما يسمى “سهل زرعين” وسط شمال إسرائيل، في مثلث جغرافي بين جنوب شرق حيفا وجنين وطبريا، وبالقرب من الخط الأخضر الفاصل بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948).
وشاركت تلك القاعدة بما لها من أهمية كبرى وموقع استراتيجي محوري في جميع الحروب والمعارك التي خاضها جيش الاحتلال مع العرب، أبرزها حرب يونيو/حزيران 1967 وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحرب يوليو/تموز 2006، فضلًا عن الحروب في غزة.
ومنذ أشهر نشر حزب الله مشاهد تفصيلية لتلك القاعدة في فيديو مسيرات الهدهد، وهي الفيديوهات التي أثارت سخرية الاحتلال آنذاك، فيما رد الحزب وقتها بأن من يستطيع تصوير تلك القاعدة يمكنه استهدافها وضربها، وهو ما حدث بالفعل اليوم.
ثالثًا: مدى الاستهداف
منذ اليوم الأول لدخول حزب الله على خط الحرب كجبهة إسناد للمقاومة في غزة، التزم الحزب بالخط الجغرافي التقليدي، حيث تمركزت العمليات في مناطق الشمال الملاصق للحدود، لتأتي الضربة الأخيرة وتكسر هذا الحاجز، خاصة بعدما وصلت الصواريخ إلى مدينة حيفا حيث مسافة تتجاوز 55 كيلومترًا عن الحدود اللبنانية.
وأسفر هذا التجاوز الجغرافي لمدى الضربة عن حالة هلع لدى المستوطنين في أكثر من 55 مستعمرة إسرائيلية، حيث دوت صافرات الإنذار وسط تحذيرات ومناشدات لدخول الملاجئ تحت الأرض، وهو التطور الذي لم تعرفه المواجهة بين الطرفين منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تلقى حزب الله منذ بداية المعركة مع الاحتلال ضربات استخباراتية مؤلمة، أسفرت عن سقوط الكثير من قيادات الصف الأول، فضلًا عن التأثيرات النفسية المحتملة لتلك الضربات التي تضع الجبهة الداخلية وتماسكها واستقرارها على المحك.
أعقب ذلك عملية البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي الأخيرة، وما تبعها من عملية استهداف أكثر من 20 قياديًا ومقاتلًا من وحدة الرضوان النوعية، لتضع سمعة الحزب على المحك وتهدد نفوذه ووجوده، كونها ترسيخًا عمليًا لحالة الاختراق الأمني التي يعاني منها، وبالتالي تخرجه بعيدًا عن الساحة كأحد اللاعبين المؤثرين.
ثم جاءت ردود الفعل القادمة من تل أبيب وعلى لسان نتنياهو ووزرائه وكبار قادته والتي تحمل بين طياتها التقليل من قدرات الحزب والمبالغة في التعبير عن نشوة الانتصار، والتأكيد على تحقيق كامل الأهداف دون أي اعتبار لرد الفعل الحزب، لتزيد النار اشتعالًا.
المشهد بصورته الراهنة وضع الحزب في مأزق وحرج سياسي وعسكري كبير، في الداخل والخارج، وبات أمام خيار وحيد إذا أراد الاستمرار كقوة عسكرية إقليمية، وهو الرد واستعادة توازن الردع ولو نسبيًا، بصرف النظر عن أي اعتبارات ومقاربات أخرى تجبره على التزام الهدوء.
أهداف التصعيد
بداية أسفرت العملية عن العديد من الخسائر في صفوف الكيان المحتل، حيث أصيب 4 إسرائيليين في حيفا و3 قرب مدينة الكريوت كما ذكرت نجمة داود، إضافة إلى نقل 8 جرحى لمركز عيمك الطبي في العفولة، وفق القناة الـ12 الإسرائيلية، فضلًا عن تضرر 12 منزلًا واحتراق عشرات السيارات في كريات بياليك شمال حيفا بحسب صحيفة معاريف.
فيما كشفت وسائل إعلام عبرية أخرى عن اندلاع الحرائق في عدد من الأماكن قرب مجدال هعيمق وفي المنطقة الواقعة بين كفار راوخ ويوكنعام، وهي مشاهد لم يعرفها الشارع الإسرائيلي منذ بداية الحرب.
كما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية أن العملية أثارت الهلع بين الإسرائيليين، ما دفعهم للهرولة نحن الدخول للملاجئ والاحتماء بها، فيما نقلت عن بعض سكان مستوطنة كريات طبعون قولهم إن الملاجئ التي حاولوا الاختباء فيها كانت مغلقة، وأخرى كانت ممتلئة عن آخرها.
وبعيدًا عن تلك الخسائر الأولية الظاهرة فإن حزب الله سعى من وراء عمليته تلك تحقيق عدد من الأهداف أبرزها:
أولًا: غسل سمعته التي تأثرت بالعمليات النوعية التي قام بها الاحتلال خلال الآونة الأخيرة وأسفرت عن سقوط كبار القادة وإحداث هزة نفسية عميقة في الجبهة الداخلية، وطمأنة أنصاره أنه ما زال يتمتع بالقدرات العسكرية التي تؤهله للدفاع عنهم.
ثانيًا: الانتقال عمليًا من مربع تلقي الضربات إلى توجيهها، مع إظهار القدرات العسكرية وإمكانية توسيع نطاق العمليات، والوصول إلى مسافات أبعد وأكثر عمقًا في الداخل الإسرائيلي مما كانت عليه قبل ذلك.
ثالثًا: تفنيد مزاعم الكيان المحتل بشأن القضاء على مقدرات الحزب وتدمير بنيته العسكرية، من خلال الرد بهذا الشكل، باستخدام صواريخ لم تستخدم من قبل، وعبر منصات قوية تشكك في تصريحات جيش الاحتلال بالقضاء على منصات الإطلاق الخاصة بالحزب.
رابعًا: التأكيد على الالتزام – حتى الآن – بقواعد الاشتباك المتعلقة باستهداف المنشآت العسكرية – دون المدنية – من خلال قصف قاعدة “رامات ديفيد” الجوية وشركة لتصنيع الوسائل الإلكترونية المستخدمة في العمليات الاستخباراتية، وهو بذلك يريد وضع الاحتلال في موقف حرج لا سيما بعد استهدافه المدنيين عبر سلسلة تفجيرات أجهزة الاتصالات اللاسلكية الأخيرة.
خامسًا: محاولة فرض قواعد اشتباك جديدة يحاول من خلالها الحزب نسف أوهام نتنياهو بشأن عودة سكان الشمال لمناطقهم بالقوة العسكرية دون الوصول إلى تفاهمات سياسية إزاء هذا الأمر، وذلك من خلال توسيع مدى الاستهداف ليشمل حيفا، وتحويل مسألة عودة سكان الشمال (100 ألف تقريبًا) إلى عبء إضافي على رئيس الحكومة العبرية بدلًا من إنهائها، فالوصول إلى حيفا يعني انضمام مئات آلاف المستوطنين إلى قائمة النازحين، وهو ما بدأ يلوح في الأفق، حيث الهروب للملاجئ وتعليق الدراسة في عكا وطبريا ونهاريا وصفد، وحالة غضب متصاعدة لدى الشارع الإسرائيلي جراء هذا التصعيد على الجبهة الشمالية.
سيناريوهات ثلاث
لا يمكن اعتبار ما حدث خرقًا لقواعد الاشتباك، أسوة بالخرق الذي قام به جيش الاحتلال، كونه ما زال في إطار الرد التقليدي، وإن كان استثنائيًا إلى حد ما، وهو ما يثير التساؤلات حول قدرة الحزب، ورغبته أولًا، في خرق تلك القواعد وتدشين أخرى جديدة تعيد الاتزان لمعادلات التوازن في القوى بينه وبين جيش الاحتلال.
وأمام إصرار نتنياهو المأزوم ويمينه المتطرف على المضي قدمًا في التصعيد، وتوسيع دائرة الصراع شمالًا وجنوبًا، حتى إن أربكت الضربة الأخيرة حساباته إلى حد ما، بات حزب الله أمام سيناريوهات ثلاث:
السيناريو الأول: المزيد من التصعيد لمجابهة العنجهية الإسرائيلية وهو ما قد يقود في النهاية إلى حرب شاملة، لا تتوقف حدودها عند لبنان و”إسرائيل” فحسب، بل ربما تفتح الباب لانضمام لاعبين جدد، خاصة مع إعادة نشر الولايات المتحدة بارجاتها الحربية في المنطقة مرة أخرى، ويتوقف ذلك على حسابات حزب الله ومقارباته وقدراته العسكرية وحجم التنسيق بينه وبين حلفائه، وهو السيناريو الأصعب والأقل احتمالية رغم الأجواء المشحونة حاليًا.
السيناريو الثاني: الإبقاء على قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضها جيش الاحتلال، مع تبني حزب الله لسياسة استنزافية قاسية، عبر العمليات النوعية بين الحين والآخر، مع دخول جبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق على الخط، يُفشل بها أحلام نتنياهو في عودة سكان الشمال بالقوة، ما يترتب عليه لاحقًا ضغوطًا قوية في الداخل والخارج على الحكومة قد تقود في النهاية إلى حلحلة الأزمة في غزة والتوصل لاتفاق يبرد كل التوترات الحالية.
أما السيناريو الثالث: إعلان حزب الله الاكتفاء بهذا الرد والتراجع رويدًا رويدًا كجبهة إسناد للمقاومة، والاكتفاء بضربات هامشية وغير مؤثرة بين الحين والآخر، من باب حفظ ماء الوجه، في ظل الخسائر التي مُني بها مؤخرًا، وهو ما يحقق الأهداف الإسرائيلية مع تبريد الأجواء على الجبهة الشمالية في إطار تفاهمات غير معلنة، وهنا فالحزب على موعد مع خسائر سياسية فادحة، خاصة إن استمرت جبهة غزة في المعركة مع الاحتلال.
وفي ظل ما يحمله رد حزب الله من دلالات، حتى إن كانت قصيرة المدى، فإن الأجواء في مجملها تذهب باتجاه الانفلات والتصعيد، وربما الخروج عن السيطرة، لتبقى كل السيناريوهات متاحة، وربما بنسب متقاربة، يتوقف الأمر هنا على رد الفعل الإسرائيلي وعلى قدرة حلفاء تل أبيب على ضبط نتنياهو وتلجيمه قبل أن يُدخل المنطقة بأكملها في حرب لن يكون رابحًا فيها.