بينما تكاد عقوبة الإعدام تختفي وتتلاشى في معظم دول وشرائع العالم، تصرّ السعودية بين الفينة والأخرى على إعلان تمسّكها به بأوامر ملَكيةٍ صارمة ورعايةٍ لا متناهية من هيئة كِبار العلماء السعودية، التي تضمّ في عضويّتها كِبار رجال الدين والمفتين السعوديين.
وقد أيّدت الهيئة دعمها الكامل لقرارات الحكومة في اعتقال رجال الدين والدعاة السعوديين، فنشرت في حسابها على تويتر أنّها مع “ولاة الأمر” في كلّ ما يرونه مصلحة للبلاد والعباد. وجاءت هذه التصريحات على إثر الحُكم الصادر قبل أيام بحقّ الداعية الإسلاميّ “سلمان العودة” بالقتل تعزيرًا، في حين يعتقد آخرون أنّ الحُكم نفسه سيلحق بكلٍ مِن عوض القرني وعليّ العمريّ اللذين تمّ اعتقالهما مع العودة بتهمٍ متشابهةٍ تقريبًا.
#المملكة_العربية_السعودية تأسست على الكتاب والسنة، ونحن مع ولاة أمرنا في كل ما يرونه مصلحة للبلاد والعباد، وهذا مقتضى البيعة الشرعية. pic.twitter.com/MjsTaGsB7H
— هيئة كبار العلماء (@ssa_at) June 12, 2017
على إثر هذه التطورات الأخيرة، والانقسامات الشاسعة في ردود الأفعال المتباينة ما بين مؤيدٍ ورافضٍ وصامت، تلحُّ علينا العديد من الأسئلة المهمّة حيال الأسباب الجوهرية وراء ذلك. ما الذي يدفع الناس للطاعة والدعم الأعميين للسلطات؟ وما الذي يدفع آخرين للصمت والتنصّل من إبداء الرأي والاعتراض؟ هل هو الخوف فقط؟ أم أنّه استسلامٌ وتسليم للأمر الواقع لغياب توقعات التغيير؟ أم أنهما الأمرين معًا؟
بدايةً، لا تعدّ طاعة السلطة واتّباعها أمرًا جديدًا البتة، ولربّما هو الأمر الذي سارت عليه البشرية منذ بدايتها وحتى اللحظة، والكثير من التجارب السيكولوجية دلت على ذلك على أقل تقدير، قد يكون أشهرها تجربة ميلغرام التي وجدت أنّ طاعة السلطة متأصلة فينا جميعًا، فالناس يستطيعون اتّباع أوامر السلطة سواء كانت شرعية أخلاقيًا أو حتى النقيض تمامًا.
الأفراد يتحرّكون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام ويؤيّدونه، بحثًا عن التوافق الاجتماعيّ من جهةٍ، وخوفًا من الانعزال والاستبعاد السلطويّ من جهةٍ أخرى
وواحدة من أهمّ الأفكار في علم السياسة هي أنّ جميع الدول، أخلاقيةً كانت أو مستبدة، وُجدت وتوجد على أساسٍ من الرضا والوفاق الشعبيّ والطاعة الجمعيّة. وأنّ جميع الحكومات بغض النظر عن مدى استبدادها، تقوم على المدى الطويل على موافقة غالبية الجمهور من جهة، وصمتِ بعضهم من جهةٍ أخرى.
لماذا تصمت الشعوب؟
الكثير من نظريّات علم النفس الاجتماعيّ والسياسيّ حاولت منذ سنين الغوص فيما وراء الأسباب التي تدفع الأفراد والشعوب إلى الصمت وعدم الاحتجاج على ما يجري من حولهم. مبدئيًا، يمكننا الاستعانة بعددٍ منها لفهم الأمر؛ منها نظرية القيمة المتوقعة ونظرية دوامة الصمت.
تفترض نظريّة “دوّامة الصمت” التي طوّرتها عالمة السياسة الألمانية “إليزابيث نيومان” أنّ الأفراد يخافون من العزلة أو الانفصال أو الاستبعاد الذي قد يلحق بهم نتيجة آرائهم، وهذا الخوف يؤدي إلى الصمت والحفاظ على المواقف والآراء للنفس بدلًا من التعبير والاعتراض.
وعلى وجه التحديد، تقترح النظرية أنّ الاعتقاد بأن رأي الفردِ لا يحظى بشعبيةٍ بين محيطه وشعبه يؤدي به إلى العدول عن التعبير أو الخوف منه. وبالتالي، يصبح صمت الأفراد وتخاذلهم عن التعبير نمطَ حياةٍ يحكمه الخوف والتردّد، فهم بالنهاية يعرفون ويروْن ما هي الآثار المُحتملة التي يمكن أنْ تتبع محاولاتهم في التعبير، كالسجن والتوقيف والتهديد وغيرها الكثير من السلوكيات القمعيّة التي تتبعها السلطات الدكتاتوريّة.
يمكننا القول أنّ سنواتٍ طويلة من التربية الوهابية برعاية السلطة السياسية قد استطاعت إنتاج وعيٍ جمعيّ يعمل على الاتّباع والرضوخ ويفضّل الصمت على الاحتجاج والمجابهة
كما تخبرنا نظرية القيمة المتوقعة أنّ ثمة توقعات معيّنة يرتقبها الفرد ويتوقّعها حول نشاطه بالاحتجاج والتعبير عن رأيه والقيمة المجدية وراء ذلك. فالأشخاص الذين يمتلكون توقعاتٍ وأفكارٍ معينة حول جدوى تعبيرهم عن آرائهم واحتجاجهم على القرارات الصادرة والأحداث الجارية فسيقومون بالتعبير والاحتجاج أكثر ممّن لا يؤمنون بقيمة ذلك وجدواه. وبالتالي، فإنّ التعبير عن الرأي والسلوك الاحتجاجيّ يمكن تحفيزهما من خلال القيمة والجدوى، وإلا فسيرضخ الفرد للاجدوى واللافائدة فيما يخصّ آراءه.
“تويتر” في السعودية: صناعة الخضوع والصمت
يعدّ الإعلام، بشتى وسائله المختلفة وتحديدًا مواقع التواصل الاجتماعي، عاملًا يلعب دورًا محوريًا في تكوين الرأي العام والتريند السائد حول قضايا المجتمع والأفراد، النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وبالتالي، فإنّ الأفراد يتحرّكون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام ويؤيّدونه، بحثًا عن التوافق الاجتماعيّ من جهةٍ، وخوفًا من الانعزال والاستبعاد السلطويّ من جهةٍ أخرى.
دائمًا ما تميل وسائل التواصل الاجتماعيّ إلى اتخاذ جانبٍ واحدٍ مؤّيدٍ لإحدى القضايا أو الشخصيات، ما يجعل من العديد من الأفراد يتبنّون الاتجاه نفسه الذي تتبنّاه تلك الوسائل، أمّا آخرين فيلجأون للصمتِ إمّا تجنّبًا للاضطهاد أو خوفًا من العزلة الاجتماعية أو خوفًا من القمع السياسي الذي يتخذ أشكالًا عدة مثل الحرمان من الوظيفة أو السجن.
وتستخدم الحكومات تلك الوسائل بشكل متزايد لنشر رسائلها السياسية والتلاعب بالرأي العام من خلال صنع “إجماعٍ” ما أو خلق أوهام شعبية كبيرة في سبيل دعم سياسيّ حقيقيّ على أرض الواقع. وكما هو معروفٌ فعليًا، فيعتبر “تويتر” هو الساحة الأساسية التي يقصدها السعوديّون من بين بقية المواقع. وجديرٌ بالذكر أنّ ثمّة أكثر من ثلاثة ملايين مشترك سعوديّ في تويتر يمثلون 12 % من السكان، 45 % منهم نساء. زبناءً على تحقيق استقصائي لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، فالأمر لا يتطلب أكثر من 200 دولار لشركةٍ في المملكة العربية السعودية من أجل أن تضع تريندًا وهميًا لبضع ساعات وذلك باستخدام الحسابات الوهمية المبرمجة.
تعتمد كيفية ارتباط الفرد بالسلطة على إدراكه لها وتوقعاته بشأنها. فعندما يتمّ تعليمه في الطفولة احترام سلطةٍ ما، يعمل عقله، الواعي واللاوعي، على تهيئة النفس للاستجابة لتلك السلطة بشكلٍ مناسب
وعلى الرغم من السيطرة الواضحة والجلية للمؤسسات الحكومية على تويتر، إلا أنه يشكّل عامل قلقٍ لها وللمؤسسة الدينية في نفس الآن. فقد قام مفتي الدولة أكثر من مرة بنقده ومهاجمته في أحاديثه وخطب الجمعة تبعًا لحملات انتقاد الحكومة ووليّ الأمر، إذ وصفه مرةً بأنه “مجلس للمهرجين والتغريدات الكاذبة”.
الصمت في السعودية كنتاجٍ لعقود طويلة
استندت الدولة السعودية منذ قيامها، وتحديدًا منذ تحالفها مع محمد بن عبدالوهاب ونشوء الوهابية، على الشرعية والسلطة الدينية التي تتبع بدورها للسلطة السياسية وتنال شرعيتها منها. وفي الوقت نفسه، تلقى السلطة السياسية دعمًا واسعًا وترسيخًا قويًّا من السلطية الدينية بدعوتها لطاعة وليّ الأمر ولزوم اتّباعه. حتى أنّ التداخل بين السلطتين كان قويًّا وواضحًا حين قام مفتي المملكة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ بإصدار فتوى بخلع الملك سعود وخلافة شقيقه فيصل مكانه إبان نشوء الصراع بينهما.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ سنواتٍ طويلة من التربية الوهابية برعاية السلطة السياسية قد استطاعت إنتاج وعيٍ جمعيّ يعمل على الاتّباع والرضوخ ويفضّل الصمت على الاحتجاج والمجابهة. فممّا لا شكّ فيه أنّ الصمت في وجه الحكومات الذي نلحظه الآن هو نتيجة سنوات طويلة من التربية المتأصّلة في البيت والمدرسة والجامعة والمعاهد التربوية والمؤسسات الحكومية والدينية، والتي تعمل جميعها، بشكلٍ أو بآخر، على تعليم الفرد أنّه خُلق ليتبع القوانين والأحكام، ومظاهر الاتّباع هذه يجسّدها شخص الأب في الأسرة على سبيل المثال، والشيخ في المسجد، والمعلّم في المدرسة، والقائد في الحزب السياسي، وصاحب الشركة ومدير العمل، وحاكم الدولة.
عاملٌ آخر مهمّ، وهو تحكّم رموز السلطة في الاستقرار الاقتصاديّ للفرد، ما يدفعه إلى تجنّب أي احتماليّة للاحتجاج والاعتراض والتعبير عن الرأي خشية فقدان الوظيفة ومصدر المال
إذ تعتمد كيفية ارتباط الفرد بالسلطة على إدراكه لها وتوقعاته بشأنها. فعندما يتمّ تعليمه في الطفولة احترام سلطةٍ ما، يعمل عقله، الواعي واللاوعي، على تهيئة النفس للاستجابة لتلك السلطة بشكلٍ مناسب. ومع السنوات، تتحوّل السلطة من شكلٍ لأخر وتتغير ملامحها ومؤدّيها، غير أنّ الثابت الوحيد هي استجابة الفرد لها. والنتيجة هي الخوف اللاواعي الذي يخلقه العقل ببطء تجاه القيام بشيءٍ لا توافق عليه السلطة أو حتى التعبير عنه، إلى أنْ يمتزج الخوف بالقلق أو حتى الشعور بالذنب في حال انتهاك بعض المعايير الاجتماعية أو السياسية أو المؤسساتية.
وقد بُنيت السعودية منذ البداية على منظومةٍ مشددة من القوانين والقواعد الاجتماعية والدينية والقيمية والأخلاقية، ولعلّها الدولة العربية الوحيدة التي أوجدت “شرطةً دينية” هدفها المحافظة على “النسق الأخلاقي والقيميّ” في الدولة. وعلى مدى عشرات السنين الماضية، صاغت المؤسسات الدينية الرسمية خطوطًا عريضة لحياة المجتمع السعوديّ، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من عاداته وتقاليده وقيمه وثقافته المرسومة تحت بنود الطاعة والاتّباع.
فيصبح الفرد تحت نزعةٍ الصمت والاتباع المحكومة بثقافةٍ متأصلة بُنيت على مقاومة الجديد وتقديس السائد، إضافةً إلى وجود التأويلات الفقهية التي تعمل على تبجيل الحاكم وتبالغ في مبدأ السمع والطاعة له من قبل الرعية والأتباع، وتواجه كل تمرد يستفز ركائز وجودها واستدامتها بالاستقطاب أو التسفيه أو الطرد من المجموعة إذا اقتضى الحال.
رياح التغيير لن تأخذ مسارها طالما لم تبدأ بالمؤسسة الدينية التي تقف عقبةً في وجه التغيير والتنمية
عاملٌ آخر مهمّ، وهو تحكّم رموز السلطة في الاستقرار الاقتصاديّ للفرد، ما يدفعه إلى تجنّب أي احتماليّة للاحتجاج والاعتراض والتعبير عن الرأي خشية فقدان الوظيفة ومصدر المال، لا سيّما وأنّ سلطة الطبقة الحاكمة والمتمثّلة بالملك، لا تقتصر سيطرتها على الجوانب السياسية والعسكرية والخارجية وحسب، بل وتمتد إلى التجارة والاقتصاد، ويضرب نفوذه إلى أعماق كبرى الشركات في المملكة ويتحكّم بإدراتها، ما يعني بكلماتٍ أخرى، تحكّمه وسيطرته على قطاع الوظائف والاستقرار المادّي والاقتصادي.
بالنهاية، قد تكون هذه التحليلات والأسباب مرجعًا رئيسيًّا يمكن الرجوع إليه لقراءة الواقع السعوديّ بما يحدث فيه من وقائع وأحداث، لكنّ الأهمّ من هذا كلّه هو سؤالنا عن ماذا بعد، ماذا سينتج عن كلّ هذا الصمت والتخاذل، وكيف يمكن لشعبٍ كاملٍ تغيير مسارٍ رسمته له السلطة السياسية والدينية فخضع لها وأصبح جزءًا من منظومتها وصيرورتها؟ وما الذي يمكن له بعد كلّ هذه السنين أنْ يخرج الفرد من قيد التبعية والكفر بكلّ أشكال السلطة، سواء الأسرية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية؟
وممّا لا شكّ فيه، على اختلاف الإجابات والتوقعات، إلا انّ رياح التغيير لن تأخذ مسارها طالما لم تبدأ بالمؤسسة الدينية التي تقف عقبةً في وجه التغيير والتنمية، إضافةً إلى إحداث تغييرٍ وتعديلات في مؤسسة الأسرة المالكة التي تتبع نفس النهج منذ سنوات، أمّا ثالثًا فهناك المؤسسة الاقتصادية التي تحتكر المال العام فقط بين الأمراء وكِبار التجار، وتترك بقية الشعب تابعًا لهما محكومًا بديمومتهما وبقائهما.