عنف وفوضى، نزوح وهجرة، فقر ومجاعة.. هذه بعض تفاصيل أزمة دول بحيرة التشاد الإنسانية التي تعد الأبرز في دول القارة الإفريقية، أزمة ما فتئت تتصاعد حدتها نتيجة قصور المجتمع الدولي عن الإيفاء بالتزاماته المادية والسياسية، فضلًا عن انتشار الجماعات المسلحة في المنطقة وانعدام التنمية الريفية وآثار التغير المناخي، وأسباب أخرى.
أزمة شاملة
تغطي بحيرة تشاد مناطق في شمال شرق نيجيريا وأقصى شمال الكاميرون وغرب تشاد وجنوب شرق النيجر، وتتشارك هذه الدول الحدود التي يسهل اختراقها على بحيرة المياه العذبة قليلة العمق التي تنتشر فيها مئات الجزر الصغيرة.
التغير المناخي
تعيش المنطقة وفق هيئات الإغاثة “أزمة حادة” ناجمة عن عوامل التغير المناخي وتراجع بحيرة تشاد وتقدم الصحراء الكبرى، حيث فاقم التدهور البيئي – بما في ذلك موجات الجفاف المتكررة – أزمة سكان المنطقة الذين يعتمدون على صيد الأسماك والزراعة القائمة على الري.
وفقدت بحيرة تشاد 90% من مساحتها على مدى بضعة عقود، وتراجعت من 25 ألف كيلومتر مربع في ستينيات القرن الماضي إلى أقل من ألفي كيلومتر مربع في الوقت الحاليّ، ولكنها تظل مع ذلك مصدرًا رئيسيًا للماء والأسماك لسكان المنطقة القاحلة المحيطة بها.
ضحية العنف
رغم انخفاض العمليات العسكرية والهجمات التي يشنها مسلحو “بوكو حرام” خلال السنتين الأخيرتين، لا تزال مستويات العنف في البلاد في حالة ارتفاع، مما أدى إلى انعدام الأمن وإعاقة وصول أي مساعدات إنسانية للمنطقة.
وتعرف هذه المنطقة منذ قرابة الـ10 سنوات أعمال عنف وحربًا بين الجماعات المسلحة بقيادة جماعة “بوكو حرام” من جهة والجيوش النظامية هناك بمساعدة الجيش الفرنسي المنتشر في المنطقة، الذي جاء لمساعدة نيجريا في حربها ضد هذه الجماعات.
الأزمة في حوض بحيرة تشاد تتجلى أيضًا في تحركات السكان
تسببت أعمال العنف التي تشارك فيها الجماعات المسلحة وعناصر الأمن والجيش النظامية هناك في تفاقم الوضع الإنساني الصعب في الأصل، إذ خلفت وفق بعض التقديرات 20 ألف قتيل على الأقل وأكثر من 2.6 مليون نازح ولاجئ.
وخلقت قضية بوكو حرام العديد من نقاط الضعف، وهي فوق كل ذلك تهديد للسكان، وفقًا لمنسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في النيجر بينتو دجيبو الذي أوضح أن هناك الآلاف من الشباب الذين يخاطرون بالانضمام إلى بوكو حرام، وقال “حتى الرعاة الذين يذهبون إلى الجانب الآخر لمجرد أسئلة تتعلق ببقاء ماشيتهم، يستمرون للأسف في تمويل جماعة بوكو حرام بدفع ضرائب لهذه المنظمة”.
نتيجة أعمال العنف عرفت المنطقة تمزق النسيج الاجتماعي بطرق تحتاج إلى عدة أجيال لإصلاحه، حيث ارتفعت عمليات الخطف والقتل واستخدام الأطفال كقنابل بشرية والعنف الجنسي بمعدلات تنذر بالخطر في حال لم يتم إيقاف هذا النزيف وهذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس وأضرت بالجميع هناك.
ومن شأن استخدام النساء والأطفال في التفجيرات إضعاف الترابط الاجتماعي وتحطيم الثقة بين المجتمعات، مما يزيد من مخاطر عودة بيئة التوترات والصراع، كما من شأن هذا العنف أن يجعل الشباب محاصرين في حلقة مفرغة حيث أنهم يفقدون فرص الحصول على التعليم والعمل، مما يعرضهم لخطر أكبر من الانعزال والتطرف.
نزوح وهجرة
فيما تقل مياه البحيرة يتزايد عدد السكان بمن فيهم ملايين من المهجرين من مناطق النزاع، فالأزمة في حوض بحيرة تشاد تتجلى أيضًا في تحركات السكان، ويضطر الناس إلى مغادرة منازلهم لإنقاذ حياتهم على حساب سبل معيشتهم، ما أدى إلى حدوث موجات هجرة ونزوح كبرى.
تواصل أعمال العنف يزيد من خطورة الأزمة
أثرت أعمال العنف بصورة كبيرة على أنشطة الصيد والزراعة وأرغمت مئات الآلاف من المدنيين على اللجوء إلى المخيمات والمدن الكبرى شمال شرق نيجيريا الأكثر أمنًا من الأرياف، ويقيم البعض في مدارس ومبان عامة ومخيمات لاجئين في ظروف بائسة، في حين يقيم آخرون لدى أقارب أو تستقبلهم أسر.
إجمالًا هناك أكثر من 211.000 لاجئ وأكثر من 2.2 مليون نازح داخلي في المنطقة، انتشروا بين القرى والمناطق الوعرة التي يصعب الوصول إليها، حتى يأمنوا على حياتهم من الحرب، لكنهم لم يأمنوها من الجوع والمجاعة.
مؤشرات التنمية البشرية متدنية
نتيجة ذلك أصبحت هذه المنطقة في إفريقيا من أفقر المناطق وأكثرها تخلفًا في العالم، مع مؤشرات للتنمية البشرية متدنية جدًا في مجالات مثل التعليم والصحة والأمن، ما جعلها في حاجة كبيرة وبصفة عاجلة للمال حتى تخرج من أزماتها المتعددة.
وتجد المجتمعات المحلية التي تكافح تحت وطأة المصاعب الاقتصادية وموجات الجفاف صعوبة في التأقلم مع الوضع، حيث انهارت التجارة عبر الحدود مع نيجيريا بعد أن كانت مزدهرة، وانخفض الإنتاج الزراعي بعد أن أُجبِرت العائلات على الفرار بحثًا عن الأمان.
الدول المانحة تتدخل.. لكن
أكثر من سنة ونصف مرت على أول مؤتمر دولي للمانحين عقد بأوسلو في فبراير/شباط 2017، خلاله جُمع قدر من الأموال لا يكفي للحد من مخاطر المجاعة ومساعدة 2.5 مليون نازح في نيجيريا والدول المطلة على بحيرة تشاد التي تعاني من إحدى أكبر وأخطر الأزمات الإنسانية في العالم.
وتعهدت عدة دول خلال المؤتمر بتقديم مساعدات عاجلة لدول المنطقة بقيمة 457 مليون دولار، من بين 672 مليونًا تكفلت بها 14 دولة لفترة 3 أعوام، وتمثل تلك الأموال ثلث قيمة المساعدات التي ترى الأمم المتحدة أنها ضرورية للسيطرة على الأزمة هناك.
ما يقلق المنظمات الإنسانية أيضًا صعوبة الوصول إلى أجزاء كبيرة من الإقليم بسبب وجود جماعات مسلحة أو عمليات عسكرية تنفذها الشرطة والجيش
مثلت قيمة هذه الوعود المالية التي خرج بها مؤتمر أوسلو أقل من نصف الحاجيات، فيومها طلبت الدول المعنية مساعدات بقيمة 1.5 مليار دولار، لكن الوعود التي قطعت لم تزد قيمتها على 672 مليون دولار.
USD 2.17 billion pledged at the #LakeChadBerlin conference in Berlin! Foreign Minister @HeikoMaas: "This conference shows what is possible when we work together." https://t.co/emn94TWmRr pic.twitter.com/CNz3GxYFP7
— GermanForeignOffice (@GermanyDiplo) September 4, 2018
بعد 18 شهرًا عاد المانحون إلى برلين هذه المرة، وتعهدوا بتقديم مساعدات بقيمة 2.17 مليار يورو لتنمية دول بحيرة تشاد، وقالت وزارة الخارجية الألمانية التي نظمت المؤتمر في الـ3 والـ4 من سبتمبر/أيار الحاليّ في بيان إن هذه الأموال ستكون متاحة للدول المعنية “خلال السنوات المقبلة”.
وبالإضافة إلى مبلغ الـ2.17 مليار يورو، فقد تعهدت بنوك للتنمية بتقديم قروض ميسرة بقيمة 467 مليون دولار إلى الدول المطلة على البحيرة، بحسب البيان، كما أعلنت ألمانيا عزمها تقديم أكثر من 100 مليون يورو من المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى 40 مليون يورو ستخصص لأهداف الوقاية والاستقرار في دول الحوض بحلول العام 2020، وفقًا لنص البيان.
مساعدات غير كافية
هذه الأموال المرصودة لمساعدة دول “بحيرة التشاد” للخروج من أزمتها لن تكون كافية لتحقيق ذلك، فهذه المساعدات مخصصة لمشاريع التنمية طويلة الأجل، ولن يكون باستطاعتها إبعاد شبح الأزمة عن المنطقة بشكل عاجل كما تأمل شعوب المنطقة.
وترى منظمات دولية عاملة في المجال الإنساني أن الأولوية الآن تتمثل في الاستجابة للحالات الإنسانية العاجلة وحماية ملايين الأشخاص المتأثرين بالصراعات، واستخدام الأموال لتوزيع الطعام وتوفير مياه الشرب في المناطق النائية، وكذلك توفير الخدمات الصحية والتعليم والمساكن لمساعدة الضحايا على بدء حياتهم من جديد.
وقبل نحو أسبوع نبهت 10 منظمات غير حكومية تشتغل في المجال الإنساني إلى أن 11 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدة إنسانية ملحة في حوض بحيرة تشاد، من أجل بقائهم في هذه المنطقة التي تنشط فيها بقوة جماعة “بوكو حرام”.
يعاني مئات الآلاف من خطر المجاعة في المنطقة
المنظمات ذكرت في بيان نشر عشية مؤتمر المانحين لبحيرة تشاد الذي استضافته برلين في الـ3 والـ4 من الشهر الحاليّ أن هذا النزاع الذي عمره 9 أعوام في حوض بحيرة تشاد يؤثر بشكل كبير على حياة نحو 11 مليون شخص يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية للبقاء.
وأوضحت “المتمردين إضافة إلى العمليات العسكرية في الدول الـ4 أجبروا 2.4 مليون شخص على مغادرة منازلهم، وأصبح 5 ملايين شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي، في وقت اضطروا إلى تقليص نشاطهم الاقتصادي بشكل كبير”.
وما يقلق المنظمات الإنسانية أيضًا صعوبة الوصول إلى أجزاء كبيرة من الإقليم بسبب وجود جماعات مسلحة أو عمليات عسكرية تنفذها الشرطة والجيش، ولا يزال قرابة 800 ألف شخص محاصرين منذ سنوات في مناطق لا يمكن الوصول إليها في ولاية بورنو شمال شرق نيجيريا وحدها، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
في حال استمرت الأوضاع الإنسانية السيئة، من عدم كفاية الخدمات والمرافق الأساسية وضعف الإمدادات المالية ومحدودية الوصول إلى الأشخاص الأكثر احتياجًا إلى المساعدات وزيادة حاجة الناس إلى المعونة والحماية، فإن ذلك قد يكون سببًا لكارثة إنسانية يصعب السيطرة عليها في هذه المنطقة الإفريقية.