كان الفن في العصور القديمة تعبيرًا واقعيًا عن حياة الإنسان وتصوراته، ولما كان واقع تلك العصور الخالية مبنيًا بشكل ما أو بآخر على الدين والفكر والعقيدة، كان الفن أيضًا مرتبطًا بتلك المفاهيم التي أخرجت تلك المقولة الشهيرة بأنه لا فن دون دين.
وبطبيعة الحال فإن الفن الإسلامي وتحديدًا فن العمارة كان وليدًا للبيئة العقدية والممارسات الدينية والاجتماعية والأوساط الفكرية المحيطة به، وكأي عمارة تقليدية في أي مكان بالعالم آنذاك، كانت الخصائص الجغرافية كالطقس والطوبوغرافيا من أهم عوامل تحديد العمارة، فالفن كان تعبيرًا عن معتقدات وثقافة تلك الحقبة من الزمن التي أُنشئ بها، وإذا نظرنا لفنون المجتمعات الإسلامية أو ما نطلق عليه اصطلاحًا الفن الإسلامي باعتباره فنًا برع فيه المسلمون بأسلوب إسلامي أصيل ذو أعماق ميتافيزيقية.
أبواب المساجد غالبًا ما تكون عالية لتنبه الداخل أنه على وشك الدخول إلى مكان له شأن للقاء ربه العظيم
ما من حضارة إلا وكان لها باع في مجال الفنون، منذ العصور الساحقة إلى يومنا الحاضر، ولكن مفهوم الفن اختلف اختلافًا جذريًا من زمان لزمان ومن حضارة لحضارة، وبما أن موضوع مقالنا عن عمارتنا الإسلامية، فحري بالذكر أن تلك الفنون الإسلامية كانت لها بعض القواعد الحاكمة والمنظمة لعملها، مثل القواعد الشرعية التي كانت على سبيل المثال تفرض على الفنان عدم محاولة تصوير الطبيعة، وأن تكون رؤيته للكون مبنية على علم مصدره الوحي، وأن تكون واقعية غير منفصلة عن الحياة.
فكانت تلك الفنون تشمل الأبعاد الثلاث كما عرفناها بالبُعد الوظيفي والجمالي والمعنوي، فحاول الصانع المسلم أن تشتمل صنعته على معنى يذكر بذلك البُعد المعنوي، حتى إن لم نفهمها في زمننا المعاصر، بل والعجيب أن كل زخرفة وإن كانت صغيرة في مسجد قديم لها معنى كامن ورائها، وسنذكر بعد قليل بعض الأمثلة الدالة على ذلك.
1- أزواجًا
هل لاحظت تلك الخطوط البيضاء والسوداء أو الفاتحة اللون والقاتمة، أو تلك المربعات المتقاطعة الشبيهة برقع الشطرنج التي تزين جدران أو أرضيات المساجد والبيوت وغيرها من المباني؟ هل فكرت في معناها من قبل؟
تمثل تلك الخطوط بطبعها تعاقبًا لضدين، مما يمثل قانونًا سُمي بتتالي الأزواج، تلك الأزواج تعبر عن أصل من تراثنا الفكري وهو أن كل ما على هذه الأرض مزدوج، من ليل ونهار، صيف وشتاء، سرور وحزن، قبض وبسط، نصر وانكسار، وغيرها، وتلك الأضداد قد مُثّلت بتلك الخطوط المتعاقبة، ويظهر ذلك النسيج التصميمي في الكثير من البلدان الإسلامية كمصر وسوريا وتركيا وغيرها كما نرى في الصور التالية.
مسجد السلطان برقوق في القاهرة بمصر
مسجد خالد بن الوليد في حمص بسوريا
أحد مساجد أدرنة بتركيا
2- الأبواب العالية
كانت أبواب المساجد غالبًا ما تكون عالية لتنبه الداخل أنه على وشك الدخول إلى مكان له شأن للقاء ربه العظيم، فيرى نفسه صغيرًا في مواجهة عظمة بيت الله، أو ما يُعرف في العمارة بـ”المقياس الضخم”، فيكون للدخول من هذا الباب هيبة تساعد الإنسان على خشوعه.
فالباب يمثل الانتقال من حال إلى حال، من الاهتمام بالدنيا إلى التوجه للآخرة، وإذا نظرنا إلى دعاء الدخول إلى المسجد القائل: “اللهم افتح لي أبواب رحمتك”، فسنجد بعض المؤرخين والمفكرين الإسلاميين الذين يربطون بينه كمصدر إلهام للمقرنصات التي زينت أبواب المساجد، تلك المقرنصات التي تُشعر بنزول أمطار الرحمة.
باب مسجد السلطان أحمد في إسطنبول وتظهر أعلاه صورة للمقرنصات، والمقرنصات هي تلك الزخارف المتدرجة المتكونة من طبقات بأعلى الباب، وهي من أشهر أنواع الزخارف التي برع فيها المسلمون
مدخل أحد مساجد أصفهان في إيران
3- النافورة ورمزيتها
رأى الكثير منا وجود نافورة تتوسط الكثير من المساجد ذات الصحون، تلك النافورة فُسرت أنها تشير إلى عين السلسبيل التي تتوسط الجنة، ومن براعة رمزيتها عندما تتفرع منها أربع قنوات تشير إلى أنهار الجنة الأربع، وتشير الأعمدة الثماني التي تحيطها إلى أبواب الجنة الثماني، أما القبة التي تعلوها فتشير رمزًا إلى العرش، فالفردوس أعلاه العرش كما هو مذكور بالحديث الشريف، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة” صحيح البخاري، وبهذا يكون رؤية الداخل للمسجد للنافورة يذكره بالله وباليوم الآخر بشكل لطيف وغير متكلف.
مسجد عمرو بن العاص في القاهرة
مسجد شيخ زاده في إسطنبول بتركيا
4- القبة
كما كان للقباب في المساجد وظائف نفعية إنشائية أو صوتية، كان لها أيضًا وظيفة جمالية تختص بالشكل الخارجي أو الداخلي، أُكسيت القبة بمعاني عدة منها كونها ممثلة للشيء العلوي أو عالم الأرواح، أو كالسماء التي هي مصدر النور، مما يفسر لنا أحيانا وجود نقوش على الأسطح الداخلية للقباب على هيئة شمس، وقد شبه المعمار سنان القبة التي تعلو مسجد السليمية في أدرنة بتركيا التي تبدو للناظر أنها محمولة بالهواء، بالسماء المرفوعة بلا أعمدة نراها.
قبة مسجد السليمية من الداخل
مسجد السليمية من الخارج
مما سبق يتضح لنا أن الفن الإسلامي المميز لعمارتنا التراثية خرج مصورًا للوجود ولعالم الأفكار من زاوية التصور الإسلامي، فبيّن بشكل مصور لأفكار مجردة بشكل جميل عن الكون والحياة والإنسان بل وعالم الغيب أحيانًا من خلال تصور الدين وفهم الفنان وطريقة إيصاله لتلك الأفكار في صورة عمل فني يفهمه العامي والمثقف بشكل بسيط، وهنالك الكثير من الأمثلة التي لا يتسع المجال لذكرها كلها هنا، ولكن قد يكون ذلك النص بداية لبحثك عن معاني تراها واعتدتها فلم تفكر فيما ورائها.