قبل عدة سنوات اعتمدت دولة الإمارات مشروعًا سياسيًا إستراتيجيًا تعدى حدود الطموح الاقتصادي بكثير، وإن كان الاقتصاد ركنًا محوريًا فيه، والناظر إلى خريطة الملاحة والموانئ في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي على وجه التحديد سيلاحظ امتدادًا جيوإستراتيجيًا إماراتيًا توزع ما بين اليمن والقرن الإفريقي ومصر (إن لم يكن بشكل مباشر)، بعيدًا عن مناطق نفوذ السعودية التي تركت لها الإمارات “قيادة” الخليج والعالم الإسلامي، في مقابل أن تخلف لنفسها دورًا أشد أهمية وتأثيرًا خارج محيطها الإقليمي الخليجي المليء بالنزاعات ومحاولات السيطرة.
“جيبوتي تؤمم أسهم في ميناء رئيسي على البحر الأحمر”، تحت هذا العنوان كشفت صحيفة “فايننشال تايمز“، أمس الإثنين، سيطرة دولة جيبوتي على ميناء حاوياتها على ساحل البحر الأحمر – كاملاً – الذي تديره شركة “موانئ دبي العالمية” منذ عام 2006، في خطوة هي الأعلى في منحنى النزاع المستمر بين الدولة الإفريقية والإمارات العربية المتحدة.
ضربة جديدة تتلقاها الإمارات في إطار الخيبات المتتالية التي منيت بها في منطقة القرن الإفريقي خلال الأشهر القليلة الماضية التي ربما تعيد رسم خريطة القوى الدولية والإقليمية في هذه المنطقة الإستراتيجية في العالم، التي تحولت في الأعوام الأخيرة إلى ساحة للصراعات والنفوذ، غير أن دخول بعض القوى الأخرى إلى حلبة الصراع وعلى رأسها الصين وإن كان متأخرًا إلا أن وقعه يبدو أنه سيكون موجعًا في تقليص نفوذ أبناء زايد إفريقيًا وهو ما بدت ملامحه تتكشف يومًا تلو الآخر.
الرئيس الجيبوتي يقول إن الاتفاقية التي وقعت مع مجموعة موانئ دبي العالمية تنتهك السيادة الجيبوتية، والإقدام على إلغائها كان محاولة للحفاظ على استقلالية القرار الاقتصادي لبلاده
جيبوتي تطرد “موانئ دبي”
قالت حكومة جيبوتي: “الدولة أممت حصة ميناء جيبوتي التي تبلغ الثلثين في مرفأ دوراليه للحاويات” وجاء في بيان لها أنها “قررت التأميم مع السريان الفوري لجميع الأسهم والحقوق الاجتماعية لميناء جيبوتي في شركة مرفأ دوراليه للحاويات لحماية المصالح الأساسية للبلاد والمصالح المشروعة لشركائها”، وتابع: “ولمرة أخرى، تؤكد جمهورية جيبوتي بشكل واضح أن شركة مرفأ دوراليه للحاويات لا يمكنها تحت أي ظرف من الظروف أن ترجع تحت سيطرة موانئ دبي العالمية” بحسب “رويترز“.
وأضاف “لذا فإن موانئ دبي العالمية أمامها دولة جيبوتي كمحاور وحيد في جميع المناقشات المتعلقة بتداعيات إنهاء عقد الامتياز، ولذا فإن تعويضًا عادلاً هو الخيار الممكن الوحيد أمام موانئ دبي العالمية، تمشيًا مع قواعد القانون الدولي”.
يعد هذا القرار الحلقة الأكثر توترًا في النزاع الممتد طيلة ست سنوات مع موانئ دبي العالمية التي تسيطر عليها حكومة دبي، وتعود البداية إلى 22 من فبراير/شباط الماضي، حين أعلنت حكومة جيبوتي وبشكل منفرد إلغاء الامتياز الممنوح لشركة موانئ دبي العالمية بشأن إدارة وتشغيل ميناء جيبوتي التي كانت تملك نحو 33% من حصته، وهو ما أثار حفيظة الإماراتي التي لوحت باللجوء إلى التحكيم الدولي ردًا على هذه الخطوة.
عدد من المصادر أشارت إلى احتمالية لجوء أرض الصومال إلى اتخاذ قرار مماثل في إنهاء الاتفاق الذي بينها وبين دبي بشأن إدارة مينائها نظرًا للشروط المجحفة التي يتضمنها هذا الاتفاق أسوة بما فعلته حكومة جيبوتي
الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي وعلى لسان مستشاره الإعلامي نجيب علي طاهري برر هذا القرار بأن الاتفاقية التي وقعت مع مجموعة موانئ دبي العالمية تنتهك السيادة الجيبوتية، والإقدام على إلغائها كان محاولة للحفاظ على استقلالية القرار الاقتصادي لبلاده، لافتًا إلى أن رفض الجانب الإماراتي تعديل الاتفاقية كان نقطة الشرارة التي دفعتهم إلى اتخاذ هذا القرار، واصفًا هذا الموقف بـ”المتعسف”.
طاهري وخلال لقائه التليفزيوني مع “الجزيرة” أكد أن الاتفاقية مجحفة لحقوق جيبوتي وسيادتها الوطنية، موضحًا أنه عندما تم التطرق إلى توسيع وبناء موانئ جديدة “قيل لنا ليس لنا الحق، وتبين أن هناك ملحقات سرية تعطي دبي الحق في تنفيذ ما تريد”، كاشفًا عن تلقي مدير الموانئ الجيبوتية سابقًا (وهو مهندس الصفقة والمقيم بالإمارات حاليًّا) عبد الرحمن بوري مليون دولار سنويًا من الشركة الإماراتية بصفته مستشارًا فيها، في الوقت الذي كان فيه هو المفاوض الرئيسي عن جيبوتي، وهو ما أثار الشك والريبة.
الاتفاقية المبرمة بين “موانئ دبي” وحكومة جيبوتي تضمنت حزمة من الشروط المجحفة حسبما وصفها مستشار الرئيس الجيبوتي، على رأسها منع توسعة مباني الميناء أو إقامة أي مبانٍ جديدة، كما أن حصص التملك المتفق عليها لم تكن هي نفسها في توزيع الأرباح، فضلاً عن جعل الإدارة المالية في يد شركة موانئ جبل علي بمجموعة موانئ دبي العالمية.
المسؤولون الجيبوتيون اكتشفوا لاحقًا أن 20% من الأرباح كانت تذهب إلى كل من بوري ورئيس مجلس إدارة موانئ دبي العالمية سلطان أحمد بن سليم، مما اضطر الحكومة الجيبوتية إلى رفع قضية لرد حقها عام 2012، كما لجأت إلى أبو ظبي التي أخبرتها أن هذا الأمر يخص حكومة دبي، ولا شأن لها به.
خسارة فادحة لمجموعة “موانئ دبي العالمية”
وعليه قررت جيبوتي إلغاء الاتفاقية بشكل نهائي وبصورة لا رجعة فيها حسبما أكد المفتش العام في حكومة جيبوتي ومسؤول ملف المفاوضات مع موانئ دبي حسن عيسى، الذي أعاد التأكيد على أن هذا القرار جاء لاسترداد حقوق بلاده التي أخذت بالتحايل من خلال اتفاقيات غير قانونية.
وفي الجانب الآخر، نددت دولة الإمارات بالقرار الجيبوتي، كما جاء على لسان وزير خارجيتها أنور قرقاش الذي كتب في تغريدة له على حسابه على تويتر في 24 فبراير/شباط يقول: “استيلاء الحكومة الجيبوتية على ميناء دورالي مؤسف، الاتفاقيات والالتزامات والتطمينات لم تصمد أمام الإجراءات التعسفية ضد موانئ دبي العالمية، البيئة الاستثمارية الجيبوتية والعربية تلقت صدمة قوية”.
جدير بالذكر أن عدد من المصادر أشارت إلى احتمالية لجوء أرض الصومال إلى اتخاذ قرار مماثل في إنهاء الاتفاق الذي بينها وبين دبي بشأن إدارة مينائها نظرًا للشروط المجحفة التي يتضمنها هذا الاتفاق أسوة بما فعلته حكومة جيبوتي وهو ما يمكن أن يتضح خلال الأيام القادمة.
تلقت أبو ظبي ضربة أخرى حين رفضت جيبوتي طلبًا إماراتيًا بإنشاء قاعدة لها على أرضها لمتابعة الأوضاع في مدينة عدن اليمنية
ضربات متتالية
لم تكن خسارة الإمارات لإدارة وتشغيل ميناء جيبوتي الرئيسي الضربة الوحيدة التي تلقتها أبو ظبي في هذه المنطقة التي دفعت لأجل تمديد نفوذها بها الغالي والنفيس، إذ تلقت عددًا من اللكمات الموجعة خلال الأشهر الأخيرة وضعت المشروع الإماراتي التوسعي على المحك، وأثارت حالة من القلق داخل أروقة صناع القرار في الدولة الخليجية.
أ: منطقة تجارة حرة في جيبوتي
يعد مشروع تدشين منطقة للتجارة الحرة في جيبوتي بتمويل صيني بقيمة 3.5 مليار دولار، أحد أبرز التحديات التي أثارت حفيظة الإماراتيين بصورة غير مسبوقة، لما يتضمنه من تهديدات كبيرة للوجود الإماراتي في القرن الإفريقي بصفة عامة، فتلك المنطقة التي تعد واحدة من بضعة موانئ ومنشآت تجارية تطورها جيبوتي حاليًّا، على مساحة 48 كيلومترًا مربعًا، سيساهم في تحويل ميناء جبل علي في دبي – فعليًا – إلى ميناء شبه داخلي، بحسب خبراء.
جدير بالذكر أن هذا المشروع الذي من المقرر أن يجري تشغيله بشكل مشترك بين هيئة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي وشركة “ميرشانتس هولدنغز” الصينية، هو جزء من خطة صينية معروفة باسم “الحزام والطريق”، تهدف لإحياء وتطوير طريق الحرير التاريخي عبر تشييد شبكات من الممرات البرية والبحرية والجوية تربط الموانئ الصينية بقارة إفريقيا.
ألغى الصومال عقد تشغيل ميناء بربرة الذي كان تحتل فيه الشركة الإماراتية 51% من عائداته
ب: ميناء بربرة الصومالي
الضربة الأخرى التي تلقتها الإمارات في هذه المنطقة الضيقة إفريقيًا، الغنية سياسيًا، المهمة إستراتيجيًا، كانت خسارة مجموعة موانئ دبي العالمية عقد تشغيل ميناء بربرة الصومالي، بعد أن كان 51% من عائدات التشغيل تؤول إلى الشركة الإماراتية وتتقاسم البقية جمهورية أرض الصومال المعلنة من جانب واحد مع إثيوبيا.
حكومة الصومال أبطلت الاتفاقية الموقعة في فبراير/شباط الماضي بشأن إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة بربرة على ساحل خليج عدن وتشغيل الميناء الرئيسي في المدينة، حيث إنها لم تكن طرفًا فيها من الأساس، فضلاً عن أنها وقعت مع سلطة “أرض الصومال”، غير المعترف بها دوليًا، كما أنها رأتها تهديدًا لوحدة أراضيها.
نجحت الصين من خلال هذه التحركات المكثفة في تقديم عرض بديل منافس للمشروع الإماراتي، بدعم سخي وسياسات اقتصادية متطورة
وفي سياق متصل تلقت أبو ظبي ضربة أخرى حين رفضت جيبوتي طلبًا إماراتيًا بإنشاء قاعدة لها على أرضها لمتابعة الأوضاع في مدينة عدن اليمنية، حينها وجهت الإمارات أنظارها إلى جارتها إريتريا ووقعت عقدًا لبناء قاعدة جوية لها شمال ميناء عصب، غير أن القرار الجيبوتي ربما يفتح الباب واسعًا على تحركات إفريقية أخرى مماثلة تهدف إلى تقليص النفوذ الإماراتي الذي بات يستهدف استقلالية القرار السياسي والاقتصادي للدول الإفريقية وهو ما بدأ يثير امتعاض حكومات تلك الدول.
وفي المجمل يبدو أن نفوذ الإمارات في السيطرة على خريطة الملاحة والموانئ في الشرق الأوسط وإفريقيا بات على المحك بفضل صعود الصين إلى واجهة الأحداث ودخولها حلبة الصراع على هذه المغانم الإستراتيجية، لا سيما مشروع “خط واحد ـ طريق واحد” الذي تسعى بكين لتدشينه خلال السنوات الأخيرة.
المشروع يتضمن ربط مواني العالم البرية والبحرية ببعضها البعض بعيدًا عن الهيمنة الأحادية لأمريكا، وعليه جنحت الصين للاتفاق مع باكستان، لترميم وتوسيع ميناء “غوادر” الذي يعد المنافس الأول لميناء دبي، هذا بخلاف تحركات أخرى مع “إسرائيل” واليمن وتركيا وكينيا وإريتريا والصومال وجيبوتي.
نجاح الصين من خلال هذه التحركات المكثفة في تقديم عرض بديل منافس للمشروع الإماراتي، بدعم سخي وسياسات اقتصادية متطورة، جدير بالحصول على ثقة حكومات العديد من الدول، في مقدمتها دول القارة الإفريقية، يشي وفق المؤشرات إلى سحب بساط النفوذ والسيطرة على الموانئ والممرات المائية الحيوية من تحت أقدام أبو ظبي رويدًا رويدًا وهو ما يخشاه الإماراتيون حسبما تكشفه ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية.