بعد فترة ركود مؤقتة، عاد الجيش الوطني الشعبي الجزائري إلى الساحة السياسية من جديد ليضطلع بالأدوار الأولى مستفيدا من مساهمته في تفكيك خلية لتهريب الكوكايين. ولكن، هل يعتبر الفريق أحمد قايد صالح الضامن الوحيد لأي تغيير سياسي يمكن أن تشهده البلاد؟
ركود امتد لقرابة 30 شهرا
إلى حدود سنة 2016، كانت دائرة الاستعلام والأمن مسؤولة عن إدارة وتنظيم السلطة السياسية والمالية في الجزائر. وتشكل هذه الدائرة جهاز المخابرات الجزائري، وهي تضم هيكلا مترامي الأطراف يقوده الجنرال القوي محمد مدين، المعروف باسم الجنرال توفيق. وبعد حل هذا الجهاز الاستخباراتي، باتت زمام السلطة في عهدة رئاسة الجمهورية.
اقتداء بالنموذج السياسي الذي طبقه الملك حسن الثاني في المغرب والرئيس بن علي في تونس، زاد الرئيس بوتفليقة صلاحيات وامتيازات المديرية العامة للأمن الوطني التي بلغ عدد عناصرها 285 ألف عنصر، بالإضافة إلى تعزيز صفوف عناصر الدرك الوطني ليبلغ عدد عناصره 175 ألف دركي. وتؤكد هذه الخطوة أن بوتفليقة يولي أهمية كبرى لقوات الأمن الداخلي على حساب الجيش، في محاولة منه للحد من نفوذ العسكر داخل البلاد.
منذ فترة حكم الشاذلي بن جديد، برزت في الجزائر فئة جديدة من البارونات مدعومة من مسؤولين سامين في الدولة، وقد كانت متورطة في عدة عمليات تهريب، التي كانت تتم بعيدا عن رقابة الرئيس السابق لدائرة الاستعلام والأمن.
تدل هذه المعطيات على أن الجيش الوطني الشعبي الجزائري سيكون له كلمة الفصل بشأن ترشح بوتفليقة لولاية خامسة أو رئيس جديد يكون من الحاشية العسكرية
مع تحويل مركز السلطة في قصر المرادية إلى سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس، طرأت تغييرات شاملة على المشهد السياسي ماساهم في بروز طبقة سياسية-مالية جديدة أسست إمبراطورية واسعة وأنشأت علاقات دولية تمتد من ريو دي جانيرو مرورابمرسيليا وفالنسيا وصولا إلى دبي. وقد اعتمد سعيد بوتفليقة على رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، علي حداد. ويبدو أن حداد، المحمي من قبل شقيق الرئيس، ينوي بدوره الترشح لخلافة الرئيس الجزائري في أفق سنة 2019.
لقد تسببت هذه العملية التي يمثلها شقيق الرئيس في تهميش الجيش، الذي يشكل الإطار الفعلي للنظام ومؤسسات الدولة الجزائرية. ولكن من الواضح أن النفوذ الممنوح للجيش لم يكن يروق للجميع، وخير دليل على ذلك حالة انعدام الثقة التي تطغى على البلاد.
تفكيك خلية تهريب المخدرات جاءت في وقتها
أعيد خلط الأوراق من جديد بعد أن لاحت في الأفق قضية كمال الشيخي، الملقب “بالجزار” (البوشي)، الذي ينشط في توريد اللحوم من البرازيل والباراغواي. وخلال شهر أيار/ مايو من سنة 2018، تم تفكيك خلية تهريب الكوكايين في ميناء وهران.
إن هذه القضية متشعبة وتمتد فروعها إلى دوائر في السلطة، وقد تسبب التحقيق في فقدان عشرة قضاة لمناصبهم إلى جانبالعديد من المسؤولين السامين؛ على غرار المدير العام للأمن الوطني اللواء عبد الغني هامل، وقائد الدرك الوطني اللواء مناد نوبة. وقد أدت هذه الإقالات إلى فتح الطريق أمام الجيش ليعود من جديد ويمسك بزمام الأمور على حساب هذين الجهازين الأمنيين، اللذين عول عليهما بوتفليقة للحد من نفوذ العسكر. كما ساهم ذلك أيضا في جعل الجيش في مركز السلطة، بينما عزز الفريق قايد صالح من نفوذه وأصبح يسيطر على قرابة 80 بالمائة من القوة العامة في الجزائر.
اهتزت صورة الجيش بعد الهجوم الدامي الذي خلف قتلى في صفوف عناصر من الجيش الوطني الشعبي بتاريخ 30 تموز/ يوليو في جبل بيسة
في الحقيقة، تدل هذه المعطيات على أن الجيش الوطني الشعبي الجزائري سيكون له كلمة الفصل بشأن ترشح بوتفليقة لولاية خامسة أو رئيس جديد يكون من الحاشية العسكرية. ومن بين الأسماء التي تداولتها الإشاعات، رئيس الحكومة السابق عبد المجيد تبون، ورئيس الحكومة الحالي أحمد أويحيى الذي لم يتردد في الكشف عن دوره “كرجل المهام القذرة”.
حتى يفتح الأبواب المغلقة في وجه الجيش التي تعيق مساعيه للعب الأدوار الأولى في الجزائر، سارع رئيس أركان الجيش الجزائري بتنصيب كل من الفريق علي بن علي قائدا للحرس الجمهوري، والفريق بشير طرطاق على رأس دائرة الاستعلام والأمن وجهاز التنسيق بين الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى إنهاء مهام اللواء حبيب شنتوف قائد الناحية العسكرية الأولى في ولاية البليدة.
لكن يبقى السؤال المطروح حول ما إذا كان رئيس هيئة الأركان سيُقدم على اتخاذ قرارات جريئة للإطاحة بحاشية بوتفليقة. إنهذا التساؤل يشغل بال السفارات الغربية والرأي العام الجزائري، الذي ليس أمامه خيار سوى الاكتفاء بالمشاهدة. وتجدر الإشارة إلى أن قايد صالح لا يمكن أن يعكس صورة النظام العسكري الجزائري من خلال لعب دور “الرجل صاحب النفوذ الذي يختبئ وراء ظل رجل سياسي”، ولكنه يعي جيدا أنه قادر على الاعتماد على “الذئاب الفتية” الطموحة التي تتمتعبرؤية شاملة وواقعية للوضع الذي تمر به الجزائر حاليا.
لا يمكن لقايد صالح أن يقدم على أية خطوة دون أن يحصل على موافقة النظام الجزائري بمختلف مكوناته، والقوى الأجنبية التي لديها مصالح هائلة في الجزائر
للتوضيح أكثر، نسوق أسماء “الثلاثي الصاعق” الذي يضم شخصيات لا تسلط عليهم هالة إعلامية كبيرة مقارنة برئيسهم، وهم سكرتير الفريق قايد صالح اللواء محمد يونسي، ومستشار ديوان الفريق قايد صالح اللواء جمال قروي، واللواء فاطمة بودواني المكلفة بالتعاون الدولي ضمن مجموعة 5+5 في مجال الدفاع، وتحظى بوداني بصفات المحلل الاستراتيجي الناجح بشهادة نظرائها. يهتم هذا الثلاثي الصاعق في الحاضر والمستقبل بتطوير الاستراتيجية العسكرية والسياسية للجزائر. ومن المرجح أن يكون هذا الثلاثي هو من يهمس في أذن رئيس هيئة الأركان للقيام بترقيات داخلية واتخاذ قرارات متعلقة بالقضايا السياسية الاستراتيجية.
جيش غير منيع
يبدو أن صورة الجيش المنيع مهددة رغم الجهود التي يبذلها رئيس أركان الجيش، ونائب وزير الدفاع الجزائري قايد صالح، الرامية لترسيخ صورة مشرقة لدى الرأي العام الجزائري. وقد اهتزت صورة الجيش بعد الهجوم الدامي الذي خلف قتلى في صفوف عناصر من الجيش الوطني الشعبي بتاريخ 30 تموز/ يوليو في جبل بيسة، تحديدا في القطاع العسكري في سكيكدة التابع للناحية العسكرية الخامسة. وخلال عمليات التمشيط، فقد الجيش الجزائري قرابة عشرين من جنوده إثر اشتباكه مع عناصر إرهابية. وقد أسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل أربعة إرهابيين وحجز الجيش الجزائري لترسانة عسكرية “هامة”، حسب ما أفادت به السلطات.
يبدو محتوى الرسالة التي نقلها المعتدون واضحا لرئيس هيئة الأركان، ومفادها أنه غير قادر على احتواء “مخلفات الإرهاب” ومكافحة جميع أنواع التهريب. كما ساهمت هذه الحادثة في تعزيز موقف المعارضين لسيطرة الجيش، وزادت من حدةالانتقادات الصادرة عن أولئك الذين لم يتقبلوا بعد إقالة الجنرال توفيق من رئاسة دائرة الاستعلام والأمن؛ وهو ما أضعفموقف الجيش الجزائري.
في الواقع، يعي الفريق قايد صالح جيدا أن كل هذه الانتقادات الموجهة للجيش لن يكون لها تأثير أمام شغور منصب إدارةالسلطة. وربما مثلت الثغرة التي تركها بوتفليقة في منصبه بعد أن سافر إلى جنيف لتلقي العلاج فرصة للقايد صالح لتعلم كيفية عدم إيلاء أهمية للانتقادات الموجهة للجيش من طرف معارضيه. ويوجد طريقتان للتعامل مع الحالة الصحية المتدهورة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أولهما تطبيق الفصل 102 من الدستور الجزائري المتعلق بشغور منصب الرئيس،وثانيهما تعديل البرلمان للدستور لتسمية القايد صالح نائبا لرئيس الجمهورية مع تمتعه بصلاحيات واسعة.
لا يمكن لقايد صالح أن يقدم على أية خطوة دون أن يحصل على موافقة النظام الجزائري بمختلف مكوناته، والقوى الأجنبية التي لديها مصالح هائلة في الجزائر. وفي سيناريو آخر، يمكن “للذئاب الفتية” أن تسبق الجميع إلى توجيه ضربة نوعية شبيهة بثورة القرنفل في البرتغال سنة 1974. وفي سيناريو مغاير، ربما تهتز الجزائر على وقع احتجاج شعبي واسع على الطريقة التونسية، أي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وبذلك ستُخلط الأوراق السياسية من جديد.
المصدر: المركز الفرنسي للبحث الاستخباراتي